حب يتشكل في المهد
احتفى عبد الغني بمجيء أميرة إلى الوجود في ليلة ولادة زوجه، كانت الطفلة فائقة الجمال تنذر ملامحها الرائقة - كصفحة سماء شهر مارس/برمهات - ببرائتها الملائكية، وأنسته لأجل هذا مسألة الولد التي تلح عادة على أرباب العوائل آنذاك فملأت نفسه بالرضا، وتنامت - بالتوازي من هذا - مكانة الصبي مراد في حانوت آلت إليه ملكيته بعد زكريا، وكان عبد الغني كثيراً ما يقول له (مراد) :
- لقد أنسيتني أمر زكريا بحسن تدبيرك !
وكان مراد يخفض رأسه فيقول :
- هذا لأني تلقنت منك أصول الحرفة،.. سيدي !
وصار عبد الغني يعهد إليه بمهمة إدارة الحانوتين في يومي الخميس والاثنين، وكان الصبي وحين وثب بغتة إلى طور المراهقة - خلافاً لما عُهد عنه في السابق - جديراً بتحمل المسؤولية، كثير البذل، نشيطاً أميناً، فأغدق عليه صاحبه بعبارات المديح والإنعام، وأجزل عليه بالعطاء والرزق الوفير.. وكانت هدى تسأل زوجها بينما ترمق حركة مراد بين الحانوتين من المشربية فتقول :
- أنى لك أن تثق به إلى هذا الحد؟!
ويقول عبد الغني :
- كان الصبي - ولا يزال - يتيماً، وقد تشرب مني أبحديات التجارة تشرباً حسناً!
ويوماً وافق الخميس اشتكى مراد كثرة الأشغال واحتشاد الزبائن، وصعد إلى بيت معلمه (عبد الغني) يسأله العون، ويستحثه على تقديم المدد، وطرق الباب فلم يجد مجيباً، وفطن إلى أن باب البيت مفتوح، وطالت مدة انتظاره حتى ألزمته - تحت ضغط شعوره بالعجلة - الدلوف بغير استئذان، ثم تفقد الحجرات باحثاً عن عبد الغني، ودلف أول ما دلف إلى حجرة الطفلة فاقترب منها - مدفوعاً بهاجس لم يفسره - ورفع من فوق وجهها غطاءً خفيفاً، وهنالك دهش لصورتها فانقبض قلبه وانتفض،.. كانت الطفلة محمومة الوجه كأنما نالت منها سخونة عارضة، وكاد يهرع طلباً لنجدتها لولا أن سمع وقع أقدام يأتيه من خارج الحجرة فاضطرب كل اضطراب، ولم تسعفه بديهته بأكثر من أن يتسمر في موضعه، وسرعان ما لاحت هدى في وقت توقف فيه وقع الأقدام على البلاط العاري،.. فقال متلجلجاً في تفسير وجوده وهو يشير بإصبعه إلى جهة النافذة، يريد ازدحام الزبائن أمام الحانوتين :
- جئت أطلب العون من السيد عبد الغني ! إن الزبائن - كالجحافل -من الكثرة إلى حد أن طاقتي تقصر عن الوفاء بمطالبهم..
واقتربت منه المرأة، قالت كأنما وعت حقيقة ما، بينما تلتفت إليه في تأنيب بادٍ في ارتفاع حاجبها وجحوظ عينيها :
- ولمَ رفعتَ الغطاء عن الطفلة؟ وكيف تلج بيوت الغرباء بغير تحية أو أذن؟
وخفض مراد رأسه - كمن ينوء بالإثم الأعظم - يقول :
- إنه الفضول، سيدتي، إني عظيم الأسف، ساقتني الضرورة إلى هذا.. (ثم كالذي ينتقل من خوف إلى خوف متعلثماً..) إن ابنتكم - وكما تبدو لي - مريضة !
وانقلبت نقمة الأم على مراد شفقة على أميرة، وهرع مراد إلى طبيب الحي يستحثه على القدوم، وسرعان ما استنقذت همة الصبي الطفلة من مصير الموت، وقالت المرأة لزوجها :
- لقد تسلل الصبي في غيبة من العيون، لم قصد إلى حجرة الطفلة؟ إن قلبي يحدثني بالشر، ولتعمه بعقاب منك !
وكان عبد الغني يجيب امرأته بقول فصل :
- لقد أنقذ مراد أميرة، رأى وجهها معتلاً في حمرة الزعفران فأوصل إليها من أنقذها،.. حري بهذا أن يوطد من دعائم ثقتنا به لا أن يثير الارتياب !
وقالت :
- ماذا لو أنه محتال أو لص؟ وأنى لنا أن نأمن جانب من لا أصل له معروف؟
وقال عبد الغني متأففاً :
- إنها الضغينة تورث الحمق،.. فلتنشدي للصبي اليتيم الخير !
وعادت هدى تنهال بالقبلات على الطفلة الناجية تقول :
- إن جمالها حقيق به أن يرفعها عن المستوى العام،.. غير أنه خليق بأن يجر عليها الحسد والحاسدين !
وعاد مراد إلى عمله مدعوماً برضا عبد الغني وثقته المطلقة في إخلاصه، وذات نهار جاءه زبون يشتري منه أريكة من خشب البلوط، وقال مراد يزين له أن يشتريها :
- لقد انخفض ثمنها إلى النصف، والحكمة أن تشتريها عند كسادها قبل أن يعود يحملها رواج.
وقال الزبون وكان من الشعبيين :
- لقد انخفضت أثمان كل شيء في هذا العهد الأغبر، حتى أرواح الآدميين!
وفطن مراد إلى ما يمكن أن يجره حديث الرجل من الولوج إلى السياسة فلزم الصمت لزوماً، وقال :
- أوصاني رب العمل ألا أتكلم في موضوعات لا تخص التجارة !
وكان عبد الغني قد أوصاه بأن يدع عنه أمر العامة، وقال له مما قال، يضع يده اليمنى على كتفه اليسرى :"عليك بخاصة نفسك.. ومن تكلم في غير فنه أتى بالعجائب.."،.. قال محدثه :
- نعيش في زمن لا يصح فيه أن تتحدث الصحافة عن أخبار العائلة المالكة إلا بإذن،.. لقد كشف إحسان عبد القدوس في روز اليوسف الحقيقة الغائبة التي تخص تورط حاشية القصر في صفقة الأسلحة الفاسدة، وراء كل عرش يخاله أصحابه مستقراً نمل ينخر القواعد،.. لا عجب !
ووجد حديثه المشكك في استقامة من يدبر الأمر رضاءً شعبياً لدى من سمعه، فهلل له نفر، ووافقه نفر آخر،.. كدأب مثل هذه الأحاديث في حيّنا التي ترسل إرسالاً فتحوز إعجاباً يتولد من استشعار الجسارة لا من صدق الرواية حتماً،.. وشرع مراد يرفع أريكة البلوط بساعديه حتى استوت فوق الحنطور، غير أنه وحين رفعها احتكت بعض حوافها السفلية بالعجلات حتى أضرت بها، وقال الزبون :
- ويحك ! هل عميت؟ لقد أفسدتها ! إنك لأضل من الخفاش في النهار.
وتطلع مراد إلى الأريكة فلم يجد أن عظيماً قد نال منها، قال في حياد :
- إنها سليمة ولم يطرأ عليها سوء..
وقال الرجل في انفعال :
- هذا لأنك تعاني ضعفاً في النظر،.. وتهاوناً في الضمير !
ودفعه مراد دفعة خفيفة كيما يفسح لنفسه مجالاً، يقول لسائق الحنطور:
- فلتسمعني صلصلة العجلات، ولتذهب بها (الأريكة) إلى بيت صاحبنا !
واشتد الغضب بزبون الحانوت حتى اشتبك مع مراد اشتباكاً أورثه السقوط إلى وحلة الأرض،.. واجتمع الخلائق وخرجت هدى - برأسها من وراء المشربية - تسمع وترى، واستدعت الجلبة مجيء عبد الغني الذي طفق بدوره - يوبخ مراداً نظراً لرعونته وسوء تصرفه بعد أن مال إلى تخطئته، وقال وهو يحدجه بنظرات الامتعاض والسخط :
- من الخطأ أن تتَمَرَّأَ في غير موضع، وسوف يخصم منك راتب هذا اليوم !
وكان مراد يغمغم، بعيداً من رب العمل :
- هذا لأني في دنيا بلا سند، ولولا هذا ما استحل أن يجور القوم على حق من حقوقي !
اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات قصص
- لقد اقتحم حجرة الطفلة،.. ودفع رجلاً بريئاً فأسلمه للأرض !
وكان عبد الغني قد أخذت ثقته في مراد تتضاءل بعد الواقعة الأخيرة، فيقول :
- لست أحب أن أقسو عليه، وقد أوصاني النبي محمد بأن أمسح على رأس من تيتم،.. إن نفسي لا تطاوعني على أن أزجره، إنني إن صدرت عن رغبة إلحاق الضرر به ألجمتني أسباب لا أحصيها عدداً !
وقالت هدى وهي تضع ماءً مثلجاً مع رماد على بعض مناطق بشرتها المتهيجة :
- بعض الزجر يحمل في طيته رحمة من نوع ما، إنك تقسو عليه لتزدجره، لقد أورثت الحادثة الحانوتين سمعة صرفت عنه بعضاً أو كثيراً من زبائنه.
وكان عبد الغني يقول وهو يشخص إلى امرأة مجبولة على العناية بمظهرها :
- ما أعجب أن يصدر هذا منكِ !
نشط مراد بعد هذه الواقعة إلى العمل الدؤوب كيما يسترد ثقة عبد الغني، أورثته تجربته المريرة ليناً وكياسة، وغض الطرف عما كان يلاقاه في مرات من عسف وفظاظة، وأما هدى فكانت تبث بعلها شكوكها - كأنه السم البطيء - تجاه الشاب فتوغر صدره حيناً، ثم يؤول الأمر حين - يتفق أن يشهد الرجل على إخلاصه وتفانيه - إلى لا شيء،.. كسحاب في السماء ينذر لاحتشاده بمطر كثيف ثم ما يلبث ينقشع،.. ويوماً وافق الخامس عشر من أكتوبر كان بائع الجرائد يطوف الشوارع، واستقر سعيه لدى الرجلين يقول في تواتر :
- "أهرام،.. أكبر مظاهرة شهدتها مصر ضد الإنجليز.. مظاهرات الجلاء.. أهرام !".
وطلب مراد من صاحبه أن يرفع عنه أسواراً كان قد ضربها زمناً بينه وبين السياسة فأذن له، وكان عبد الغني واقفاً على أطراف أصابعه إلى جوار مراد - الذي عاد بالجريدة - يستشرف الأفق الخالي، يقول قلقاً :
- لقد اقتربت هدى من أن تضع وليدها الثاني ! من عجب أن أحداً لم يحضر اليوم ليبتاع منا أثاثاً، وحتى الحوانيت تبدو كالموصدة في يوم عطلة!
وقال مراد وهو يتفقد عنوانات الجريدة التي ابتاعها، وكان من بينها (أي العنوانات) :"رجال الدين والوزراء والأحزاب والهيئات يتجهون في المظاهرة إلى ساحة الملك.."، "نسف مستودعات البترول البريطانية في العجرود.." - قال :
- لعل فريقاً منهم خرج في المظاهرات على مثال ما وقع في ميدان الإسماعيلية بالقاهرة.. وفريق لزم بيته خيفة ما قد ينجم عن التظاهر من تخريب..
وأثنى عبد الغني على حدسه وتحليله، قال مدفوعاً بعاطفة استحسان :
- ألا تفكر في الزواج؟!
وقال وهو يعيد ترتيب قطع الأثاث فيستبدل بموقع أريكة البلوط موقع سرير العاج المتواري :
- سيكون الزواج في ظروفي المتعذرة، وصفة لكارثة مثالية.. هل تعرف أنني أقيم ليلاتي في بدروم !
وانتظر حتى انتهى محدثه من عملية النقل، أو كاد، وقال وهو يساعده على حمل السرير فيمسك بطرفه الثاني قبالته :
- أكثر المصريين لا يفكرون في عواقب الإنجاب فيقدمون على الأمر متى تهيأت أسبابه أو لم تتهيأ ! إن هذا جنوني.. (ثم في تناقض..) ماذا لو جئت لك بمن يؤنس وحدتك !
واحمرت وجنتاه، قال :
- عندئذٍ أحمد لك حسن صنيعك، ولكنني لن أتردد عن الرفض، للأسباب التي ذكرتها.. إنه أمر مستقبلي تتكفل به مقادير تهيأ له فرصة السنوح.
وكان عبد الغني في الحق يروم أن يزوجه بابنة عبد المتعال، بائع الذرة المشوية الذي قفز على أكف الإنجليز الحريرية إلى دنيا الثراء، وفطن مراد لما هناك بعد فترة صمت وتأمل فقال :
- هل تخطط أن تتخلص مني؟ ولو أن الأمر كذلك فحدثني دون مواربة.
وارتبك عبد الغني لصراحة العبارة ومباشرتها، وكان عسيراً عليه كل العسر أن يصارح الشاب اليتيم بمزيد مما قد يتسبب في تعميق اغترابه ومضاعفة محنته، غير أن ارتباكه لم يدم طويلاً، إذ سمع اثناهما هتافاً يصيح : «ماء النيل حرام على الإنجليز..»، «لبيك وادي النيل..»، وكان الهتاف يأخذ يرتفع فيأخذ شكلاً جنونياً من الانفعال كأنما هو مشروع أهزوجة لم تكتمل، لقد بدأت التظاهرة صامتة ولكنها انتهت إلى الانفعال،.. وانعطفت حتى بلغت حانوتي الرجلين المفتوح بالسبيل دون بقية حوانيت الإسكندرية المغلقة تضامناً، واقتحم نفر حانوتاً وهو يأخذ يهتف :" «عاش كفاح أهل القنال»، وازدادت الأمور سوءاً حين طفق أولاء المتسللين يقبضون على قطع الأثاث يرومون سرقتها وتهريبها، ووقف عبد الغني أمام الحانوتين فيما شرع مراد يطرد المتسللين الذين استقبلوه - وفي أيديهم سرقاتهم - بهتاف :«المسجونون السياسيون يتمنون لقاء الإنجليز فى القنال» !
وأبلى مراد بلاءً حسناً في صد المندسين المستترين وسط غضب الجموع فاكتسب لدى سيده مثابة فائقة، وانقلب حاله ظهراً على عقب لما أبداه من جسارة وبأس في ذاك المعترك، واتفق لعبد الغني أن يرى في قوته عملة ذات وجهين فتبخرت - على إثر الرؤية الجديدة - إرادته في التخلص منه حين قال له بينما يعاين أضرار اليوم :"كاد ظهر الحانوت ينكشف لولا وجودك.. ولكننا خسرنا أريكة البلوط.."، وحلت الاستهانة إزاء المشككين حتى عكفت هدى عن تناول من اختبرته المواقف، وكان مراد يقول وهو يضع يديه على طاولة من خشب الجوز - كان قد استنقذها من أيدي المخربين - مشغولة من الخشب والصدف والزجاج: