U3F1ZWV6ZTQ2MTMzMDkyMjMyOTgxX0ZyZWUyOTEwNDc0Mzc0ODg0Mg==

الكأس والوصية

 الفصل الحادي عشر: الكأس والوصية


تواترت على بهاء الدين أيام من الصلاة والعبادة في أبي تيج، كانت فاطمة ذكرى يأبى أن يسلم لحقيقة وداعها، إنها لا تفارق مهجته فتشحذ خواطره، ويرى المعاني بعينها،.. كان مستسلماً لعزلته يغلق الأبواب جل الليل والنهار ولا يخرج إلى طبيعة الريف إلا حين يجيء المغيب، يقرأ رسائل يوسف تأتيه بين آن وآن فتصف له أحوال الأبناء والأحفاد وتسبغ عليه أمناً وسلاماً، وعدَّ الماشية والطيور أصدقاء مخلصين، واكتفى برؤية البجع وقرأ عن إخلاص الطائر ذي المنقار الضخم :

-"تقضي حياتها مع شريك واحد، وإذا مات لا تبحث عن غيره، بل قد يتفق أن تموت بعده مباشرة!".

 ووجد أوجهاً للشبه بينه وبين الطائر المائي كانت مثاراً للتندر في غمرة الحزن والتسليم، ويوماً تحدث أهل الريف عن غيبة بهاء الدين عن ظهوره المعتاد أوقات المغيب،  واعتزاله الخروج في يوم من أيام أمشير فقالوا :

- إن شيخاً وفد من الإسكندرية لم يعد له اليوم ظهور !

ويقول ثانٍ في حس ريفي لا يعدم أبداً من التدخل في الخصوصية :

- لا ريب أن وفاة زوجه قد أدمت قلبه ! إنني أتسلل في ظلمة الليل كي أسرق من حديقته بعض الفراولة وأعود آكلها هنا، تحت ظلال الشجر الوارف !

ونظر ثالث إلى أفق بيت بهاء الدين فقال :

- ما أضخم بيتاً يقطن فيه ! ولو قُدر لنا أن نحوز جزءاً منه ما اعتزلنا الدنيا بل أوغلنا في صنوف متاعها إيغال الفائزين !

 وكان نوح - نجل سعيد الأبكم - بينهم يسمع ويرى، فأورثه الأمر قلقاً، وقال له الأول :

- لماذا لا تقصد إلى بيت الشيخ الغائب؟ لقد أنقذته وامرأته يوماً ولا ريب أن لك وجهاً عنده !

وتسربت إلى نفسه شجاعة فطرق باب بهاء الدين، وطال الطرق بلا مجيب، كان شيخنا يغط في نوبة من نوبات داء السكري، وحطم نوح الباب في قوة، ودلف إلى حيث رأى الشيخ على الأرض مستسلماً، وحمل نوح جسده وأجريت إسعافات طارئة أبقت به على حياة، وشخص بهاء الدين إلى منقذه يقول :

- نوح ! لقد أنقذتني في مرتين، كان أبوك (يريد سعيداً) رجلاً طيباً، ومن ثمارهم تعرفونهم.

وكان نوح يعبر تعبيراً استخدم فيه الإشارة دل على الامتنان والعرفان بالثناء، ومنذ ذاك اليوم أقام نوح في بيت بهاء الدين يشاركه حياته الجديدة، ويؤنسه في فصلها الأخير، وبادل الشاب شيخنا حباً بحب فاستعاض به وحده عن ذرية عائلة المنشاوي التي تلوثت بخيانة جعفر - وإن عدم من لسان ينطق به، فكانت أعماله رسوله ولسانه، كان يتفق أن ينهض (نوح) بخدمة الماشية وإعداد السماد وتهيئة الأكل، عل حين يمكث بهاء الدين يقرأ قرآناً أو يتأمل غروباً أو يتنزه في خضرة، وأنزله الشيخ من نفسه منزلة الولد فبات يضارع يوسف في ميزانه موضعاً ومثابةً، بل أضحى يفوقه في أحوال نظراً لحاجته المستمرة إليه في تدبير شؤون معيشته، وتعلم الشيخ من سبيل المعاشرة والتجربة أساسيات لغة الإشارة كيما يفهم منه رسائله، ويوماً قال له :

- من أسف كيف تحرمك الطبيعة من لسان تتحدث به،.. وايم الله لو مُنحت واحداً لكان يقطر شهداً !

وابتسم نوح في تواضع جم، قال ما مؤداه أن أعمالاً تنسب إلى الخيرية يقوم بها هي خير من ألف لسان، وعزم بهاء الدين على أن يقبل رأسه فتورع الشاب عن التمادي أو القبول وانتقل به الحال - بعد أن عكف عن الأمر - أن قبل رأس الشيخ ويده، وقال بهاء الدين كأنما عدم سبيلاً يطفئ به ما في صدره من معاني الشكران، وهو يرفع عصاه التي يتوكأ عليها :

- وسوف تشارك أبنائي في ميراث الأرض !

وأبدى نوح تنزهاً ورفضاً مهذباً كالمرء يأبى أن ينسب إليه ما ليس له، وقال بلغة إشارة فهمها محدثه أن يوسف والبنتين أولى بالميراث منه، وتراجع إلى الوراء خطوة أو اثنتين وولاه ظهره، وطفق يأكل خبزاً وجبناً، وقال بهاء الدين متأثراً بمشهده المتزهد وقد أورثه ترخصه مزيداً من العطف نحوه :

- لقد تزوج نجلي يوسف براقصة، حاولت أن أثنيه عن مراده فما كان إلا أن ناور وماطل، ثم عزم على الأمر عزمة استهان معها بكلمة أبيه،.. كيف يكون أولى منك بالفدادين؟ ألا تستحق أن تهنأ بحياة؟ لقد سلبت منك الطبيعة حاستك ولكنها لم تسلب منك آمال عمر الشباب.

ونطق نوح من سبيل الإشارة بأنه ليس إلا خادم مخلص لرجل عجوز، وأبدى ترفعه عن الزواج فقال بهاء الدين منفعلاً وفي سَوْرَةِ غضب :

-  ويحك ! ألست رجلاً؟ لابد لآدم من حواء.

ولكن بهاء الدين أعاد كتابة الوصية على نحو جعل فيه لنوح نصيباً من الميراث، وجعل موقعها (الوصية) تحت نمرقة (وسادة) ينام عليها،.. واشتد به الوجد والشوق إلى مدينة انصرف عنها، كان يسرد لنوح وقائع الأيام الخوالي كأنما يشير إلى جزء يسير من العصر الذهبي للإسكندرية (1860م : 1960م) :

-  ما أكثر حسنات الإسكندرية ! كنت أرى الجمال قابعاً في حارات المدينة في محطة الرمل وباكوس كأنها حوريات جميلة غامضة،.. وأما حَسنة أبي تيج الوحيدة فهي أنت ! لقد شغلتَ وحشة خلفها رحيل فاطمة، والحمد لمن بعث بك إليَّ في أرذل العمر ! قد تسلني عن الذرية من الأبناء والأحفاد، وأقول : أرى منهم كثيراً ولكني لا أرى أحداً !

وكان نوح يود أن يقول أن قرى كالنخيلة وبني سميع وباقور والمسعودي في أبي تيج لها ذاك السحر المماثل لمن عاش فيها دهراً وصارت له جذور رواسخ وذكريات باقيات،.. غير أن يديه لم تسعفاه فلزم صمته، واستأنف مضع الخبز والجبن.. ويوماً كان بهاء الدين يتريض حول أرض الريف فألفى شابة تحمل فوق رأسها قلة من الماء، كانت مشيتها قلقة على نحو هيأ للشيخ أن القلة ستهوي في كل ثانية، وأن فخارها سيتحطم لأقل سبب، ولكن الفتاة وعلى نحو غير مفهوم كانت تمضي وتمضي، ثم وقع أن انغرست قدماها في وحلة، وأدرك الشيخ - على تأخر بديهته وخف بصره - أن الصبية في محنة ستفضي لو تركت بغير معين - أقول ستفضي بالقلة إلى التحطم، ونادى شيخنا على نوح الذي جاء يعين الفتاة على وقفتها، وكانت تقول لبهاء الدين بعد أن عاد لها توازنها :

- ممتنة لك،.. كيف أرد إليك جميلك هذا؟ ما رأيك في قصعة لبن؟

وتأمل بهاء الدين عرضها ملياً، قال كأنما اهتدى إلى حل لشاغل يؤرقه:

- إن نوحاً من ساعدكِ،.. ورد الجميل لا يكون إلا له !

وكانت إشارة لا تخطئها العين، وأقيم عرس ريفي بسيط أريد به أن يكون خالياً من الأبهة، وقبلت العروس - واسمها تسنيم - رغم انتسابها إلى عائلة كبيرة في أبي تيج هي عائلة الأشراف - قبلت الزواج بنوح لما بدا له منه من الاستقامة والتجلد،.. واحتفلت عائلات الريف هناك كالصبري والفراغلية والعسال عقب إتمام العرس، واكتست قرى كدكران وأبو خرص والنخيلة وبني سميع بمياسم سرور لانتشار الخبر رغماً عن تكتم أصحابه بادئ الأمر، تعلو النبابيت وتلوح ويضرب الرصاص عالياً.. فأي هدف يقصد؟ وأقام نوح وعروسه في بيت بهاء الدين بعد إلحاح الأخير، ويوماً كانت تسنيم ترتب سرير بهاء الدين فألفت هاته الوصية قابعة تحت نمرقه، وقصدت إلى بعلها تقول :

- هل سبق أن رأيت هذه؟!

وأمسك نوح بالوصية وقد أورثه الزواج زيادة في الوزن، وبدا على وجهه التململ، وقالت تسنيم بعد أن زمت شفتيها في دهشة :

- رباّه.. بين الطيبة والسذاجة شعرة واحدة،.. إني أرى الشيخ يحبك حباً جماً.. لماذا لا تطلب منه المزيد؟!

وكانت الوصية تقضي بمنح صابرين وهدى ونوح فداناً واحداً فيما تمنح يوسف فدانين اثنين، وقال نوح ما مؤداه أن الشيخ فتح له بابه فأسكنه فيه وزوجه، ومن الطمع أن يطلب منه المزيد الذي لم يجعله له عن قرارة نفس، غير أن تسنيم - مدفوعة برغبة دنيوية في التملك - ألحت على طلبها فأتبعت قولها تقول :

- ألا يعدك الشيخ ابناً له وللذكر مثل حظ الانثيين؟ (ثم لما لم تجد منه جواباً..) صامت أنت دائماً، يستحل غيرك حقوقاً هي لك !

وأورثته كلماتها غضباً عظيماً غريباً عن شخصيته الموادعة الطيعة فكأنما باتت صورته تصدر عن المثل : اتقِ شر الحليم.. وصفعها على وجهها، قالت :

- لا تحزن على يوم يطردك فيه يوسف من منزل أبيه شر طردة،.. (ثم وصوتها يغيب في حجرتها متشنجاً بالبكاء..) سترى بنفسك، وكل آت قريب !

وألزمها نوح في شكيمة الإقامة في حجرتها على حين اجتمع مع بهاء الدين في مشهد الغروب المعتاد يشي له بما وقع، وأمطرت الدنيا من فوقهما وأبرقت واغتسل البرسيم ذو الأخضر الزاهي من أمامهما.. وقال بهاء الدين حين انتهى الراوي عن سرديته في سماحة غريبة :

- إن تسنيم على حق..  

ودله نوح على موقفه منها وغضبه الأخير، فوبخه الشيخ وقال :

- إنها فلاحة تدبر المستقبل بيدين بارعتين هزيلتين.. كيف تصدر عن رغبة سوء واسمها (تسنيم) يعني عين في الجنة؟

وكان بهاء الدين - كدأبه - متأثراً بالرؤية الدينية التقليدية يضع في قراره اعتباراً للمسميات فيتطير من هذه ويتفاءل بتلك، وصحب الشيخ نوحاً إلى حجرة الفتاة التي كانت تغط في بكاء وكدر، وقال :

- لقد عدّلت الوصية للمرة الثانية.. وسأجعل لها موضعاً هنا (يشير إلى كأس فارغة).. لا يفتح إلا حين أمـ..

وأمسك نوح بيده لا يريده أن يكمل، على حين تتابعت أنفاس تسنيم في نشوة كأنما ودعت عهد أحزان، قالت توجه رسالتها لنوح :

- سبحان من جعل شيخاً غريباً عن نسبك أعرف منك بمصالحك !

وقال بهاء الدين :

- لا يلام البريء أبداً في رؤية المحسنين.

وأخفى نوح الكأس والوصية عن أيدي امرأته لعلمه بشغفها الكبير، وهيامها بالأرض والمال،.. ومنذ ذاك اليوم انتظرت المرأة رحيل الشيخ على أحر من جمر، وأنجبت - في خضم الانتظار - من نوح طفلين هما بكر وبدور، وتخايل لها في منامها صورة طفليها يسألانها وهما يحبوان في أرض الغيط ويرتعان : "هل الأرض لنا؟" فزاد حنقها على أحوالها إثر ما تراءى لها بالحلم، ومقتت إعداد السماد وإطعام الماشية وتطلعت في أنفة إلى عهد رفاه ورغد.. وذات نهار وكان نوح نائماً سمعت المرأة بهاء الدين يكح ويسعل يقول بينما تغيم رؤيته :

- تسنيم، ابنتي.. أني أروم الماء، أكاد أموت !

وهرعت إلى مطبخ البيت الكبير تلبي مطلبه على عجل فلما انتهت ساورها هاتف شيطاني، وارتأت أن تتأخر عنه قليلاً، ثم عاودها وازع الضمير حين تناهى إليها صوت الشيخ المستغيث ذو الرنين العاطفي، فكأنما تلوت أحشاؤها في حضرة ملاك وشيطان،.. وفي خضم ترددها لاح نوح - الذي يقظ لتوه على إثر نداءات بهاء الدين المتكررة - فتسلم منها الكوب يكاد يقول لولا عجزه عن التعبير:"علام تنظرين؟ ولأي سبب تقفين ها هنا أيتها الحمقاء.."، وابتلع بهاء الدين من الماء رشفة بينما انقلبت صورته وتقلص خداه فجعل يغمغم :"الحمد لله.. مرة أخرى.. تنقذني يداك المباركتان!"، هذا فيما رمقت تسنيم نوحاً يمسح على جبين الشيخ - رمقته في شيء من المكر والغضب ! 



 اقرأ أيضاً : 

  الفصل الأول : على درب الرحيل

الفصل الثاني : لا ينبغي أن يكون للحب ميقات

الفصل الثالث : ما تغيره الأيام

الفصل الرابع : عبير الحرية

الفصل الخامس : حين بزغت أنوار الفجر

الفصل السادس : القلب يهفو إلى اللقاء الأول

الفصل السابع : خديعة في الميناء الغربي 

 الفصل الثامن : امرؤ بلا جذور

  الفصل التاسع : حين يجيء المساء
  الفصل العاشر : عرس سعيد في الورديان

 الفصل الثاني عشر : ميلاد المدينة من حلم

الفصل الثالث عشر : فجر جديد

 الفصل الرابع عشر : خيانة في الريف

 الفصل الخامس عشر : الحزن الذي يجتاح أضلعي.. والعربي الذي لم يعد !

الفصل السادس عشر : إنما الأيام مثل السحاب

 الفصل السابع عشر : أكاليل من الحب

الفصل الثامن عشر : غريب على باب الرجاء

 الفصل التاسع عشر : حديث السلطة

 الفصل العشرون : موعد عند كلية فيكتوريا

 الفصل الحادي والعشرون: رماة الأحجار في حيَّنا

 الفصل الثاني والعشرون: لقاء الرئيس في الريف

الفصل الثالث والعشرون : مفاجأة على أضواء الألعاب النارية

الفصل الرابع والعشرون : الاتحاد الاشتراكي ومنافذ الحرية

الفصل الخامس والعشرون: سطور عن الحياة في باريس

الفصل السادس والعشرون: أميرة تعود من المساكن الحمراء
  الفصل السابع والعشرون: عضني الاكتئاب !  
الفصل الثامن والعشرون: رقصة تشارلستون في حفلة لويس
الفصل التاسع والعشرون: أباظة ينتصر لفلاحات الورديان
الفصل الواحد والثلاثون : لويس يشتري لوحة البرج والفنار
الفصل الثاني والثلاثون : خيالات أحلام في حرب اليمن
الفصل الثالث والثلاثون : هل يُنسى الحب في تنورة الدرويش؟
الفصل الرابع والثلاثون : أوديب ومعضلة المصير
الفصل الخامس والثلاثون : شجون مجسدة في عصفور الكوكاتيل !
الفصل السادس والثلاثون : لعنة كحذاء الطنبوري !
الفصل السابع والثلاثون : وجه يتحدى الزمن
الفصل الثامن والثلاثون : تقرير المصير
الفصل التاسع والثلاثون : حمام كليوباترا
الفصل الأربعون : مسيرة الحياة
الفصل الواحد والأربعون : آلهة الجمال
الفصل الثاني والأربعون : مشكلات العرب
الفصل الثالث والأربعون : اجتماع الجبل
الفصل الرابع والأربعون : همس الحب
الفصل الخامس والأربعون : قصة رودوس
الفصل السادس والأربعون : حلم في سيسيل

 اقرأ أيضاً : 

الفصل الأول : على جندول البندقية

الفصل الثاني : حب تحفه القناديل العائمة
الفصل الثالث :  عباءة أثينا سقطت على أكتاف الإسكندرية
الفصل الرابع: نافورة بختشي سراي !
الفصل الخامس : ورأيت رقصك كالجنون
الفصل السادس: حزمة من الذكريات
الفصل السابع: لعنة المدينة
الفصل الثامن: زناد الحب
الفصل التاسع: شيفرة الجمال
الفصل العاشر: مبادرة روجرز
الفصل الحادي عشر: رحلة في فلورنسا
الفصل الثاني عشر : أيام فاترة في البحر الأحمر
الفصل الثالث عشر : ذكرى الثأر
الفصل الرابع عشر : النهضة المصرية
الفصل الخامس عشر : قلب كارمن
الفصل السادس عشر : حديث الغريب
الفصل السابع عشر : لذة الحياة المنعمة
الفصل الثامن عشر : روح التمرد
الفصل التاسع عشر : زواج سري

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق