U3F1ZWV6ZTQ2MTMzMDkyMjMyOTgxX0ZyZWUyOTEwNDc0Mzc0ODg0Mg==

رماة الأحجار في حيَّنا

       الفصل الحادي والعشرون : رماة الأحجار في حيَّنا






صحب عبد الغني مراد في سفره الأخير إلى دمياط يريد أن يرد الحقوق المسلوبة، ودلف الأول بعكازيه فقال لمندوه الدمياطي وهو يتحرك في تؤدة حتى يبلغ مبلغه، في صوت أجش :

- لقد جاءك مراد يطلب حقاً من حقوقه، فما كان منك إلا أن أبديت له سوء طبعك، وصعرت له خدك،.. إن القانون في بلادنا..

وتدخل مندوه يقول :

- إن القانون لا يحمي المغفلين..

وكاد مراد ينتفض دفاعاً عن نفسه لولا أن عبد الغني أشار إليه أن توقف، وقال عبد الغني :

- وماذا يفعل صاحب الحق إذا هو عدم من سبيل قانوني يضمن له حقه؟ القوة ! القوة هي ما يخشى منه المجاوز خشية الفأر في الليلة المعتمة.

وقال مندوه في سخرية جوفاء :

- لا تظلم الفأر يا صاحب العكازين !

وهناك رمى عبد الغني بعكازيه وانطلق ممسكاً بعنق المندوه حتى أسلمه اندفاعه إلى حائط، كانت دهشة مراد عظيمة لحركة معلمه حتى أنه تسمر في موضعه، توسل مندوه السلامة، وأبدى وجهاً طيعاً بديلاً عن  ذاك الفظ المنفر في خضم الخوف الذي نزل به، والذل يظهر في الذليل مودة بقول المتنبي،.. وعلى هذا النحو عادت الحقوق، وسأل مراد عبد الغني على حين يطمئن إلى استقرار قطع الأثاث فوق عربة نصف نقل :

- لماذا أخفيت عني أمر شفاء قدميك؟

 

وقال عبد الغني :

- أردت أن أجعل من الأمر مفاجأة كاملة، حتى بالنسبة إليك،.. (ثم وهو يرقب آخر القطع تستقر فوق عربة النقل..) طوبى لنا !

وطربت هدى وأميرة لرجوع عبد الغني من دمياط وقد أبصراه مستغنياً عن عكازيه - طرب المرء لرؤية قطوف النخل أول ظهورها، أضافت قصة مندوه إلى الحدث السار فصلاً آخر، رواه مراد مذيلاً بعبارته :

- يبدو عبد الغني امرأ لين العريكة، يتصور الرائي أن رقة حواشيه ونبل طباعه - أن كل هذا ينأى به عن أن يرد الإساءة بمثلها، والحق، أنه كالقنفذ الذي لا يطلق سهامه إلا حين يستثار، لقد شمتُ بالرجل المحتال (مندوه الدمياطي) بضمير مستريح، لقد بدا كهذا (ينفخ وجهه ويجحظ بعينيه) !

وكانت أميرة تتأمل حركة أبيها،.. تقول :

- إنها عين المعجزة، أن تعود تمشي !

وكان عبد الغني يقول في حين يجرب الخطو، والهرولة كالطفل، لأول مرة بعد طول انقطاع :

- الفضل لله،.. ثم للعكازين !

أصرت هدى على أن تقيم  ليلة للمحتاجين في الحي لأجل شفاء زوجها  وفاءً لنذر قطعته على نفسها،.. لقد ذبحت ونحرت ووزعت، ودعت جمهرة من تجار الحي والأحياء المجاورة، أولئك الذين تتنوع صنائعهم وحرفهم بين مجال زوجها المعافى : الأثاث، وغيره، وجيء بفرقة مزمار بلدي، ووقف العازف يرقب انتظام فرقته من ورائه، ثم أعطاهم إشارة البدء بطرف عينيه، قبض عبد الغني على العصا وانخرط في تدويرها في خفة بدت وكأنها المنسوبة إلى يوم قديم، كيوم زفافه إلى هدى،.. كانت قدماه تتنقلان في براعة كأنهما تزريان بعهد المرض المنصرم، وهمست أميرة في أذن هدى تخشى على أبيها الحسد والحاسدين، تقول :

- ألا يبالغ أبي حين يفعل ما يفعل؟ أخشى أن تنتكس الأمور، مجدداً !

- دعي الفأل المشؤوم،.. ولتملِ عينيك بيوم قد لا يتكرر كرة أخرى !

وشعر عبد الغني بالإنهاك فتوقف عما هو فيه يصفق له التجار والمعوزون لجهده السابق، انتهى العزف وانصرفت فرقة المزمار وحل الفراغ، وقالت هدى لمراد تريد أن تشغله :

- لماذا لا تشاركهم في سرورهم؟

تقدم مراد خطوتين، قال في مديح النبي قول حسان بن ثابت، يستحضره من فترة تدينه الفائتة في المناسبة الطروب، حتى انتهى إلى القول :

- نبيٌّ أتَانَا بَعْدَ يَأسٍ وَفَتْرَة ٍ منَ الرسلِ، والأوثانِ في الأرضِ تعبدُ

فَأمْسَى سِرَاجاً مُسْتَنيراً وَهَادِياً، يَلُوحُ كما لاحَ الصّقِيلُ المُهَنَّدُ !

وطرب الحضور لما ألفوه في الأبيات من إشراقات روحية فهز عبد الغني رأسه مستحسناً، حل الليل والأمور تتقلب بين أعطاف السرور، كانت العيون هواجع، ووزع التمر والشربات وماء الورد، انصرف الفقراء بعدما ظفر كل واحد بثياب جديدة عوض هاته الأسمال الرثة، وخلا عبد الغني ومراد إلى التجار في اجتماع الليل، قال أحدهم وكان يرفل في عباءة مذهبة ويلبس خاتماً من فضة في الخنصر من يده اليسرى :

- فلتعذرني إذ أقول ما أقول،.. ولكن شيئاً كان ليمنعني من حضور هذا اليوم المشهود !

والتفت عبد الغني إلى ناصيته يستحثه على أن يفضي بما لديه، قال :
- وما هو؟ ولا تقل بأنه الكسل..

وضحك القوم من سبيل تكلف فصاحب المزحة هو صاحب الحفل، وقال ذو العباءة قاطعاً سيل الضحكات :

- سمعنا مما يسمع الناس، أن حانوتك المشهود عنه الاستقامة على تراخي الأعوام، باتت تأتيه النسوة من ذوات السمعة السيئة ويجلسن فيه..

وأوحت العبارة بالمعنى المقصود من وجه ما، كان مراد يجلس عن يمين عبد الغني فتولاه الارتباك، واستدار عبد الغني بوجهه إلى مراد كأنما يسأله عما لا يعرف، قال مراد بعد فترة صمت :

- لعله يقصد نرمين..

وقال عبد الغني لمراد في شدة :

- إني لا أسألك عن اسمها..

وأورثت شدة عبد الغني مراداً انفعالاً، وتجشم عناء الموقف المحرج فاستقر عزمه على أن يقول وقد ارتفع منكبيه بعد خفض :

- ليس في حانوتنا للدنيات من موضع، إن لنرمين مكرمة، فلولاها ما برأ عبد الغني، ولا كنا اجتمعنا ها هنا، إنها صاحبة العكازين..

وحلت الدهشة محل التساؤل وتبودلت الهمهمة حتى قال تاجر آخر من موقعه في آخر المجلس، وكان مسيحياً :

- فلتكن سافرة أو جناً أزرق، ولكنها صاحبة فضل في شفاء الرجل، إن حسابها على الله وحده، ولا نقول إلا كقول المسيح : "من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر !" إلهي ! كم محتال في بلادنا أثيم، إنك إن وضعت جرم أولاء جنباً إلى جنب إلى خطيئة المرأة لهانت، ولو تحدثت عن الفئة الأولى، فئة المحتالين، فكشفت زيفها وأظهرت العوام على حقيقة حطتها لألفيت نفسك تدفع الثمن جزاء نزاهتك، وأما الثانيات.. فمن ذا قد يرميك منهن بنواة تمر؟! إن شكاً لا يخامرني -  ولا يخامر عاقلاً يتخذ العدل والإنصاف ميزانه - في أن مندوه شر من نرمين،.. إنها أولويات بوصلة الأخلاق في مجتماعتنا يجب أن تتغير، وقد كثر رماة الأحجار في حيَّنا.

وقال الأول في هزو وهو يضم طرفي عباءته :

- خليق بي أن أنضم، ومن فوري، بعد خطبتك العصماء هذه، إلى جمعية "المدافعين عن بائعات الهوى"!

وضحك الرجل وحده،.. قال مردفاً :

- إني أسألكم، ما مقياس الأخلاق الذي يجدر أن نستند إليه سوى الدين؟ إننا إذا اعتمدنا الهوى في التقييم ما فرغنا من التحزبات والزيغ والميل أبداً، أعني لماذا ألبس خاتمي الفضي في هذا الإصبع (يشير إلى خنصر  يسراه) دون غيره إلا سنة عن النبي محمد !

وقال مراد :

- لقد نهى النبي محمد نفسه عن لبس الفضة !

ولم يلتفت إلى قول مراد أحد بادئ ذي بدء، ولكن الجلوس الباحثين عن شرارة تناقض تكون سبباً للسمر والتندر - عادوا حين استوعبوه يضحكون،.. وقال قائل منهم :

- إن موضوع سيدنا ليس الامتثال للسنة على إجمالها، ولكن مشكلته مشكلة الإصبع المناسب !

حضرت أميرة ومعها الخبز باللحم الإسكندراني الذي أعدته هدى إلى الضيوف، كانت الفتاة تقف عند عتبة باب المجلس وقد احتجزتها رهبة الغرباء عن الدلوف، ونهض مراد من فوره يريد أن ينوب عنها في توزيع الغذاء على الجلوس، تلقف منها الصينية وكانت خافضة البصر متضرّجة الخدين، كاد يستدير عنها على حين قالت :

- أحقاً ما سمعت للتو؟!

- أجل، لقد طلبت مني نرمين إخفاء مساعدتها عن أي مخلوق، وقد وشيتُ بما أرادت له الاحتجاب تحت سيف اضطرار.

قالت أميرة :

- إلهي ! كم  يستعجل المرء الحكم ! يخيل إليَّ الآن أنني كنت أزدريها بغير سبب.. إني مدينة لها باعتذار وشكر، وأين هي الساعة؟!

وقال :

- لا أعرف..

- ستظهر بغتة مثلما توارت بغتة !

- آمل هذا..

وأتم مراد استدارته عن أميره هذه المرة، كان يغمغم في حين يقلب ناظريه في وجوه التجار :"إلهي.. كم أكره الجلوس بين أولاء الأدعياء.. جلسات الإبر الصينية أهون.."، قال في ادعاء لجمهرة الجلوس وهو يأخذ يوزع الطعام :

- قد جئت بالحواوشي الإسكندراني إليكم، خصيصاً، لم تعدم خلطته السحرية من البقندوس، خليق بأن تأكلوا أصابعكم من ورائه !

وقال التاجر صاحب الخاتم الفضي :

- هب أنني سأضحي بإصعبي في سبيل الحوواشي.. فهل أضحي بالخاتم؟

انفض الاجتماع أخيراً أول الفجر بعد أن حمد جمهور التجار لعبد الغني نعمته وباركوا له شفاءه، ووقف الأخير يودعهم قرب الباب، كان يناديهم بأسمائهم ويقبلهم ثلاثاً عن يمين وواحد عن شمال، وجاء الدور على مراد الذي كان يروم الانصراف فاستوقفه، وربت على كتفه يقول :

- لماذا لم تظهرني على حقيقة نرمين من قبل؟ بدوت في المجلس آخر من يعلم..

وقال مراد يريد أن يفلت بنفسه وبالجواب :

- سأصلي الفجر،.. وسوف أجيبك غداً حين تعود تستريح من إنهاك احتفال اليوم !

- إني غير منزعج مما وقع.. أريد أن اجتمع معها بنفسي، وسأخلص إلى ما يرضي ضميري !

- لم أعد أعرف من سبيل إليها..

وابتعد عبد  الغني بوجهه عن محدثه يقول كالمتخيل :

- لابد أن هدى وأميرة كانتا فظتين معها !

- ...

وأعاد مراد ذكر مطلبه في صلاة الفجر فأطلق عبد الغني سراحه، حضر الشاب إلى الحانوتين أول النهار لكن هاجس الليل لم يزايل خيال عبد الغني، كان الرجل لا يزال يتوق إلى لقاء من احتقرها وساعدته، إن دماً صعيدياً حاراً لا يقبل الدين أو السلف كان يسري في عروقه كجزء من طبائع أخرى تشربها على عهد إقامته القصيرة هناك، وكان دين نرمين له عظيماً،.. وقال مراد :

- إنهما محض عكازين، لا يجب أن نضيع يوم تجارة لأجل رد دين إلى من لم يطلب مقابلاً،..

وأغلق عبد الغني واجهة الحانوتين في غداة النهار يقول في عزم، كأنما لم يسمع شيئاً :

- سنبحث عنها، وسنعثر عليها، حتماً !

وبحث الرجلان عن هدفهما في مواضع كثر بغرب المدينة، ومن منية البصل، مروراً بعمارات العجمي، إلى أبو تلات عجزا عن الاهتداء إليه، وجلسا على طوار (رصيف) الشارع بالعجمي، قال مراد وفي خاطره تجارة اليوم التي ضاعت وتضيع :

- لعلها زهدت في شغلها القديم،.. وتابت بعد ذاك توبة نصوح، لقد ذكرت لي آنفاً رغبتها في هذا غير مرة، من العبث الاستمرار في البحث عنها في كل مكان !

وسمعا صوتاً آتياً من زقاق متاخم لمجلسهما الأرضي، كان عجوزاً يقول محذراً ومنذراً :

- تريدين المزيد، والمزيد، أهذه البطن لا تشبع ولا ترضى؟! صدق من قال : ولا يملأ جوف ابن  آدم إلا التراب !

واقتربا من مصدر الصوت بخطى حثيثة، كان عبد الغني قد سبق مراد نظراً لإحساسه المسؤول بضرورة التصرف الداهم، وتبين لعبد الغني أن العجوز المحذر يقبض على زجاجة يريد أن يؤذي بطرف منها حاد ومنكسر فتاة الزقاق، وأزاح عبد الغني العجوز فطرحه أرضاً، وسرعان ما هرع (العجوز) بعيداً وهو يأخذ يلتفت وراءه في وجل، ووهب عبد الغني للفتاة منديلاً يريد لها أن تمسح عن خديها دمعها في حنان أبوي، سألها على حين يسمع خطوة مراد تشي بمقدمه المتأخر :

- عفواً.. هل تعرفين فتاة هنا، اسمها نرمين؟

وأجابت :

- وكيف عرفت اسمي؟!

**

 

كان الفتوة أبو جريشة يقف قرب بائع الدندورمة (المثلجات) وقد أخذت عربته الخشبية المزركشة تطوف شوارع الحي، كان البائع يجرها من أمامه فيما يستخدم زمارته ونداءه فيحث الأطفال الآتين على الشراء منه في موسم الصيف، وقد أقبلوا عليه من الأزقة يطلبون نكهاتها المختلفة، القديم منها كالسحلب وماء الورد، والحديث : كالفراولة والمانجو والتوت والمستكة، وتعلق بصر أبي جريشة من بينهم بالطفل الفقير ذي الأسمال البالية، وقال بعد أن أبدى له الطفل عجزه عن شراء المثلجات :

- اذهب واشتري من البائع حاجتك،.. ولتقل بأنك من طرف أبي جريشة !

وقصد الطفل إلى بائع الدندورمة وامتثل للأمر الذي سمعه، وسمع أبو جريشة البائع يقول :

-  هل تعبث معي ! هل يظن الفتوة نفسه رئيس الديوان الملكي؟! فلتفسح عن وجهي !

ودفع البائع الطفل - لما وجد منه مقاومة - حتى أسلمه للأرض التي تشربت حرارة كالصهد في النهار الصيفي، وتحركت العربة التي كانت تُدفع على عجلتين خشبيتين حتى اعترضها الفتوة الغاضب، وإن هي إلا لحظات حتى كان أبو جريشة مغيراً على العربة وما فيها فلا بقى منها إلا ذكرى اللبن والثلج والسكر والشيكولاتة ! اجتمع أبو جريشة في مكتب الضابط يوسف منصور الذي قال له غاضباً :

- إلهي ! أأنت أحمق؟ في سبيل مساعدة طفل فقير أفسدت تجارة ومعاش رجل.

وقال :

- لقد استهان بي، إنه يعتقد برئيس الديوان الملكي أفضلية عليَّ ! قل لي بربك : ألم نتخلَ عن الملكية وبتنا ننعم في العهد الجديد بالوحدة والحرية والاشتراكية؟! أعرف أنها لتبدو شعارات جوفاء ولكنني أصدق فيها،.. إن رؤية الأطفال الفقراء مما يثير الرثاء في الأنفس السوية، إن هذا ليضرب إنسانية المرء في الصميم ! تماماً كرؤية المشردين والعراة في مجاهل إفريقيا.

ووافقه الضابط على النقطة الأخيرة وإن عاد يذكره بأن الغاية لا تبرر الوسيلة دائماً، قال أيضاً :

 - إلهي ! تتحدث عن الإنسانية وقد هشمت لتوك عربة فوق رأس صاحبها؟ ولا تقل بأن هذه نقرة، وتلك نقرة..

- بل دافعت عن حق الطفل في الطعام، كنت أصدر عن عطف على الطفل لا كراهية أكنها للبائع.

- لا تجنح للتفلسف، كانت العربة لتتهشم في الحالين.

وأسلم يوسف منصور ظهره للكرسي يسأله عن شأن جاسر وفلاحات الورديان، أجاب الفتوة كأنما يقدم عربون خروجه من مأزقه :

- الأول جرت السيطرة عليه فلا عاد يظهر إلا وجلاً، والثانيات ينعمن بالأمان الكامل !

وقال الضابط في انفعال، وكان يقرأ عنوانات الجرائد وزيارة الرئيس عبد الناصر إلى مدينة مدراس الهندية ووعده بتشجيع الفيلم الهندي في الجمهورية العربية المتحدة :

- عفارم ! سأهبك فرصة أخرى،.. أخيرة !

وجعل الأخير يصفر، ويغني بعد إغلاقه لمحضر القضية (جزء من الأوبريت الإذاعي المشتهر آنئذٍ : أصل الحكاية الدندرمة) : "دوق الدندورمة مصنوعة بذوق.. تروى العشاق وتطفى الشوق !" حتى توارى ظل الفتوة عنه وقد ظن أن مُهماً لن يفلت من تحت يده، كان أبو جريشة قد التجأ بعد عهد كر وفر إلى عقد هدنة مع رجال الأمن - يعمل في وجودها تحت مظلة شبه قانونية - وقد بدت حريته مقيدة من جراء هذا، على أنه، وما أن أفلت من مكتب يوسف منصور، ذلك اليوم، حتى أعلن العصيان كرة أخرى، تتابعت تجاوزاته، وحار الأمن سبيلاً إلى الإيقاع به، وخلص منصور إلى أن شيئاً لن يوقع الفتوة المنفلت من عقاله إلا امرأة،.. كان الفتوة يؤمِّن مرور العابرين من بركة ماء (نتجت من الصرف الصحي) فأغلقت الطريق، كان يحمل الأطفال والعجائز فيعبر بهما سبيل الماء والأوحال والقاذورات - بحذائه البوت ذي الكعب العالي على مثال أحذية الجزارين - كالمارد، وجاء الدور على امرأة واسمها انتصار، وقالت في حدة غير أنثوية :

- معاذ الله أن تحملني يد رجل غريب،.. ولو تلطخ جسدي كاملاً بالوحل !

ووقف يرقب عبورها المتعثر حتى جذبه إصرارها فتعلق بها من واقع ما خلفته في نفسه من تحدي، وانتظر حتى بلغت الجهة الأخرى فقال يقترب منها وهو يرقب نعلها المتضررة، وقدميها المتسختين :

- ألم يكن من الأولى أن تقبلي بما قبل به البقية؟

- لست عجوزاً ولا طفلاً..

- إن هذا جدير بالاحترام والتقدير حقاً.

والتفتت إليه تقول :

- أنت أيضاً تقوم بما هو جدير بالاحترام !

 وانتشى لثنائها عليه، قال :

- هل تعلمين أن الحكومة - أعني يوسف منصور ومن معه - يقتفون أثري بسبب هذا الذي أكبرتني بسببه.

واضطربت لسماع الأمر بعض اضطراب كأنما خشت من أن يفتضح أمر تخفيه، وطفقت تداري بحسن أهيف مصطنع تلعثمها، ومضت الأمور على صفيح ساخن فظفر أبو جريشة بموعد في منطقة غريبة عنه هي "سوق الأنتيك" حيث تشتغل انتصار بائعة للخردة، وسألها :

 - وكيف السبيل إلى هناك؟

وعرجت إلى زقاق تقول :

- فلتسأل،.. ألا تعرف السؤال؟!

- أي موعد؟

ووقف بينما يسمعها تقول وتبتعد :

- ستجدني هناك صبيحة يوم الجمعة، في أي موعد قبل الغروب، إني بائعة لن يعدم سبيلاً إليها مَن بحث واسترشد !

كان أبو جريشة سباقاً إلى الحضور مع إشراقة النهار،.. كان سوق الأنتيك - ابن الأعوام الثلاثين آنئذٍ - يعج ببضائعه من التحف والأحذية والأجهزة - كالجرامافون - ويمتلأ بمئات تجاره الذين ينتشرون في شوارعه العشرين، قلب الفتوة ناظريه في أعداد المجلات والصحف القديمة على جهله بالقراءة،.. ثمة صور لمجهولين من الأزمان الغابرة عقدي الأربعينيات والخمسينيات، رجال يظهرون في الصور يعتمرن الطربوش، نساء يلبسن اليشمك (الملاءة اللف الشهيرة)، يخفي الباعة تابلوهات فنية عن الملك فاروق والأسرة العلوية، هاته التي أمست بعد عشية وضحاها منبوذة من النظام الاشتراكي الذي آلت إليه الأمور، وتطلع إلى صورة فاروق التي يعرفها متحفز الشعور إذ هو يحمل في صدره شيئاً من المقت نحوه، يظن أبو جريشة وجل الشعب معه ظناً شاع وذاع أن وراء كل نائبة أصابت البلاد في غضون القرن والنصف الماضيين يداً انتهازية استغلت وجود أحفاد محمد علي وأسرته.. إن من الباعة من يبيع العملات القديمة على مثال النكلة والسحتوت مقابل القروش الكثر، يسأله المشتري :

- بربك.. كيف تبيعهما (النكلة والستحوت) بهذه الأثمان؟ إنها سرقة..

ويقول البائع :

- أنت تشتري تذكاراً، لا قيمة عملة حقيقية في سوق تجارة !

ويتساءل الفتوة وسط كل أولئك : "أين انتصار؟! "حتى أتاه الجواب حين سمع صوتاً أنثوياً يهتف :

- رباّه.. لقد حضرت باكراً؟ وكيف حال السوق في رؤيتك؟ إني أقضي هنا جل أوقاتي.

وكان سؤال انتصار، وأفاق من استغراقه كأنما ثاب إلى غرضه، وأجابها بعد أن سر برؤية المرأة التي يعرفها في محيط من المجهولين والغرائب :

- أفضل مما توقعت..

وقالت في انفعال وحركة :

- كان يجب أن تراه حين كان سوقاً لمخلفات المنازل، وثياب مستعملة رثة، إنك إن رأيته على حالته القديمة تحسن انطباعك الراهن عنه.. لقد تحسنت أحواله كثيراً (أي السوق) وتحسنت حالتنا معه، يقف أبي هنا فترة ما بعد الغروب ! هل ستشتري شيئاً؟

- أجل سأشتري هذه (يشير إلى حذاء مستعمل..) !

ولبسه الرجل في قدمه الكبيرة فضاقت به، سألته دهشة :

 - أي مقاس تلبس؟!

- 45 !

واشتراه الرجل إكراماً للمرأة وعلل للأمر بقوله :

- سأهبه لصديق لي أعرفه، لدي من الأحباب ما يكفي، إن عائلتي، عائلة أبي جريشة، كثيرة الشجون والفروع بالإسكندرية !

ونادت المرأة على أخيها فعهدت إليه بتجارة اليوم ريثما يجيء أبيها، وقالت لأبي جريشة وهي تغسل يديها بماء ثم تشرع في تنشيفه بخرق:

- فلتقتفي أثري، إن لدي أمر مهم يخصك !

وصحبها الرجل القوي الذي كان يتلفت عن يمين وعن شمال بقدمين رخوتين، وسألته عما هنالك فذكر لها حقيقة خوفه من عيون البوليس التي تطارده، ثم روي لها قصة الدندورمة يبرز فيها مروءته فسمعته بنصف أذن ونصف اهتمام، يحاول الرجل التودد إلى المرأة لكنها تسبقه على الدوام، يسألها التمهل، لكنها تكرر :"سترى بنفسك.."، وانتهى سعيهما إلى بناء عتيق المنظر - كهيئة الرجل الهرم - في أحد الشوارع المتربة بالعطارين، قال وهو يحدق إلى تصدع حوائطه الخارجية كأنما ضاق ذرعاً بخفض الجناح لها :

- لا يمكن أن يحفل مكان كهذا بأي أمر مهم !

وأجابته في انفعال اهتز له منديل صغير من الدنتيللا كانت تتزين به :

- ألا يقولون بأن المياه تكذب الغطاس؟!

ودلفت إلى داخله (البناء)  وهي تأخذ تتغندر فاقتفى الرجل أثرها، كان فضاء البيت معتماً - إلا من ضياء يتسرب من الباب والنوافذ العلوية - ونادى على المرأة باسمها فلم تجبه، وهنالك أُوصِد الباب بغتة وفي شدة، وسمع أبو جريشة يداً تضغط على زناد فتولاه الذعر، وجعل يدفع الباب بمدد من الأدرينالين المندفع في أوصاله وعروقه دون جدوى، ولم يمر كثير من الدقائق حتى انتهى خبر الفتوة في جوف البناء العتيق، وانساب الضوء من النوافذ الفوقية مجللاً جثته الهائلة،.. غضبت عائلة أبي جريشة للأمر كل غضب، قال كبيرهم :

- لقد اُستخدمت انتصار كحصان طروادة، يجب أن نتخلص منها !

وقال ثانٍ :

- إن يوسف منصور من استخدم المرأة طعماً، والانتقام لا يكون إلا منه !

والتفت أكبر أفراد العائلة إلى الثاني يقول :

- وكيف تريد مني الثأر من ممثل الحكومة؟!

- جنازة وهمية، ونعش فارغ نملأه بالأسلحة والقنابل !

وقال كبير عائلة أبي جريشة وكان يأكل الفستق، يشيح وجهه :

- إن هذا مستحيل..

- استخدموا امرأة كقطعة قماش حمراء لثور، وسنستخدم النعش للخداع، ولا يفل الحديد إلا حديد مثله !

وقال الرجل يقشر قشرة الفستق الخارجية فيمسك بما فيها كالجوهرة في داخل الصدفة :

- ما أسهل الحديث !  وما أشق الفعل !

- الحديث والفعل رهنان لقبولك بالأمر !

وأقيمت الجنازة من العطارين - حيث انتهى الفتوة - وحملت الأذرع نعش الدمار، كان بنياً من خشب الجوز لا يدل من وجه على ما فيه، وطفقت الألسنة تهتف وتحوقل وتذكر، فيما النفوس تحمل نية الانتقام، وحضرت فلاحات الورديان فبكين الرجل الذي ذاد عنهن وعن تجارتهن، وكاد المخطط ينكشف حين قالت إحداهن :

- من عجب كيف يتحرك النعش فوق الأذرع بهذه السهولة ! كان أبو جريشة فيما خبرناه ورأيناه فارع الجذع سميناً !

لولا أن فلاحة أخرى قطعت السبيل إلى التفكر في ملاحظتها النابهة فجعلت تقول :

- سمين؟! اذكرو محاسن موتاكم ! اللهم أغسله بماء وثلج وبرد !

ونصح أهل الرجل للفلاحات بالانصراف كيما يجنبهن مصير المواجهة العسيرة، فلما استمسكن بتشييع الرجل أجبرنهن على الرحيل، وسارت الجنازة بعدئذٍ مساراً انحرف عن مقابر العَمُود إلى قسم كرموز، ووقعت المعركة الدامية فاستحال النعش ترسانة أسلحة، وتجهز يوسف منصور ومن معه بعد مباغتة، وقال تغشاه سحابة الغضب يبعث نخوة المسؤولية في ضباطه :

- تخلصنا من أبي جريشة والساعة نقذف بعائلته إلى إلجحيم،.. اليوم، اليوم، وليس غداً ! 

 اقرأ أيضاً : 

  الفصل الأول : على درب الرحيل

الفصل الثاني : لا ينبغي أن يكون للحب ميقات

الفصل الثالث : ما تغيره الأيام

الفصل الرابع : عبير الحرية

الفصل الخامس : حين بزغت أنوار الفجر

الفصل السادس : القلب يهفو إلى اللقاء الأول

الفصل السابع : خديعة في الميناء الغربي 

 الفصل الثامن : امرؤ بلا جذور

  الفصل التاسع : حين يجيء المساء

 الفصل الحادي عشر: الكأس والوصية

 الفصل الثاني عشر : ميلاد المدينة من حلم

الفصل الثالث عشر : فجر جديد

 الفصل الرابع عشر : خيانة في الريف

 الفصل الخامس عشر : الحزن الذي يجتاح أضلعي.. والعربي الذي لم يعد !

 الفصل السادس عشر : إنما الأيام مثل السحاب

 الفصل السابع عشر : أكاليل من الحب

 الفصل الثامن عشر : غريب على باب الرجاء

 الفصل التاسع عشر : حديث السلطة

 الفصل العشرون : موعد عند كلية فيكتوريا

 الفصل الثاني والعشرون: لقاء الرئيس في الريف

الفصل الثالث والعشرون : مفاجأة على أضواء الألعاب النارية

الفصب الرابع والعشرون : الاتحاد الاشتراكي ومنافذ الحرية

الفصل الخامس والعشرون: سطور عن الحياة في باريس

الفصل السادس والعشرون: أميرة تعود من المساكن الحمراء
  الفصل السابع والعشرون: عضني الاكتئاب ! 
الفصل الثامن والعشرون: رقصة تشارلستون في حفلة لويس
الفصل التاسع والعشرون: أباظة ينتصر لفلاحات الورديان
الفصل الواحد والثلاثون : لويس يشتري لوحة البرج والفنار
الفصل الثاني والثلاثون : خيالات أحلام في حرب اليمن
الفصل الثالث والثلاثون : هل يُنسى الحب في تنورة الدرويش؟
الفصل الرابع والثلاثون : أوديب ومعضلة المصير
الفصل الخامس والثلاثون : شجون مجسدة في عصفور الكوكاتيل !
الفصل السادس والثلاثون : لعنة كحذاء الطنبوري !
الفصل السابع والثلاثون : وجه يتحدى الزمن
الفصل الثامن والثلاثون : تقرير المصير
الفصل التاسع والثلاثون : حمام كليوباترا
الفصل الأربعون : مسيرة الحياة
الفصل الواحد والأربعون : آلهة الجمال
الفصل الثاني والأربعون : مشكلات العرب
الفصل الثالث والأربعون : اجتماع الجبل
الفصل الرابع والأربعون : همس الحب
الفصل الخامس والأربعون : قصة رودوس
الفصل السادس والأربعون : حلم في سيسيل

 اقرأ أيضاً : 

الفصل الأول : على جندول البندقية

الفصل الثاني : حب تحفه القناديل العائمة
الفصل الثالث :  عباءة أثينا سقطت على أكتاف الإسكندرية
الفصل الرابع: نافورة بختشي سراي !
الفصل الخامس : ورأيت رقصك كالجنون
الفصل السادس: حزمة من الذكريات
الفصل السابع: لعنة المدينة
الفصل الثامن: زناد الحب
الفصل التاسع: شيفرة الجمال
الفصل العاشر: مبادرة روجرز
الفصل الحادي عشر: رحلة في فلورنسا
الفصل الثاني عشر : أيام فاترة في البحر الأحمر
الفصل الثالث عشر : ذكرى الثأر
الفصل الرابع عشر : النهضة المصرية
الفصل الخامس عشر : قلب كارمن
الفصل السادس عشر : حديث الغريب
الفصل السابع عشر : لذة الحياة المنعمة
الفصل الثامن عشر : روح التمرد
الفصل التاسع عشر : زواج سري

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق