روايات وقصص، استمتع بأفضل روايات الرومانسية وروايات الرعب وروايات التاريخ في موقع واحد.

روايات وقصص، استمتع بأفضل روايات الرومانسية والرعب والتاريخ والخيال العلمي والبوليسية في موقع واحد،

عشرات القصص المثيرة والحكايات في انتظارك.

2024/11/30

جريمة في الميناء

             الفصل الأول: جريمة في الميناء

قلبي يرتعش، وجفني شاحب، ذلك أن ما عايشته فوق احتمالي.. 

من أين أبدأ القصة والخطوط في نفسي مبعثرة؟ حسناً، إنني حمال، من أولئك الذين يعملون ويعيشون في منطقة حمالين الجمرك التي أقامها الإنجليز، البيوت هنا ذات معمار بريطاني قديم : من طابقين، يعلوها مثلثات هرمية من الطوب الأحمر لمنع تراكم المطر، ولكن من يسكنون في الحي هم من المصريين والإنجليز سوياً،.. المصريون الذين يعملون في أعمال التحميل والتعتيق، والإنجليز الذين جعلوا من هذا الحي القريب من أسوار الميناء سكنى لطيف لهم، لا يمكن القول أن مزيجاً كهذا قد يستمر بلا مشكلات، لأن شعور المصريين إزاء الإنجليز، المحتلين، مشتعل، ونظرة الإنجليز لعموم المصريين لا تخلو من استعلاء، مساحة الحي البالغة عشرة أفدنة لا يمكن أن تخفي هذا الدخان الكامن أبداً.

خلال إقامتي في حي الحمالين هذا حاولت طاقتي أن أتحاشى الحديث في المسائل السياسية، عود ثقاب واحد قد يشعل فتنة كبيرة، ولكن يبدو أن مصير الإنسان أقوى من اختياره، أحياناً، بالأمس سمعت السيدة كاترينا تتحدث عن الفيلق المصري الذي شارك في الحرب الكبرى، كانت تقول :"نصف مليون مصري ساعدوا الإنجليز في الحرب.."، ابتسمت، لم ألتقط الطعم، ولن ألتقطه، لن أتحدث في هذه المسائل، عملي بسيط، أنا رجل بسيط، وليت الحياة تعاملني كما أرى نفسي،.. عرفت من الإنجليز نفراً كثر، بعضهم جاء هنا للتنزه، مراقبة البحر المتوسط والاستمتاع بالطبيعة الخلابة وطيور النَّوْرَس، وبعضهم جاء لمتابعة أعماله في الميناء، وفريق ثالث يأتي بحثاً عن الغراميات والاحتفالات في اللوكاندة الحمراء، من بين هؤلاء جميعاً فلاريب أن إيزابيل هي الأغرب.

 

إيزابيل عجوز إنجليزية صارمة، لها بيت قريب جداً من الميناء، لا يكاد يفصله عن البحر إلا هذا السور، وقد يبلغ الرذاذ المندفع مبلغاً يمس معه محيط هذا البيت، وهي ذكية فطنة، دون دبلوماسية، ولا بأس، وجهها ينضح برباطة الجأش، ولسانها يمر كالسكين، لكنها طيبة كطفل، اعتدت على زيارتها في الصبيحة، إنها تقف لتطعم طيور النَّوْرَس، ترمي بالحبوب، تنتظر هبوط المناقير المعقوفة للطيور الجميلة،.. ما هو الغريب في إيزابيل؟ هي تكره الإنجليز، إيزابيل إنجليزية ولكنها تكره حقيقة انتمائها إلى جماعة المستعمرين، ما سبب هذه الكراهية؟ لإيزابيل ولد واحد، اسمه آدم، لقد قُتل آدم في الحرب الكبرى، وهي تقول بأن تورط الإنجليز في الحرب هو من سبب لها هذه النكبة، ومع حقيقة أن للأشياء أبعاداً أعمق دائماً، فالذي أشعل الحرب هو منطق القوة، التوسع بالبطش، العنصرية.. إلخ لكن من الصعب رؤية الأمور جيداً إذا فقدت نجلاً لكَ في حرب، ربما، تقولون، ليس إلى هذه الدرجة، ولكن هذه الفواجع الكبيرة يجب أن يمر بها المرء ليقدرها جيداً.

 

  اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات

لا تصادق إيزابيل إنجليزياً واحداً في الحي، حتى كاترينا، الإنجليزية اللطيفة، تكرهها، هذه شواهد لها مغازٍ، وقد حرت في تفسيرها، وكنت أسأل نفسي دائماً : لماذا تفضل المرأة صداقتي دون صداقة قومها؟ إنني مصري، وليس بين الإنجليز والمصريين ود، إنجليزيتي ضعيفة، وحتى أنني بالكاد أميز حديثها،.. من الغريب أنني حاولت مراراً التخفيف من وطأة هذه الكراهية المستعرة في نفسها، كنت أقول بأن من أشعل الحرب هو اغتيال الأرشيدوق النمساوي، ولكن المرأة تصر على أن منطق البطش والاستعمار والقومية المتأججة " الشوفينية"، الذي تسير عليه الدول الحديثة هو السبب، إنها لا تكره انجلترا وحدها، ولكنها تكره جميع المشاركين في "مهزلة الحرب" بوصفها، هؤلاء جميعاً كانوا سبباً في فقدانها لآدم، إنها ترى صورته في أحلامها، يأتيها في هيئة نوارنية، يرحل فجأة كما ظهر، قلبها ينفطر لرؤيته، سمعت من يقول بأن الأحلام ترجمة للاوعي، هذه الهواجس التي تتحاشى التفكير فيها في يقظتك تظهر في هذه المنامات العابرة.

 

اليوم لم يكن كالأيام الفائتة، حين اقتربت من دارها لم أجد المرأة التي اعتدت على رؤيتها، فكرت في الانتظار، كانت طيور النَّوْرَس تنتظر الحبوب التي تلقي بها المرأة لهم، الباب نصف مفتوح، دلفت إليه متردداً، كنت أنتوي البحث عن كيس الحبوب لا أكثر، كانت هذه لحظة لم أفكر في تبعاتها كثيراً، اللعنة! لمَّ لم أتريث؟ التفكير آفة، ولكن التصرف بلا تفكير آفة أكبر منه، كانت إيزابيل نائمة على سريرها، السرير مصنوع من خشب الزان، وله قوائم حديدية، وجه إيزابيل جد مستغرق في النوم، لعلها ترى آدم في منامها، من يدري؟ فمها نصف مفتوح، إلى جوارها كتيب لنيتشه، وورقة دونت فيها بضع ملاحظات، إنها تكره نيتشه كما تكره الإنجليز، لأنه فيلسوف القوة، الذي آمن بالأخلاق السائدة، وليس بسيادة الأخلاق، كما دونت هذا في ملاحظتها،.. تقلبت المرأة في سريرها، تملك جسداً نحيلاً، جديراً بعجوز، شفتاها سوداوتان من أثر التدخين، ابتعدت خطوة أو اثنتين، شممت رائحة عطنة، لدي حاسة شم قوية جداً، في الميناء يستدعونني حين يريدون التحقق من محتوى البضائع دون فتحها، اقترب من الصندوق بأنفي لأقول هذه كذا وكذا، ولكن هذه قصة أخرى،.. ساقني الفضول إلى تتبع الرائحة، لم يكن فضول المغامرة، لكنه فضول الخوف، كنت خائفاً، لدي حدس بأنني أقترب من كارثة، ولكن إرادة الإنسان تسوقه كما يسوقها، تباً،.. غادرت حجرة إيزابيل، كان غطيطها يضعف بابتعادي منها، ما مبعث هذه الرائحة؟ اللعنة! كدت أختنق، فتحت النافذة فهبت رياح خفيفة جاءتني على جناح البحر،   تنهدت وتحركت قدمي اليسرى تجاوباً، مهلاً، إنني أطأ سطحاً خشبياً، البيت كله من الطوب الأحمر، فماذا تحت هذا السطح الغريب؟ بدا لي أن ما ظننته سطحاً لم يكن إلا لوحاً خشبياً، لقد دفعت اللوح في هدوء، لم أشأ أن أوقظ إيزابيل، بمجرد أن دفعت اللوح حتى صارت الرائحة أقوى من أي وقت مضى، انفتح باب سحري، لهذه الأمور هالةُ من الرهبة، هبطت على سلم بدا لي في عتمة ما تحت الأرض، عند نهاية الهبوط تبين أنني وطأت جثة أحدهم، ثمة عشرات الجثث هنا، رباه! ما هذا الجنون؟  

 اقرأ أيضاً : 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق