U3F1ZWV6ZTQ2MTMzMDkyMjMyOTgxX0ZyZWUyOTEwNDc0Mzc0ODg0Mg==

سطور عن الحياة في باريس

          الفصل الخامس والعشرون: سطور عن الحياة في باريس



تتابعت على هشام وسوسن أيام من السرور في أعقاب زواجههما، كانت سوسن قد أرادت لشهر العسل موقعاً في عاصمة أوروبية وجعلت لمطمحها خيارات خمسة :"  باريس، باكو، براتيسلافا، براج، بروكسيل.."، غير أن الزوج المنشغل بأعماله استعاض عن الفكرة بنزهات بالإسكندرية، لقد ازدحم جدوله بعد قرض مالي مجزٍ حازه من منصف الدمرداش، كان الزوجان يركبان قطار الملاهي الطائر حين قالت سوسن له :

- أردت للـ honeymoon (شهر العسل) موقعاً في أوروبا، وانتهي بي المطاف في قطار الموت بالإسكندرية،.. انظر كيف تخسف الأقدار بأمنيات المرء.

وقال لها يخفي خوفه :

- الإسكندرية ليست أقل من أي مدينة أوروبية.

- أنت تبالغ كثيراً.

واستوثق من حزام الأمان الميكانيكي فيما كانت السفينة تتأرجح عبر الهواء، وأشار إلى زوجه بالتأكد من ربطه فلم تلقِ المرأة - التي كانت قد ضجرت بحضورها - له بالاً، كانت أصوات الراكبين تعلو بصياح الرهبة والفزع، يتخفى المرح في ثوب مروع، وتتسرب الإثارة بدافع هرمون الأدرينالين،.. وفي الزمان عينه كانت مريم تحاول أن تعالج ما خلّفه زواج الأب من أثر في نفسها، تقول لنعيم في زيارته الثانية وهما من أمام حوض الأسماك :

- لقد تزوج أبي بامرأة أخرى،.. انفرط شمل الأسرة، وإلى غير رجعة !

وكان نعيم يتطلع إلى سمكتين من السوردتيل (سمكة الذيل السيفي) وهما يتقاربان، يقول :

- معذرة،.. تبدو هاتين السمكتين قريبتي الشبه بأبيك وزوجه.. انظري كيف يثير تقاربهما ارتياب البقية.

وقالت في سخرية :

- سأمنع عنهما الطعام إذاً..

ولم تكد مريم تتم كلمتها حتى انفجر حوض الأسماك، وأصيب الشابان بذعر كبير،.. حضرت صابرين فكان نعيم يقول للأم بعد استيعاب الأمر:

- إلهي ! كنا نفسد خلوة السوردتيل بتعليقاتنا، وبغتة، بووووم ! ابتلت البسط والثياب، لقد هوينا، أنا ومريم، كقشتين في وجه مد جارف، إنه أمر مخيف حتى لقد يخيل للمرء أن دبابة في المنزل ستكون أقل منه دراماتيكية، أعرف هذا الشعور، لقد سبق أن تكسر حوض أسماك حين كنت صغيراً، وقد منيت يومئذٍ بما هو أسوأ من الضرر،.. أبدو سيِّئ الحظ حين يتعلق الأمر بأسماك الزينة !

وتساءلت صابرين عن السبب وراء انفجار الحوض - بعد أن أنقذت ما ما وسعته طاقتها من الأسماك فهبطت بحياتهم المائية إلى كروانة من بلاستيك يملأها الماء إلى المنتصف - وهي تعانق ابنتها التي بدت على حال من الهلع والبرد، تطمئنها من سبيل أن تمسح على شعرها المبلل، وتحيط جسدها المرتعش بمنشفة كبيرة - تساءلت :

- ولأي سبب انفجر الحوض؟

وأجاب نعيم في لهجة من يعرف الجواب :

- لعل حامل الحوض لم يكن مستوياً، يحدث هذا بسبب سوء التصنيع أيضاً، فلربما لم يكن الزجاج، زجاج الحوض، سميكاً بما يكفي !

وكانت صابرين تقول، محملة زوجها السابق وزر ما حدث :

- لقد اشتراه هشام من بائع رديء إذن.

تزامن انفجار حوض الأسماك بتأرجح قطار الموت الطائر، فكأنما كان توافقاً دارمياً قدرياً، انقلبت طقس الترفيه إلى محنة كاملة، واستحال التظاهر بالخوف إلى خوف حقيقي، كانت سوسن التي لا تلبس حزام الأمان قد جرفتها قوة القطار المندفع، تشبثت المرأة ما وسعها بالعربة المجنونة على المسار المتعرج فيما حاول هشام أن يمد لها يد العون، لقد جرفته القوة نفسها، هوى الزوجان لدى هبوط القطار، وأصيبا بأضرار بالغة في موضع الرأس وفي غيره واحتجزا، سرت الأنباء وجاءت صابرين بباقة من زهور السوسن والزئبق والورود لزوجها السابق في ليل اليوم الأسيف - جاءت تعزيه، كانت الشمس قد توارت بالحجاب، خمدت الأشياء وأنهكت، وجلست صامتة، سألها :

- لماذا لا تتحدثين؟

- ....

وعقلت هيئته لسانها، كان الرجل رابضاً على سرير تحيط به الأجهزة الطبية وقد أحاط الشاش بمواضع كثر من جسده، وقال :

- يخيل لي أن ما حدث كان انتقام السماء، أجل،.. تسببت في أذى نزل بالخواجة الإنجليزي، لقد خدعته خداعاً مراً، إني أبوء بهذا الأمر، وآمل أن يهدم الاعتراف الاقتراف،.. أنتِ أيضاً، مريم وعز، تركتكم جميعاً حين تزوجت بسوسن نهباً للمجهول، استمهلني القدر حتى جعل انتقامه في أهون الأمور! تحتاج الأشياء إلى شهور وسنين كيما تنبني وتشاد ولكنها قد تنهار بغتة.

وحاولت صابرين التدخل :

- لا دخل للقدر بما تقول، لا يجب أن تسرف كثيراً في نقد الذات قبل أن يكتمل شفاؤك، إن الأفعوانيات خطرة، إن هذا غاية ما في الأمر،.. انظر إلى هاته الورود، ثمة زهور الزئبق والسوسن،..

وانتبه الرجل إلى كلمة "السوسن" فقال :

- مسكينة سوسن،.. لقد دفعت جزاء ما اقترفته، حملتها الأقدار أوزاراً لم تصنعها.

وبدا كأنما هو في جلسة اعتراف يصارح كاهناً في غرفة مصالحة بخطاياه، فلا يكاد يخلص من اعتراف حتى ينغمس في غيره، كانت صابرين يجللها ما تسمعه على حين تجتهد في أن تجد لزوجها منفذاً يروح عنه،.. ونهضت تقف لدى باب الحجرة فأشارت إلى عز تستحثه على الولوج إلى غرفة أبيه المصاب، ودلف الصبي إلى الداخل فقصد إلى تقبيل أبيه، ولكنه حين مال إلى وجنته ضغط بجسده الصغير على كتفه فجعل الرجل يصرخ ألماً،.. قال هشام بعد أن حمد للصبي تحمسه، في حين يبعده :

- وأين مريم ؟!

كانت مريم تودع نعيم الذي جعل يرتعش لابتلال ثيابه طوال سبيلهما المشترك إلى لوران، تودعه غير واعية بما نزل بأبيها من محنة السقوط، كان سبيلاً تنهض على جانبيه أعمدة إنارة برؤوس منيرة كثمار أشجار متوهجة، وقال نعيم :

- لقد أفسد انفجار الحوض زيارتي لكم.

وابتسمت تقول :

- في الحق، كان هذا أفضل ما في اليوم، لقد خلق إثارة طريفة.

ولاحظت أن الفتى لا يتجاوب مع حديثها تجاوباً جديراً بلهجتها المستبشرة، وطأطأ نعيم رأسه في مشهد المباني والعمران، ولاح والد الشاب قرب درج الفيلا البيضاء، في لون الثلج، فسألته عما هنالك، وقال :

- إنه (يريد أباه) يقول بأنه سيترك البلاد كي يجد فرصة أفضل، يمتهن طب الأسنان واسمه طه، وعدني بأن يزور الإسكندرية في مواسم الصيف، إنه يحب برودة الطقس هنا، ويحب المدينة أيضاً،.. ولكنه يروم تحسين دخله ومستوى الأسرة، ظروف العمل هنا ضاغطة وشحيحة، قد نبدو قوماً موفورين غير أن أبي يتطلع على الدوام إلى ما هو أفضل!

وقالت وقد طفرت عيناها بدمعة :

- سأنتظرك في مواسم الصيف إذاً.

واستدارت عنه تخفي أسفها، وسمعته يقول في شغب بينما يهرع إلى الأب الذي أخذ يناديه :

- سأحاول أن أقنعه بالبقاء، سأبذل المستحيل في سبيل هذا،.. وإلا فلتكن الفصول كلها صيفاً.

وابتسمت بينما لا تزال تنساب هاته الدمعة، فكأنما احتوى الوجه على المتناقضين، وكفكفت أدمعها، واستدارت بعد سير، كان الشاب ووالده لايزالان يلوحان لها من مبعدة فلوحت للاثنين ومضت، عادت مريم إلى الجناح الفندقي وهناك عرفت بما وقع لأبيها، قالت لها صابرين :

- إن قطار الموت لم يكن اسماً مجازياً اليوم،.. ومهما يكن،.. نحتاج إلى مضاعفة عملنا، الترجمة، لقد تخلى منصف الدمرداش عن زوج ابنته في محنته، وسنضطر إلى دفع نفقات العلاج وحدنا،.. ستتعلمين الإيطالية، مثلي، سأدير ثروة هشام ريثما يسترد عافيته، لقد عهد إليَّ بالأمر !

وكانت مريم تهمس : "إن هذا وفاء لمن لم يعرف الوفاء.."، وقضت الفتاة أشهراً في تعلم الإيطالية، بدأتها في غير حماس ثم انتهى بها المطاف - مضطرة إلى أن تسلكه - إلى بعض شغف، وفقهت الأبجدية والقواعد والمبادئ الرئيسة، تقف صابرين أمام ابنتها تقول : "تتكون الأبجدية الإيطالية من 21 حرفاً.. وتشتمل على أحرف متحركة خمسة، لهم جميعاً قيمتان صوتيتان، تماماً كالإنجليزية.. إن الترجمة لون من التأويل ولابد أن تنطوي على درجة من خيانة النص.."، فتتذكر الأم عهد ترددها على كلية الآداب واشتغالها بالتدريس هناك، كيف كان الأمل جارفاً بغير أفق، وكيف كانت التطلعات في علو السماء، والآن، الآن انحصر أملها في ترجمة الأوراق،.. كانت أولى الجمل التي كتبتها مريم باللغة الجديدة :

- Amo Naim (أنا أحب نعيم) !

وانصرفت صابرين إلى تدبير ثروة هشام، كان الرجل العليل قد أوعز إليها بمهمة أن تجد الخواجة رجب كيما ترد إليه بعضاً من حقه المسلوب، ثم أن تبذل من طاقتها المستحيل في هذا السبيل، فما كان منها إلا أن ركزت على مطمحها بالمال والرجال.. كان إيجاد الخواجة تكفيراً وحيداً عن خطيئة أورثت الزوج العلة والسقم، قرباناً إلى السماء الغاضبة، يملك الخواجة - ولو كان شائناً كارهاً للرجل - مفاتيح الرضاء عنه، هكذا استقر الأمر في قناعة الجميع،.. وطال بحثها في جمعيات المشردين واللاجئين بلندن بغير جدوى فكأنما ابتلع ضباب المدينة جسده، وغطى على أثره وسيرته.. هل مات؟ أين انتهت سيرته؟! ست سنوات قد مضت بعد الخديعة الكبرى التي تعرض لها، إنها - إلى ذاك - القشة التي قسمت ظهر العلاقة المضطربة القلقة بين الزوجين، وكشفت حقيقة ظلت تنكرها المرأة لسنوات وسنوات،.. تتذكر كيف كان شغفه (الخواجة) بالبسكويت طفولياً وهزلياً، فليظهر الساعة كي يحوز ما يريد منه، كي يغسل هذا الوزر، كي تستقيم الدنيا المبعثرة، فليظهر كيما تركن الضمائر إلى لحظة سكون،.. وأرهقها البحث من أمرها عسراً، عرجت الأم على حجرة مريم فكانت الفتاة نائمة بين الأوراق، وانتبهت إلى الجملة الآتية : "Amo Naim !"، فالتفتت إليها الأم بعض التفات، تفكر: "من الجدير أن تعرف الفتاة الحب، لا بأس..."، وارتدت مريم يقظانة العينين حين سمعت لتفقيع (صوت) ورق، فنشطت حاستها، وسألتها الأم:

- هل تحبين نعمياً؟

وأتبعت سؤالها بأن نطقت ما كتبته الفتاة في لكنة سليمة كانت تعلمتها من الإيطاليين المتواجدين بالإسكندرية، قالت مريم :

- إنها محض كتابة، حبر على ورق..

وقالت الأم :

- لا أصدق هذا، كاد الشاب يغامر بنفسه حين انفجر الحوض، لقد كان أحرص على سلامتك من نفسهِ، أبصرت في لهفتِه محبتَه لكِ..

- فلتطفئِ الأنوار..

تركت الأم ابنتها للظلام بين الأوراق وفي صبيحة الغد جاءها الخبر اليقين، دلها رجل إنجليزي على موقع الخواجة فحفلت بشغف وسرور، لقد غالى الرجل في طلب المقابل لكن صابرين لم تفاوضه، وقصدت إلى حجرة الزوج تظهره على الحقيقة التي انتظرها حولاً من موقع الطالب للغفران، ألفت عدداً من الرجال لا تعرف منهم أحداً - ما خلا منصف الدمرداش - في وجوم عظيم، قالت :

- اربعوا (أرفقوا) على أنفسكم، كان هذا الحدث على دراميته مهماً، يحترق العود كي يبث رائحة تزكي الأنوف، الحكمة خافية حتى في مواطن الأرزاء والمصائب !

وجلست إلى كرسي قرب زوجها القديم تقول في حماسة :

- لقد وجدت الخواجة رجب،.. لدي حدس بأن الأمور الطبية هنا ستتحسن حين نرد إليه جزءاً من حقه.

ولم تسلمها حماستها إلا لمزيد من هذا الوجوم الخانق المريب، قال هشام:
- لقد توفيت سوسن !

وهناك جعل منصف الدمرداش يبكي ويبكي، وأسبلت أدمعه كَفَضّ الجَمان.

78

أنجب مراد من نرمين ولداً اسمه رَؤُوف، تخلت نرمين عن عملها نهائياً، بعد زواجها، كانت نرمين زوجاً ثانياً لمراد بعد حسنية، وقد ألفى مراد نفسه مضطراً إلى زواجه الأول بدافع الحاجة والطلب على حين اندفع إلى الثاني بشعور الإشفاق والعطف،.. مرت الأيام فاترة بلا حرارة، لم يحفل معاش الزوجين بود حقيقي، ويقر في ذهن الشاب - بعد تجربتي زواجه - حقيقة أن الحب لا يتولد بطول العشرة، كما يتردد، ذلك أن ناراً لا تشتعل أبداً، في بيئة ممطرة، مهما تكرر احتكاك الحجر،.. يمتلأ البيت، بيت مراد بأخوة نرمين الخمسة، يذوقون اللحم لأول مرة بعد غياب، يتحلق الخمسة مائدة الطعام كالأقزام، ويتساءل مراد حين يبصر نهمهم حول ما يمكن أن يفضي إليه العطف من مآزق الحياة،.. في الحانوت، تحاول أميرة أن تتفادى الحديث إلى مراد إذ أن قلبها لم يعرف بعد صفحاً عما وقع، يتحدث الرجلان عن حرب اليمن، الخسائر البشرية، يثق مراد في عبد الناصر كثيراً ثقة تتولد من حاجته، لقد رأى المعجزة في يوليو، حين انقلب الهرم الاجتماعي أو كاد، وسوف ينزه من أعاد إليه الأمل من أيما شبهة أو خطأ،.. يحتفظ عبد الغني لنفسه بمسافة من الأوضاع القائمة، ويصفها بالمغامرة التي لن تأتي أؤكلها، يقول خافضاً نبرته:

- إذا كانت الخمسينييات هي سنوات إنجاز الثورة، كما يقال،.. فالستينيات ستكون سنوات إخفاقها، أعرف هذا، تبدو بعض الأشياء واضحة قبل تتمتها،.. لا تخطئ فهمي إذ ليس بي أقل شوق إلى الملكية، لقد مات أبي بين يدي نتاج التخلف الطبي في أبي تيج، وعلى عهد سليل الأسرة العلوية نفسها التي قامت عليها الثورة : فاروق،..  ولكن،.. لا معارضة في بلادنا اليوم إلا مقالاً يتيماً لكاتب من المتعذر ألا تنسبه إلى يوليو،.. أنى للسير أن يستقيم إذا هو بغير مكابح؟!

وكان يشير إلى مقال "بصراحة" الأسبوعي لـ"هيكل" بصحيفة الأهرام، تحاول نرمين أن تشغل نفسها بترتيب الحانوت كي لا تنغمس في حديث الحرب، كي تعتزل مراد الذي أضحت لا تحبه،.. إنها ترش الماء هنا وهناك، يصفها عبد الغني بالمغالية فيذكرها بحقيقة الماء الذي يزيد الرطوبة في مدينة تطل على بحر، ولا يفهم المغزى الذي ترمي إليه،.. وانتقل الحديث إلى السينما قال عبد الغني :

- السينما هي ما يجب تجربته في أجواء الكساد التجاري،..

وقال مراد :

- أجل،.. فيلم : آه من حواء..! لقد أبلى رشدي أباظا بلاءً حسناً أمام لبنى عبد العزيز، هكذا يقولون وتكتب الصحف.

وتدخلت أميرة - كأنما لم تتمالك نفسها - تقول :

- آه ! انظروا كيف تلوى الحقائق في غير رحمة،.. كان يجب أن يسمى : "آه.. من آدم !"، الحقيقة أن آدم هو سبب كل المشكلات،..

وقال عبد الغني :

- هونا على نفسيكما، لا آدم ولا حواء، الإنسان بصلفه هو سبب المشكلات !

وجلست أميرة قرب أبيها تقول :

- الرجال قد يعدون المرأة بوعود جمة تتبخر لدى أول اختبار،.. النساء معروفات بالطيبة والسذاجة.

وقال مراد وقد فطن إلى ما تروم الإشارة إليه :

- إن المشكل مشكل من يصدق في قول العرافات، ويجعل من حياته رهينة للغيب..

وقال عبد الغني مقاطعاً سجال الاثنين :

- وكيف حال رؤوف؟

- بخير، لقد بدأ الصغير في النطق ومعرفة الأشياء، لولا أنه يبكي في مرات بسبب إزعاج الأخوة الخمسة له (أخوة نرمين)، إنهم وحوش كاسرة لا تأنس بطونهم إلا للحوم رغم صغرهم.

وهناك دلفت هدى تقول، بعد أن أثنت على فستان أميرة وقبلتها :

- من أسف كيف اختفى أباظة تاركاً الفلاحات نهباً لمصيرهن !

وقال مراد في سخرية :

- لم يختفِ، إنه يقوم بدور في الفيلم.

- لا أقصد الممثل..

وسرت جلبة عظيمة فخرجت هدى تستشرف حقيقة الأمر، وألفت حشداً كالموكب من الفلاحات والأهالي يحطن بالضابط العائد من إجازته، كان الطقس حزيناً، وكان مرور الموكب فيه يدفن الأحزان في أسحاق المغيب، ويبعث على استبشار، وجعل الرجل يمضي إلى بيته في مسار اتخذه من كرموز إلى عمود السواري فالورديان، يطوقه هذا الحشد ويسألونه :

- وكيف أخبار حرب اليمن؟

يحاول الرجل التهرب من الجواب فيجنح للعام من الردود بغير تفصيل، هذه التي لا تبل الريق ولا تشفي الصدور، وينبثق السؤال نفسه على ألف لسان،.. وكيف عساه أن يجيب إذ هو نفسه يجهل حقيقة ما يدور، هناك، في متاهات الجبال؟ وود لو تنكر كأنما هو الإله بروتوس في الميثولوجيا الذي وهب قدرة على التنبؤ فكان يرفض الكلام أو يغير من شكله خلاصاً من السائلين، هذا والمحيطون به يسألونه ولا يكفون :

- وماذا عن جاسر؟!

ويجيب :

- إن هذا أمره هين، بإذن الله، أريد أن أبدل ملابسي أولاً !

واقتربت هدى من العائد تريد أن تبدي له شيئاً من السرور برجوعه، خاطبة وده،.. لكن الحشد المتحمس ظل يمضي لا يبالي برغبة المرأة، إنه يمضي جارفاً الضابط إلى بيته بالورديان، كزورق النجاة يتكالب عليه الغرقى فيما تجرفه تيارات محيط، عادت هدى إلى الحانوت فأخبرت برحيل أميرة عنه، كانت الفتاة قد ضاقت ذرعاً بحديث مراد عن ابنه رؤوف وعن زوجه نرمين، قال عبد الغني لها :

- لقد بدا أنها تريد أن تتجول في ربوع المدينة بعيداً من هنا، ولم أشأ أن أصدها.

وساقتها الخطى (أميرة) إلى المساكن الحمراء، هذه التي تربض إلى جوار كرموز الحافلة بصخب وضجة الحياة، ووقر في نفسها الإبهار لأول وهلة، تمتاز المساكن بطابع إنجليزي يتحدى الزحف العمراني في هدوء، وألفت الفتاة عجوزاً هناك، كانت العجوز ذات جدائل رمادية وامتلأ وجهها بغضون الكبر، وأما الأسنان فخربة، وقالت لها :

- تبدين جوعى، هاك هذه..

وأهدتها العجوز كسرة من خبز، ثم أتبعت تقول :

- سأعرفك على زوجي، صالح، إنه متواضع كالعشب، ويحب أن يكون مرشداً للغرباء.

وقنعت الفتاة بسلامة وصف العجوز متأثرة بما أهدته لها من نعمة فوهبت لصالح أذنيها، يقول :

- تدعى المساكن الحمراء ! وصفت بهذا الاسم  بسبب الطوب الأحمر الذي يزين واجهات المباني هنا، يقولون إنها مساكن العمال التي بناها الإنجليز في تسعينيات القرن التاسع عشر ! ولا يعرف أحدُ الحقيقة.

كانت أميرة تمضغ الخبز، خبز العجوز، فسرعان ما وعت حقيقة أن عفناً قد تسرب إليه، وبثقته تقول :

- إلهي ! كم هو كريه !

وقال لها صالح يبتسم :

- لا يمكن أن تكون المساكن الحمراء كريهة قط !

- لا إنها جميلة، جميلة جداً،.. بل الخبز.

ومضيا بين مباني مكونة من طابق أو طابقين اثنين مدة، يتكون الطابق الواحد من وحدة سكنية واحدة، إن لكل طابق مدخلاً منفصلاً على الشارع، ثمة فيلل تراثية من دورين يكسوها اللون الأحمر،.. مضيا في مسار من البشر - أكثرهم من العاملين بالسكة الحديد - حتى عادا إلى العجوز، قالت أميرة :  

- من الخير أن الزحام لم يزحف إلى هنا، البشر هنا لطيفون وغير متطلعين أو مزعجين.

وقالت العجوز :

- إننا قانعون بحياتنا، راضون عن وجودنا في هذا المكان الخاص، ولو كنا على هامش العمران..

وسألتها عن الخبز فألفت من الصغيرة حرجاً، ثم تطوعت تقول وهي تضحك :

- كان الخبز قد فسد، وأردتُ أن أعلمك ألا تقبلي من الغرباء شيئاً لا تعرفيه، من سبيل التجربة.

وحمدت الفتاة للعجوز حرصها عليها فيما كان المساء قد آن، وقالت وهي تتأهب للانصراف :

- معذرة، تبدين كالعرافات، إن هذا يحملني على سؤالكِ : هل لي أن أصدق في قولهن؟

وقالت العجوز تشير إلى موضع العقل فالفؤاد من جسدها دون أن تمس أياً منهما :

- صدقي ما استقام (العقل) في هذا، ثم وافقه ذاك (الفؤاد)، ستحصحص الحقيقة آجلاً أم عاجلاً ولو تشعبت في ألف سبيل..

أدركت أميرة أن الوقت قد تسرب في المساكن الحمراء، هرولت عائدة إلى كرموز في سكون الليل، سرعان ما انتقلت بها الهرولة إلى عدو سريع،.. الظلام ! الظلام في كل نحو ! ولكنها تمضي وتمضي واثقة في حاستها وشعورها بالمكان، وهناك اعترضها نفر من كلاب الحراسة، بدا أن الفتاة قد اقتربت من نطاق محظور بعد أن بدد الغبش معالم الأشياء في رؤيتها،.. كان القلق قد بلغ من هدى كل مبلغ لتأخر ابنتها عن العودة فجعلت تقطم أظافرها المطلاة باللون البرغندي (درجة من درجات اللون الأحمر)، صبت المرأة نقمتها على مراد لكونه السبب وراء ضجر الفتاة فرحيلها، ولاذت بأباظة وعبد الغني في بحثها عن ابنتها، وكانت تقول للرجلين اللذين جعلا يفتشان رفقتها عن الهدف الضائع :

- ستكون كارثة إذا لم تبت هذا الليل في بيتها، ألسنة الناس لن ترحمها وترحمنا.

جعلت أميرة تغالب موقفها الحرج بالتزام الوقوف، كان نباح كلاب الحراسة حولها متواتراً، حتى أول الفجر، وطال بها الوقوف بينهم حتىى غفت واستسملت للنوم تدريجياً، في فجر اليوم التالي كان عبد الغني قد سئم النداء والبحث فجلس قرب شجرة "فيكس"، وجلست هدى التي كانت على حال يرثى له - صحبته في ظل الشجرة المعمرة، لم يكف أبو جريشة عن البحث في خرائب ذاك البيت المتهدم قرب الاثنين، كانت هدى تقول لزوجها بينما تبصر حركة ظل الشجرة على الأرض تتفاعل مع نسمات الهواء :

- اللعنة على مراد مرتين !

- لا تحمليه وزراً لم يصنعه ! إنه يبحث عنها أيضاً ولكنه أراد أن ينفرد بنفسه كي تزيد فرصنا في إيجادها.

- أقسم أنه (أي مراد) يلهو الساعة هنا، أو هناك، أو يغط في نوم ! انظر للضابط وما يفعله..

وعاد أباظة مع بزوغ ضوء الفجر وانبلاج الصبح، يقول للأبوين كأنه أرخميدس بعد أن فك معضلة التاج :

- لقد وجدتها،.. لقد وجدتها !

كانت أميرة على حال غفلة وسط أربعة من كلاب "دوبر مان" النائمين بدورهم، واقتحم أباظة - بعد أن عاد ومعه الأبوان - المشهد المستقر، المريب مع هذا، فأطلق الرصاص !

**

 

تدارك يوسف حقيقة وفاة أبيه وعدّ انتقاماً يشارك فيه من غانم - عدّ هذا وفاءً له، كان يقول في نفسه بينما تضيق عيناه الزراقاوان :

- سأسقط هيبته في النفوس من سبيل السخرية، سيسقط من هذا الطريق وحده، لقد استهدفوا سمعة أبي قبل وفاته، والمعاملة بالمثل،..

ومضى في البنادر وفي المصاطب يبث الأهالي مزاحاً ينال من هيبة العمدة الجديد ووقاره، كانت عودة يوسف إلى السخرية - بعد انقطاع قرابة عقد عنها منذ يوليو - لحظة استعاد  فيها الشاب شغباً محبباً، وتقرب فيها إلى صورته المجردة من مسؤوليات جمة كانت قد استجدت،.. وجعل نوح يشارك يوسف تمرده من سبيل جاد، قنعت تسنيم بمشاركة الرجلين في مرادهما فطفقت تذيع ما يشير إليه نوح بصوت مسموع فيه عاطفة وصدق :

- أيها الناس ! كيف تأمنون غانماً على ريفكم وقد ألبسكم لباس الذل؟ كيف تأمنونه وقد امتلأت صحيفته بالمنكرات حتى لم تعد تحتمل مزيداً؟

واعترضه واحد من أنصار غانم يقول :

- بربك.. ألا يجدر بك أن تتعلم النطق أولاً؟!

وقالت تسنيم تدافع عن زوجها بقولها :

- الداعي إلى الحق أبلغ البلغاء ولو كان بلا لسان، وكاتم الحق أخرس ولو ملك الكلام كله !

وعاد نوح وتسنيم في نهاية اليوم الحافل فألفيا خمسة من الخفراء ببنادقهم يمنعونهما من الدخول إلى أرضيهما، كان الخفراء الخمسة يرفلون في زي بني يعتمرون قبعة طويلة بها هذا الخط الأحمر، وكان يوسف محتجزاً في أرض الفدادين الخمسة، ممنوعاً من الخروج.

في خضم هذا التحول كتبت عفاف رسالة إلى زوجها من باريس تقول :

 "عزيزي يوسف،..

شملتني رسائلك الأخيرة بعاطفة قوية، وقد ملأت قريحتي، مثلما شحذت عزيمتي على مراستلكِ،.. بوسعي القول أن المجتمع الفرنسي يمر - شأنه شأن البقية من أقطار المعمورة، الآن - بحراكِ ملفت بدأ في أعقاب انتهاء الحرب العالمية الثانية وبعد مؤتمر يالطا وتحرير باريس - ولم ينتهِ، حتى الساعة.. إنني ألمس هذا في نقاشاتي مع رجال المال والأعمال، ثم في حواراتي مع الفلاسفة والمفكرين، وقد قفزت إلى هناك من عالم الجمال والأزياء، فاستقبلني هؤلاء بترحاب كبير، يتجلى في أوقات يقبلون فيها يدي، وينصتون فيها لأسئلتي المهمة والساذجة،.. في الأدب ثمة "الرواية الفرنسية الجديدة"، أو كما يدعونها في إيجاز "الرواية الجديدة"، وفي المسرح تتوارى المدرسة السريالية على مهل، ويبرز مسرح العبث، وفي السياسة والفكر تحاول عديد من الأصوات في باريس وفي غيرها إيجاد بديل مستقل عن نموذجي الرأسمالية الطاحنة والشيوعية الشمولية، إنهم يسعون للبحث عن بديل ثالث يقطف المنفعة من الاتجاهين المتعارضين، إنها المحاولة المستمرة، والحركة الدؤوبة، في بعث عالم كان يرقد تحت الرماد بعد أن دمرت كبرى عواصمه : برلين، موسوكو، لندن، روما..

 

إنني أتابع  مجلة "الأزمنة الحديثة" أحد أشهر المجلات هنا طامحة أن أرى وجه الجمهورية الفرنسية الخامسة، ولا أخفي عليك سراً إذ إن علاقتي بالفلسفة محدودة، شأن الغالبية من النساء، ولكنني أصارحك بمحبتي لجان بول سارتر مؤسس المجلة،.. وقد حفلت أيامي الأخيرة بزيارة لإحدى صالات الحفلات الموسيقية، وجلست أستمع فيها لموسيقى الجاز، هذه التي تحظى هنا بتقدير يصل إلى حد التقديس! وقد ذهلت من براعة العازف الأسمر، ثم زاد عجبي حين قدمني للحضور لمعرفته المسبقة بي، فاصطفاني من بين الجالسين وأقعدني رفقة جوقته الغنائية، وقد فوجئ الحفل حين غنيت مقطعاً غنائياً، فنلت التصفيق بعد الموقع المخصوص،.. انتهى الحفل، سألته :

 - "أي صنف من الجاز هذا؟ إنه غريب جداً عن أذني، كمذاق الطعام الغريب.."

 أجاب  :

- "إنها موسيقى جاز نيوأورليانز، أو ديكسيلاند، سيدتي، أحب لويس أرمسترونغ (عازف جاز أمريكي) حباً جماً، وأطمح في أن أحذو حذوه، لقد اضطهدوه لفمه الكبير، إنني أحمل اسمه، نادني بـ"لويس" !

وعرفت عن "لويس" أنه جاء فاراً من التمييز العنصري بالولايات المتحدة، فأسفت لحياته وحياة غيره، وسررت حين أثنى الرجل على المجتمعات العربية والإسلامية من جهة خلو صفحتها من مسألة تمييز اللون،.. وذكرت بأن السواح إذا ذُكر اسم أمريكا تحدثوا عن عمائر نيويورك وجامعات بوسطن وسواحل فلوريدا، ومجتمع الوفرة الذي شهد طفرة المواليد منذ عام 1946م وحتى اليوم،.. وصوت الطبول في البعد أعذب كما قال عمر الخيام قبل ألف سنة، ولم أشأ أن أذكر له شيئاً عن سيرة عنترة كيلا أخدش خيالاته عنّا،.. إنه يقول :

- "من القرن السادس عشر إلى القرن التاسع عشر، جلبت تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي عشرة ملايين من الأفارقة المستعبدين إلى الأمريكتين،.. لسنا عبيداً اليوم ولن نقبل بهذا.".

 وقد حرصت على إنهاء الحوار معه سريعاً لعلمي بغيرتك المبالغة، فشكرته وانصرفت، وحتى لقد بدوت - في هذا - غريبة الأطوار،.. نجحت البارحة في تبديل مريلة حسين وقد تخلى الطفل عن الفرنك حين أبرزت له مثلبة الاستغلال في قصة وعظية، فيما ارتدى زهير نظارته الطبية الجديدة لأول مرة وقد أصابه شيء من الصداع في اليوم الأول، ثم جعلت الأمور تتحسن في الأيام التالية، لا يترك زهير الورقة والألوان أبداً، ولديه شغف في حدود المحيط يتجلى في جلسته على الأرض ممدداً وهو يرسم !

 

يؤسفني بحق ما بلغني من حقيقة وفاة بهاء الدين في رسالتكِ الأخيرة، إنني إذ كنت لا أضمر نحوه الحب، فإنني لا أبغضه، وقد زالت الخصومة بيننا زوالاً نهائياً بمجرد رحيله، وحتى لقد تدثرتُ في ثوب أسود ولزمت البيت أياماً ثلاثة حزناً عليه،.. إنني لا أنسى حقيقة الشبه بين الفقيد وبين حسين، وكيف أنساها وفي كل لمحة أو نظرة تبرز هذه الحقيقة الوراثية؟.. وحين سألني الطفل عن الجد أجبته :

- كان شبيهاً بك ولكنه أكبر، أكبر بكثير.

إنني أدعوك إلى التماس السلامة في ريف أبي تيج، فالإنسان هو الإنسان،.. ولا حدود لوحشيته مثلما لا أفق لخيريته.. سنعود إلى الإسكندرية في زيارة قريبة،.. لقد اشتقت إلى المدينة كثيراً..".

وكتبت المرأة إلى زوجها رسالة أخرى في الأسبوع التالي تقول : "أتمنى أن تكون رسالتي الأولى قد وصلتكَ، ذلك أنني لم أتلقَ بعد عليها جوباً، ومهما يكن،.. كنت قد هيأت لي الظروف ظهوراً على إحدى الشاشات الحوارية الفرنسية، وقد لاحظت كيف يسيء العالم الظن بنا نحن العرب، كانت المحاورة متحفزة ضدي على نحو يزري بالمهنية، ولا أفهم كيف انتقل الحديث معها من عالم الموضة إلى السياسة، قالت بأن لحظة تأميم قناة السويس كانت لحظة حزينة في فرنسا استدعت الحرب، ووجدتني قوية الحجة في هذا الشأن، ولكنها أتبعت تقول :

- إن الحرية ليست مفهوماً يتعلق بالدول وحدها، وليس قاصراً على الخلاص من الاستعمار أو التبعية، ولكنها تتعلق بالأفراد أيضاً.

وتشعب الحديث، حاولت المذيعة الضغط عليَّ، فقالت :

- عليكِ أن تكوني محددة هنا، هل ولاؤك لمصر أم لفرنسا،.. سيدتي؟

وقلت :

- إنني مصرية المولد فرنسية الهوى،.. ولنعد إلى الموضة.

 ووجدتني ارتبكت هنا وقد كنت حديثة عهد بحوارات السياسة، كان يزين عنقي - في ذاك الحوار المذاع - مجوهرات شوبارد Chopard  السويسرية، لقد أغرى هذا لصاً بالتسلل إلى البيت في مساء اليوم نفسه، وأصابني الذعر حين رأيته، وخفت على زهير وحسين خوفاً هستيرياً، طلب السارق العقد السويسري فلم يجد مني مقاومة، لقد حاول أن يسرق المزيد والمزيد، اقترب من زهير، فلم أتمالك نفسي إلا وقد أطلقت النار، أردته رصاصتي صريعاً، يبدو استخدام السلاح غريباً عن النساء، ولكنني كنت وقتذاك شيئاً ملتهباً من العاطفة،.. إنني أثق في براءتي إذ إن خوفي المبرر يقع تحت خانة الدفاع عن النفس..".

وكتبت خطاباً ثالثاً بعد مدة تقول :

-" عزيزي يوسف،..

كان اليوم مشهوداً فقد برأني القضاء الفرنسي من تهمة الأمس، تحفل النفوس هنا بشغف غير نزيه تجاه المشاهير، لقد اُستغلت القصة ضدي حين أبرزت بعض الصحف بيئة المجرم الذي حاول سرقة العقد، يصورونني سفهاً امرأة متوحشة قتلت فقيراً عائزاً بطريقة انتقامية، تنقلب الحقائق هنا على نحو كريه، لقد عزمت على الظهور في البرنامج الحواري نفسه، وأمام المحاورة عينها، وقلت بأنني كنت لأفعل ما فعلت لو تكرر الأمر، لا شغفاً بالقتل ولا هو بسبب عناد مقيت، ولكن دفاعاً عن أسرتي، وأمام الاضطرار تسقط حرمة الممنوعات،.. وقد أوضحت فرقاً مهماً بين المبرر وبين السبب، فالفقر وشحة المورد قد يكونان سبباً للسرقة ولكنهما لا يبررانها من وجه، وقد أشاد الناس - أو المنصفون منهم - بشجاعتي، وثمنوا فصاحتي في التعبير عن مرادي بلغة لا تزال غريبة عني،.. وسألتني المحاورة :

- ألا تشعرين بالشفقة نحو السارق؟!

وقلت بعد أن ابتسمت لسؤالها المختل :

- أتمنى أن ينال الجميع الحقوق الأساسية كي لا تضطرهم الحاجة إلى الاعتداء على الغير، ولن يتحقق هذا من طريق الاستسلام للجريمة، أو التبرير لها.

وأذكر لك بأن محاولة السرقة أصابتني بتطير إزاء المجوهرات السويسرية فاستبدلت بها جميعاً أخرى إيطالية من ماركة بولغاري Bulgari، وهذه الأخيرة لا تقل عن الأولى بهاءً وقيمة، أقول هذا وإن ألزمتني الواقعة الفاجعة نفسها زهداً في الأشياء وفي الشهرة، وحتى لقد عدت إلى العبادة وأداء الفروض،.. أتطلع إلى العودة إلى الإسكندرية في أعجل الفرص، وسأغسل وجهي بماء البحر المالح شاكرة حين يتحقق هذا، يخيل إليَّ بأن قصتنا الحقيقية موصولة بالمدينة الساحلية، وليس وجودنا، أنا وأنت في باريس أو في أبي تيج، وقد طوحت بنا الأقدار، إلا فصلاً عارضاً،.. اصطحبت زهير وحسين إلى حديقة التويلري Tuileries Garden، انتقلت ملكية الحديقة إلى العامة بعد الثورة الفرنسية، كنت أجد في نفسي تعاطفاً نحو ماري إنطوانيت (المرأة التي قامت عليها وزوجها لويس السادس عشر الثورة)، ولكنني أحببت أن يشارك العامة في ملكية الاستمتاع بالحديقة،.. لقد مر الطفلان بأوقات عصيبة أثناء السرقة وبعدها، وأردت الترويح عنهما، أعد لي زهير تاجاً من الزهور،..

أقول بأنني أحببت أن يشارك العامة في ملكية الاستمتاع بالحديقة، لكن هذه القناعة لم تدم طويلاً فسرعان ما سمعت رجلاً من رواد الحديقة يقترب مني - لدى بوابة الخروج - يقول :

- "قاتلة، قاتلة..".

وتخايل لي أن العشب تحت قدمي قد استحال أشواكاً، وأن قدميّ باتا تدميان من فرط هذا الشعور الذي ألم بي،.. خلعت تاج الزهور عن رأسي، فقلت له :

- "لقد برأني قضاء بلادكم، هل تنكر حكم القضاء الفرنسي؟!".

-....
- "لماذا لا ترد؟".

- "ما قمتِ به هو الشجرة التي تحجب الغابة، ما خفي كان أعظم،..".

ومن عجب أن الرجل المتحمس وجد من يبارك تحليله الإنشائي السقيم من رواد الحديقة، وقد تعلمت مما تعلمت في مصر أن صوتاً غوغائياً يكون مسموعاً فوق صوت العقل وميزان العدالة، وخلت أن هذه صفة تلازمنا نحن، أو تبرز فينا أكثر من غيرنا، قبل أن أرى رجل حديقة التويلري في باريس،.. تمضي الأشياء هنا على نحو متسارع، تصعد نجوم، وتهبط أخرى، يقولون بأن الغبار يصنع شهرة، ولكنني لا أصدق في هذا،.. حاولت جاهدة  البحث عن لويس (عازف الجاز) لكنني لم أعثر عليه في صالته التي رأيته فيها أول مرة، وقيل لي بأنه تغيب مرة ولم يعد بعدها، بحثت عنه في نوادي الجاز، وفتشت في حفلات الرقص، وحتى الحانات، ووجدتني بعد أن خاب بي الرجاء أشتري إسطوانات لويس أرمسترونغ الموسيقية القديمة، ومن عجب كيف أنني لم أجد فيها سحراً كسحر العازف المغمور،.. ما أشقى الحياة في باريس وما أجملها !".

ولم تصل أياً من الرسائل الثلاثة إلى يوسف، ذلك أن الخفراء الخمسة كانوا يمنعون دخولها، وكان يحدث أن يقرأ واحد منهم أولها :"عزيزي يوسف.."، فيضحك منه البقية. 

 اقرأ أيضاً : 

  الفصل الأول : على درب الرحيل

الفصل الثاني : لا ينبغي أن يكون للحب ميقات

الفصل الثالث : ما تغيره الأيام

الفصل الرابع : عبير الحرية

الفصل الخامس : حين بزغت أنوار الفجر

الفصل السادس : القلب يهفو إلى اللقاء الأول

الفصل السابع : خديعة في الميناء الغربي 

 الفصل الثامن : امرؤ بلا جذور

  الفصل التاسع : حين يجيء المساء

 الفصل الحادي عشر: الكأس والوصية

 الفصل الثاني عشر : ميلاد المدينة من حلم

الفصل الثالث عشر : فجر جديد

 الفصل الرابع عشر : خيانة في الريف

 الفصل الخامس عشر : الحزن الذي يجتاح أضلعي.. والعربي الذي لم يعد !

 الفصل السادس عشر : إنما الأيام مثل السحاب

 الفصل السابع عشر : أكاليل من الحب

 الفصل الثامن عشر : غريب على باب الرجاء

 الفصل التاسع عشر : حديث السلطة

 الفصل العشرون : موعد عند كلية فيكتوريا

 الفصل الحادي والعشرون: رماة الأحجار في حيَّنا

 الفصل الثاني والعشرون: لقاء الرئيس في الريف

الفصل الثالث والعشرون : مفاجأة على أضواء الألعاب النارية

الفصب الرابع والعشرون : الاتحاد الاشتراكي ومنافذ الحرية

الفصل السادس والعشرون: أميرة تعود من المساكن الحمراء
  الفصل السابع والعشرون: عضني الاكتئاب ! 
الفصل الثامن والعشرون: رقصة تشارلستون في حفلة لويس
الفصل التاسع والعشرون: أباظة ينتصر لفلاحات الورديان
الفصل الواحد والثلاثون : لويس يشتري لوحة البرج والفنار
الفصل الثاني والثلاثون : خيالات أحلام في حرب اليمن
الفصل الثالث والثلاثون : هل يُنسى الحب في تنورة الدرويش؟
الفصل الرابع والثلاثون : أوديب ومعضلة المصير
الفصل الخامس والثلاثون : شجون مجسدة في عصفور الكوكاتيل !
الفصل السادس والثلاثون : لعنة كحذاء الطنبوري !
الفصل السابع والثلاثون : وجه يتحدى الزمن
الفصل الثامن والثلاثون : تقرير المصير
الفصل التاسع والثلاثون : حمام كليوباترا
الفصل الأربعون : مسيرة الحياة
الفصل الواحد والأربعون : آلهة الجمال
الفصل الثاني والأربعون : مشكلات العرب
الفصل الثالث والأربعون : اجتماع الجبل
الفصل الرابع والأربعون : همس الحب
الفصل الخامس والأربعون : قصة رودوس
الفصل السادس والأربعون : حلم في سيسيل

 اقرأ أيضاً : 

الفصل الأول : على جندول البندقية

الفصل الثاني : حب تحفه القناديل العائمة
الفصل الثالث :  عباءة أثينا سقطت على أكتاف الإسكندرية
الفصل الرابع: نافورة بختشي سراي !
الفصل الخامس : ورأيت رقصك كالجنون
الفصل السادس: حزمة من الذكريات
الفصل السابع: لعنة المدينة
الفصل الثامن: زناد الحب
الفصل التاسع: شيفرة الجمال
الفصل العاشر: مبادرة روجرز
الفصل الحادي عشر: رحلة في فلورنسا
الفصل الثاني عشر : أيام فاترة في البحر الأحمر
الفصل الثالث عشر : ذكرى الثأر
الفصل الرابع عشر : النهضة المصرية
الفصل الخامس عشر : قلب كارمن
الفصل السادس عشر : حديث الغريب
الفصل السابع عشر : لذة الحياة المنعمة
الفصل الثامن عشر : روح التمرد
الفصل التاسع عشر : زواج سري

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق