يوم نطق الصمت

الفصل السادس والعشرون : يوم نطق الصمت 


شارك يوسف في التظاهرات الصامتة التي عمت أنحاء المملكة المصرية منددة بالإنجليز،.. كان قلبه يخفق باستقلال بلاده فكأنما نطق الصمت وتجسدت الأحلام، غير أنه - وبعد إلحاح من عفاف - لم يتخلف عن حضور أمسيات مقهى عبد الكريم،.. إنه إن جنح للإضحاك دون أن يتطرق إلى حالة البلاد الملتهبة - مثلما فرضت عليه قيود وظيفته الجديدة - لم يجد تجاوباً، ولم يظفر بما يرضي، يقول :

- وحدث أن بخيلاً أراد التبرع للفقراء فرمى ببعض الجنيهات عالياً وهو يقول : فالمال الذي يسقط على الأرض لي،.. والمال الذي يبقى في السماء فللفقراء !

ويسود الحياد على وجوه المستمعين من الجالسين أو المتوقفين عند محطة سيدي جابر، فيما تند ابتسامة عن واحد، يأخذ يصفق وحيداً، ويوقن يوسف الحقيقة الساخرة المتجسدة من أمامه،.. وقال لمدير المقهى :

- إن الناس متعطشون لحديث يجري الآن في البلاد ! (ثم حين لم يجد من محدثه آذاناً صاغية..) أعني إلغاء النحاس باشا لمعاهدة 1936م وما نجم عنها من تداعيات..

وقال صاحب المقهى وهو يأخذ يعد نقود :

- فلتبحث عن باب آخر تضحكهم من سبيله ! لماذا لا تلعب بالكرات الملونة؟ الأطفال يحبونها، والكبار يستأنسون بها.

وقال يوسف في امتعاض بادٍ :

- إنني مونولجست لا مهرج،.. إني أؤثر باب السياسة !

ورمقه الرجل بنظرة ترك معها ما كان يحصيه من نقود :

- إنك إن عجزت عن إضحاكهم إلا من باب واحد تكون دون المستوى! ألا تعرف أن المقهى استراحة الملك؟.. كيف تريد مني أن آذن لك بأن تتعرض لسيرته؟!

وقال يوسف كمن وجد حلاً لمحنته :

- لقد وقف الملك والشعب موقفاً واحداً معادياً للإنجليز في الأحداث الأخيرة، لقد صدر القرار بإلغاء معاهدة الصداقة والتحالف مصدقاً من قصر المنتزه، بمقدوري أن أتعرض للإنجليز دون الملك..

وقال صاحب المقهى :

- إن هذا حسن،.. ولكن حاذر من أن يجرك التمادي إلى ما لا يحمد عقباه !

ومنذاك جرت الأمور على منحى مقبول، جددت الفكرة الانتقائية حيوية العرض، وبُعث الابتسام فوق الوجوه الفاترة،.. كان يقول :

- أنى للمرء أن يقوم بالشيء وعكسه إلا أن يكون كالنحاس باشا حين قال : "من أجل مصر وقعتها، ومن أجل مصر ألغيتها.." (يريد معاهدة 1936م)، ولابد أن نثني على مرونة الرجل.

وكان الناس يبتسمون - على محبتهم الغامرة للنحاس - ابتساماً فيه استئناس وسمر، وأما عفاف فكانت زوجاً مخلصاً، تبدو أيضاً - بعمر يفوق عمر يوسف بسنوات خمس - كأم حنون وقلب رقيق، وقد خلص يوسف إلى أن فارق العمر بينهما - وإن مال لصالح المرأة - نعمة كشفتها الأيام، وأبرزتها الليالي، وكان هذا وفاقاً غريباً من صنف جديد، لقد اتفقت إرادتهما على سنوح فرصة الإنجاب بعد أن طال بهما أمد التقشف، وبات يوسف ينتظر أن يلحق بأختيه في امتلاك الذرية.. وبخلاف أوقات تنخرط فيها عفاف مع عوالم الحي - أصدقاء الماضي الذين يلحون عليها في عودة لا تواتي - في أحاديث - كالنميمة - عن أحوال الفن والمشاهير - بخلاف هذا تبدو زوجاً مثالياً، لقد أظهرته المرأة على ساكنة بك - أقدم العوالم والمغنيات المصريات بالعصر الحديث ومكافئة أم كلثوم في القرن التاسع عشر - وغيرها من ربات الفن المجهولات، وأمدته بمداد من المعلومات الفنية حين كان يحدث أن يجمعها حديث المساء وقتما يفرغ يوسف من لياليه في مقهى عبد الكريم، وتنتهي عفاف من أمسياتها في المقاهي المتنوعة بالمدينة التي لا تنام أبداً، ويتجاذبان الأحاديث الخافتة - كالنجوى - حول السخرية والغناء،.. ويوماً قصت له طرفاً عن نهاية العالمة سنية الحزينة :

- وهكذا انتهت تتسول رزق يومها، من العار أن نصور كيف يقلب الدهر ظهر المجن لمن أحسن ولم يُجازَ، (ثم وهي تجفف دموعها بمنديل..) لقد شهدت الأمر بأم عيني، وحفظتُ أيام عزها في حانات المدينة، وحتى لقد أتذكر خلخالها الفضي الغليظ يحبك كاحلها المتورم بينما المرأة تتمايل وتختال في براعة !

ولاحظتْ تأثره، فقالت تريد أن تبدد وجومه فينقلب وجهها من أقصى الحزن إلى أقصى السرور على منوال يضر بصدقية شعورها الأول إزاء الراقصة :

- لدي خبر سار، ذهبت إلى الطبيب وأطلعني على حقيقة أنني في طور الحمل الأول..

وأزهرت نفس يوسف بالسرور وترقرقت بمعاني الحمد، كان على عهد سنوات خمس مضت أو يزيد في اندفاعه الطائش دون صورة الأبوة رزانة وحكمة، ولكن ها هي ذي السنين تحيله - رغم فارق الطول والمهابة - إلى صورة قريبة من صورة أبيه بهاء الدين، وحتى العينان الزرقاوان فهي هي التي تتأذى من ضوء الشمس، وتؤثر حياة الليل والظلام، وأما الطباع فصورة مستنسخة مقلدة.. وكأن عهد التمرد قد انقشع وحصحصت الحقيقة الجينية الكامنة، فلا عاد إلا الأصل يبرز فوق أديم التغير الطفيف.. وقال يوسف لامرأته :

- وسوف نتنزه ونأكل السمان احتفاءً بخبر الولادة !

واختار يوسف حانوت "ملك السمان" بعدما فاقت رغبته النهمة إلحاح زوجه عليه بأن يقتصد في النفقات، إنه لحانوت يشتهر في الإسكندرية بتقديم السمان المشوي بخلطة الزعتر، وكانت عفاف تتطلع إلى صورته الشرهة - على ضآلة حجمه نسبياً - وهو يغرس السكين في قلب السمان فتعجب لها وتضحك، وكان يغمغم ويمطق بين آن وآن :"ما أشهى الزعتر !" فتنفجر عفاف انفجاراً صامتاً متطلقة الوجه، مجتهدة ألا تجذب انتباه الجلوس إليها وإليه، لولا أن تنفلت منها ضحكة مسموعة تخفيها بمنديل الطعام،.. قال وهو يلحظ تحفظها أمام الأطباق الموضوعة :

- ما أشقى الولادة وما أعسر ما تتكلفه من جهد ! تحتاجين إلى السمان ونحوه من الطعام الدسم كيما تقدرين على أن تلبي هاتفها المباغت.

وسأل عن الخواجة اللبناني إلياس رب المكان فلم يجده وعرف أن ملكية الحانوت قد آلت إلى مصريين منذ العام الفائت (1950م) بعد أن عكف جورج (ابن الخواجة اللبناني) عن الاستمرار في مهنة أبيه وتخلى عنها عائداً إلى بلده (لبنان)، وقال وهو يرفع السمان :

- ستؤول البلاد إلى أصحابها أيضاً !

ولاحظ انجذاب الجالسين إليه فخفض السمان في بعض خجل، وقالت عفاف :

- لقد أنقفت مبلغاً يعادل ما نأكله في أيام ثلاث !

- من الخير ألا يبخل الإنسان في إطعام نفسه،.. الحياة قصيرة !

وقالت في شيء من السخط - لأول مرة - منذ جلوسهما بالمكان :

- هذا لأنك تستهلك جهداً كبير في التظاهرات، وليتها تدر عليك دخلاً أو تأتي بثمرة !

وقال :

- إن البلاد على صفيح ساخن،.. كيف لا أشارك؟!

وقالت وهي تتذكر يوماً جاء فيه الطلاب إلى بيتها مطاردين، بينما تمسح فمها :

- ليتني ما سمحت لطلاب التظاهرات بالدخول، كنت بين إقدام وبين إحجام، وأما أنت فقد تغيرت طباعك منذئذ بغير رجعة،.. على المرء أن يتخلى عن شيء يريده في مقابل آخر يرغب فيه، الحكمة تقتضي ألا ينهل من الملاذت بغير ضابط، ثم ألا يسوقه الهوى والغرائز،.. انظر إليَّ، راقصة نبذت هوايتي الأولى (تريد الرقص) وآثرت عليها الإنشاد طلباً لوفاق عائلي،.. وأنت؟ ألا يعد قرب مجيء الطفل سبباً وجيهاً لتترك شيئاً !

وقال وكانت قد بقت على فمه بقايا من السمان فأشارت عليه عفاف أن يزيل أثرها، وقد فطن إلى أنها تقصد تخليه عن المشاركة بالتظاهرات الأخيرة :

- هذا ليس قبل أن يطرد آخر جندي من الإنجليز،.. أنسيتِ ما فعله تشارلي؟ لقد جار على حقينا في..


وقاطعته تقول :

- ثمة بالمملكة المصرية من هو شر من تشارلي ويدعي المصرية ! لا يخلو نسيج الأقوام الكبيرة من الانتهازيين والحقراء.

اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات قصص


وقال :

- في كل بيت مظلمة أصابت المصريين بسبب الاحتلال، إن الاحتلال في ذاته انتهازية مقيتة ينسحب وصفها على كل من شارك فيه أو لم يرفضه،.. انظري إلى صامتي الأمس الذين ملأوا الطرقات،.. ما أكثرهم ! (ثم لما لا يجد منها استجابة) آه.. لقد طبع على قلبك إزاء الأمر الجلل، (ثم وهو يشخص إلى موضع الطفل..) أريد أن يكون فخوراً بأبيه..

ونهضت عفاف تقول :

- يكفيه (تريد الطفل) في ظني أن ينعم بالكفاية في بيت لك ! بربك هل تظن أن عدداً قوامه مليون نفر أو يزيد ينقص إذا أنت تخلفت عنه،.. هل يضر البحر انتزاع زجاجة ماء منه ؟!

وبدت عبارتها ذات وجاهة رقمية وبيانية لا تُجحد، وقصدت المرأة ومعها بعلها إلى مخبز أثينا - المملوك بالأصل ليونايين والمنتقل لعائلة الخولي - فاشترت منه حاجتها منه، وكان على كثب من الحانوت الأول،.. وقالت عفاف :

- لقد بدأت هجرة اليوانيين من المدينة،.. كان الحضور اليوناني ملموساً في مجال التجارة والصناعة والخدمات والنظام المصرفي، وكذا في الطب والقضاء والخدمات العامة، واليوم.. اليوم بدأت شمس الطائفة اليونانية في المغيب، من الطبيعي أن يورث الخوف من المستقبل الطوائف الصغيرة انزواءً فهجرة.

واجتاحت يوسف عاصفة العمل الجاد فنهض يضطلع به كأنما بات يدبر أمر المستقبل لطفل سوف يجيء، لقد أمسى يصل الليل إلى النهار في فقرات المونولوج يتقي العوز، ويتشبس بأسباب الرزق ما وسعه، لقد فرضت عليه المسؤولية عكوفاً عن متابعة أخبار القصر والإنجليز والأحزاب، ومضى الاثنان - يوسف وعفاف - إلى وفاق تمخض عنه الحال وضروراته دون قرار يتخذ أو صدام يقع،.. وكان العوالم يتوافدن إلى الديار يبثثن صديقتهن نصائح الولادة، وبينهن صبي العوالم "ميسرة"، وأما يوسف فيضيق ذرعاً بحضورهن (العوالم) الذي يحدث - عادة - جلبة ناتجة من تداخل حديثهن وتشابكه فيتقيهم بمزاولة مزيد من العمل بالخارج، وكان يعجب غاية العجب - في غمرة ما يجتمع بالجلسة من صخب - من قدرة النسوة على تمييز أصواتهن وحديث غيرهن، ثم الولوج في نميمة تشتمل على كل غائب يرد على أذهانهن الفارغة،.. ثم عجب من انخراط ميسرة في الهرج الدائر وهو الرجل، فتقول واحدة عند طرف المجلس :

- أكثري من أطعمة غنية بالحديد،.. وقللي من المنبهات !

وتقول الثانية، بجوار عفاف :

- الرياضة الخفيفة، المشي تحديداً أنسب السبل كيما تقوين ساقيك على جهد الولادة..

وتقول عفاف :

- إن يوسف لا يدخر جهداً وقد ألح عليَّ بتناول السمان !

وتلتفت عفاف إلى يوسف تريد منه مشاركة فلا تجد إلا صمتاً،.. وتوالت أشهر، حتى جاء يوم جعلت عفاف تقول فيه :

- إنني أقرب إلى الولادة من أي وقت خلا،.. أشعر برغبة في الغثيان ووهن لا يفارقاني !

وكان العوالم يقلن لها :

- سوف يكون يوم المنى والسعد،.. إن شيئاً في دماغ المرأة لا يكتمل إلا حين وقوع الحمل والإنجاب !

وعلت ضحكات باعثة على الازدراء تلوى لها وجه يوسف، تداخلت الأصوات واصطخبت فيما بينها بكلام كثير، وانصرف الأخير كدأبه عن اجتماعهم وهو يقول لميسرة :

- وإذا وقع جديد في حالة سيدتك (يريد عفاف) فأقصد إلى مقهى عبد الكريم وأبغلني!

وحنى ميسرة رأسه في قبول وعاد إلى اجتماع العوالم حتى انصهر فيه، وقصد يوسف من فوره إلى مقهى عبد الكريم كأنما يتملص من عبث، ودار العرض الليلي ولاحظ يوسف وجود رجل يجلس في طرف المجلس معتمراً الطربوش، ممسكاً بجريدة، لا يكشف عن وجهه إلا لماماً، وكان يسأل صاحب المقهى عن أمره بعد أن أشار إلى موقعه :

- أهو مبعوث من طرف أفندينا (يريد الملك)؟

فيجيبه :

- لا أعرف،.. وحاذر من أن يجرك لسانك المنفلت أمامه إلى مهاوي المجهول ! (ثم وهو يتطلع إلى تجمهر محطة سيدي جابر..) وفي كل تجمع في بلادنا يحتمل أن تنشط العيون وأن ينزوي البصاصون !

ومضت الأمور على منوال حسن، واستوعب المرح وقتاً طويلاً في حضرة مساء لطيف النسائم،.. لولا أن واحداً من الجلوس سأله :

- ما أبرعك ! ولكن.. بحق السماء والأرض.. لماذا لا تتعرض لسيرة الملك؟ هل يلبس الرجل طاقية الإخفاء؟!

وحاول يوسف المناورة على حين علت ضحكات لولا أن هتافاً انتشر مصحوباً بتصفيق - كالنار في الهشيم - يقول : "نكتة عن الملك !.. نكتة عن الملك !"، وقال في تردد وهو يرمق صاحب الطربوش بنظرة ارتياب :

- حدث أن رجلاً كان يجلس في مقهى ويقرأ الصفحة الأولى من الجريدة ، كشأن أفندينا الجالس هناك (يشير إلى صاحب الطربوش كمن يبتغي وده)، ثم يلقي بها (الجريدة) في غضب،.. وحين سُئل عن السبب أجاب أنه يبحث عن اسم في صفحة الوفيات، وقال له من سمعه مستدركاً بأن صفحة الوفيات بالداخل، وقال : "إن الشخصية التي في خاطري لن يُعلن عن خبرها إلا في الصفحة الأولى !".

وكان إسقاطاً على شخصية الملك ذاع صيته سريعاً والتقته صاحب الطربوش فأذاعه إلى أرباب الشأن، ولم يمر الليل حتى جيء برجلين من الأمن فقبضا على الشاب لسخريته من فاروق، وكان يوسف يقول وهو يدفع الرجلين بغير طائل :

- ولكنني لم أسمي اسماً !


هذا ولاح في المقهى خيال ميسرة باحثاً عن يوسف فلم يجده !