الوفد، الملك، الإنجليز، والطرف الرابع !
كان بهاء الدين - بعد أن ترك منصبه في مجلس الأمة - يقرأ صحافة اليوم في حانوت الأخشاب حين أطلع على الخبر التالي بنصف اهتمام :
- "مازال خصوم الوفد والأمة في ذهول من نتائج الانتخابات والتي جرفتهم في طريقها كما يجرف السيل..".
ثم في عدد آخر :
"هب المصريون ليحكموا بالإعدام على مردة الحديد والنار،... وحافري القبور، ومنتزعي القلوب من الصدور،..".
وضحك الرجل - حتى بدت نواجزه - من هاته الصياغة الدعائية التي احتوتها الصحيفة الوفدية "صوت الأمة"، وقال كالمغمغم :
- الحمقى ! يحفلون بحصان طروادة، وغداً تنقلب المركب بمن فيها !
وبدا صوته الذي يقول :" وغداً تنقلب المركب بمن فيها.." مسموعاً لدى عبد الغني - نظراً لقرب الحانوتين من بعضهما - فجاءه يقول :
- وماذا تقصد بانقلاب المركب؟!
وسأله بهاء الدين دون أن يعنى بالجواب عن سؤاله :
- وكيف حال هدى؟!
- لقد بدأت تظهر عليها علائم الحمل أخيراً، لا تزال تعاني من كدمة تسبب فيها سقوطها المباغت بالفصل، وقد شملها (هدى) الأمر بمسرة كنشوة الأحلام، كان ظهور الأعراض بعد شهور ستة من الانتظار معجزة مشكورة، وسوف نسميه - إذا وافق أن يكون ولداً - فؤاداً مثيلاً لاسم الملك فؤاد الأول، كيما يحفل بسيرة كسيرة الملوك،.. هكذا أؤمل!
وسأله بهاء الدين عما إذا وافق المولود أن يكون بنتاً فلم يجد في ذهن محدثه اسماً حاضراً، كأنما لم يرتب لوقوع الاحتمال الثاني،.. ولكنه أجاب حين برق في ذهنه الجواب :
- أميرة.. سوف أسميها أميرة !
وأعاد عبد الغني سؤاله المتروك بغير إجابة فأجابه بهاء الدين :
- أعني أن الخرق قد اتسع على الراقع، لدي تجربة بالعمل النيابي سلمتني لقناعة يائسة مفادها أن مشكلات البلاد لن تحل ما دام له رؤوس ثلاث يتدافعون في غير اتجاه واحد ويسارع الواحد منهم في الجور على سلطة الآخر : الوفد، الملك، الإنجليز !
وقال عبد الغني وهو يرقب زبوناً يقف في حانوته ينتظره :
- ثمة طرف رابع !
وتساءل بهاء الدين منتبهاً :
- ومن يكون؟
وقال وهو يعود يلبي طلب الزبون :
- الجيش، الضباط المنزعجين من نكبة الحرب !
وبدت العبارة الأخيرة ذات أصداء في مشهد يومي مألوف، ولم يعرها - مع هذا - بهاء الدين التفاتاً حقيقاً بأهميتها الاستشرافية، وعاد عبد الغني إليه بعد أن لبى حاجة الزبون وكان قد اشترى سريراً من العاج ونقله مجزءاً على حنطور، فأمسك الرجل الوحيد بثلاث أكواب وسلمهم لطاولة صغيرة، وجعل يقول لعبد الغني بعد عودته :
- ولو افترضنا أن الكوب الفارغ يمثل الملك، وذاك الكوب الملآن بالشاي يمثل الوفد، وأما الثالث وفيه القهوة فيمثل الإنجليز.. أنى للأكواب الثلاثة أن تبقى على طاولة واحدة بهذا الحجم؟ (ثم وهو يرفع عينيه عن الطاولة إلى الشاب..) لابد أن يتخلى طرف عن موقعه وإلا أن يُحمل على التخلي..
وقال عبد الغني وهو يلاحظ كيف تنوء الطاولة الصغيرة بالأكواب الثلاثة، وتزدحم صفحتها بهم حتى لقد يبدو أن نسمة وانية في مقدورها الإخلال بالتوازن :
- ثمة من يمسك بركائز الطاولة، وتنساه !
وقال بهاء الدين في انفعال :
- آه.. دعك من هذه الفكرة ! (ونهض يتنسم نسائم الهواء فيستروح بها في الخارج فارداً ذراعيه يميناً وشمالاً، وقال في صوت خفيض..) لقد هجرت السياسة دون أن تهجر رأسي ! وعليّ أن أزور هدى !
وكان عبد الغني يشرب من كوب الشاي رشفة فرفعه يقول في سمر :
- إنه كوب بمذاق الوفد !
وهنالك مر عبد المجيد حسنين - المرشح الفائز بالانتخابات - في جلبة تصاحب أرباب السلطة في حينّا فعانق بهاء الدين - الذي ضم ذراعيه المفرودين بدوره حول الرجل، وقال عبد المجيد :
- ما كان لي أن أنتصر لولا انسحابك عن المشاركة !
وقال بهاء الدين :
- لا داعٍ للتواضع، لقد كان فوزاً طاغياً وكاسحاً لحزبكم !
وذكر بهاء الدين له شيئاً عن التزامات يفرضها الفوز الكاسح، وعن سنوات التيه التي شابت فترتي حكم الوفد السابقتين، من انشقاق السعديين، ثم انشقاق السكرتير العام مكرم عبيد، وضرورة تأمين الوحدة الداخلية،.. فقال الرجل وهو ينسحب في جلبة مماثلة لمقدمه :
- آمل أن يعي الحزب كل هذا ويتداركه..
وكانت هدى في الأشهر المنصرمة التي شهدت ظهور أعراض الحمل عليها قد لزمت الإقامة ببيتها، وعكفت عن التردد إلى مدرسة الإبراهيمية، فجاءها بهاء الدين وكانت مستريحة على السرير يقول :
- مبارك،.. (ثم وهو ينظر إلى بطنها المنداحة فيما يشبه الامتنان) سيكون فؤاد جميلاً مثل أمه..
وقالت تتذكر يوم سقوطها في الفصل :
- لقد أنقذتني العصا، عصا فضيل التي تركها تذكاراً في الواقع، وقد خففت من وطأة السقوط !
وهنا امتعض عبد الغني من نسبة العصا - ومن ثمة الإنقاذ - إلى فضيل، وقال كأنما يجنح لتكذيب الأمر برمته بوجه يطفح بالاستفهام والقنوط :
- بربك.. كيف تنقذك عصا من سقوط؟! إنها العناية وليس غيرها..
وقالت :
- إني أشفق على الأطفال ساعة رأوني طريحة الأرض ! إن أنفسهم وديعة غَضَّةٌ إلى حد أن منهم من بكى وانتحب !
اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات قصص
- "إن العالم الآن في مفترق طرق والحياة الدولية مليئة بالمفاجآت، ومصر بلد ناهض، ويجب أن يكون مستعداً لكل الاحتمالات ولكل الطوارئ..".
وقال عبد الغني في قلق على ابنه :
- أتمنى أن ينعم فؤاد بالاستقرار والكفاية في المملكة !
وقالت هدى تصادقه :
- أتمنى هذا أيضاً..
وتتابعت الأيام فمحى الزمان آثار السقوط واستردت هدى بعض عافيتها وإن أورثها الحمل إنهاكاً خليقاً بمن يحمل نفساً غير نفسه، وانتابها ملل وضجر من طول إقامتها بالبيت فغدت تكثر من التطلع من شرفته، إنها تشارك حياة الطريق بعينيها المتطلعتين.. وألح عبد الغني على تركيب المشربية تمسكاً بأصول الحشمة، وكانت في موقعها تكشف حانوتي عبد الغني وحانوت بهاء الدين، ويوماً أشارت إلى بهاء الدين من وراء المشربية، وكان أبوها - على صرامته في أحيان - محباً للحديث إلى أبنائه والتسامر، وقالت له كالمنادية :
- ألا أبدو لك حبيسة في سجن وراء المشربية ؟!
وقال الأب :
- تكون المرأة حرة في بيت زوجها على الدوام !
- ليس إلى هذا الحد !
ولاح عبد الغني من الجهة المقابلة لبهاء الدين، فطفقت تطلب منه مطلباً :
- إني أروم كعكة شيكولاتة !
ونظر بهاء الدين إلى عبد الغني فقال :
- إنه وحم الولادة،.. وعليك أن تدفع ثمنه !
وقصد عبد الغني إلى حلواني "تريانو" بمحطة الرمل كيما يلبي مطلب زوجه، وكان حانوتاً للحلويات مملوكاً - بالأصل - ليونانيين، وشيعه بهاء الدين بنظرات الابتسام فالقهقهة، وعهد عبد الغني إلى بهاء الدين بمهمة إدارة حانوتيه - علاوة على مهمته الرئيسة في إدارة حانوته - ريثما يعود مغالباً بسمة انتقلت إليه - كالعدوى - من عمه، وقال :
- لقد جئت بالصبي مراد كيما يقف في الحانوت الثاني، محل زكريا، وسوف يعينك حالما أعود !
وطالت مدة غياب الشاب فأورثت مسؤولية الحوانيت الثلاثة بهاء الدين تبرماً وضجراً، وكان يتنقل فيما بينها - كمثل تنقل النحل حين ينقل حبوب لقاح بين أزهار - يلبي مطلب هذا، ويرجئ الثاني، ويعتذر للثالث، وبدا مراد لصغره دون المهارة اللازمة،.. وقالت هدى في تفسير غيبة زوجها، من موقعها وراء المشربية وكانت ترى الناس بالسبيل في حركتهم كالنمل الدؤوب :
- لعل ديكورات إيطالية في تريانو شغلت لبه وخلبت نفسه،.. والغائب حجته معه !
ولم تكد تتم كلمتها حتى هوت المرأة في مكانها من وراء المشربية، وفزع بهاء الدين الذي كان يرقب المشهد، وأضيف إلى محنته في إدارة الحوانيت الثلاثة محنة ابنته فتناسى الأولى تناسياً حمله على أن يقول لمراد :
- إن الحوانيت الثلاثة، وحتى أعود، مسؤوليتك..
وهرع من فوره إلى بيت هدى فلم يعي حقيقة الباب الموصد إلا حين وصوله، كأنما أسكرته المفاجأة وشلت حواسه فظل يندب حظه حيناً، ثم استجمع قواه فطفق يرمي الباب بجنبه وكتفه مدفوعاً بحركة بضع خطوات دون أن ينفتح الحاجز، وخارت قواه فاقداً لوعيه، وانقلبت الأمور المستقرة فوق أتون ساخن باعثة على القلق، وجاء عبد الغني - ومعه كعكة الشيكولاتة - فهاله ما سمع من مراد، ووصف له الصبي مشهد السقوط الثاني - بعد سقوط الفصل - من وراء المشربية وما نجم عنه من تدافع الحوادث فاحترق قلبه بالجزع، وانطلق من فوره إلى بيته حيث وجد بهاء الدين فاقداً للوعي، وأزاح الرجل فوق درجات السلم في لَهْوجة وعجلة، ووضع يده في جيبه فلم يعثر على أثر للمفتاح، وأفلح سعيه في فتح الباب - بعد عدة ضربات استنزفت قواه - فهرع إلى الداخل حيث كانت هدى في سقوطها الثاني كالتي تغط في نوم، بريئة الملامح، هرع إلى هناك يزفر ويشهق ويتقلب على صفحات الإنهاك والانفعال، وإن هي إلا ساعات حتى نُقلت المرأة وأبوها إلى مشفى أمين يحيي باشا، ونظر عبد الغني - وهو ينتظر حالتهما - إلى كعكة الشيكولاتة في رثاء وغضب كأنما عدم من كيان يعزو إليه مسؤولية ما جرى ويجري، وتجسمت نقمته على مقاديره في كعكة، وجاءه الطبيب يقول :
- لقد فتحت هدى عينيها، إنها في غمرة الولادة،.. وبهاء الدين أيضاً، كانت نوبة من نوبات مرض السكري من النوع الثاني !
وانتفض عبد الغني بعبارات الحمد والشكران وكان يتوقع في قرارته ما هو أسوأ، وبلغ به تأثره برحمة استشعرها أنه صار مفحماً في بكاء، ودلف إلى حجرة بهاء الدين الذي أحزنه أن يعرف حقيقة إصابته بالسكري فأشاح وجهه، وإن رضخ لها (الحقيقة) في يقين ديني يتخذ من النائبة امتحاناً يُجازى عليه صاحبه، ولكنه ما لبث أن انتفض يسأله عن ابنته، فقال عبد الغني يطمئنه وهو القلق :
- ستمضي الأمور على ما يرام !
وضحك الاثنان من حقيقة أن ضرراً جسيماً - كاد يفضي إلى الضياع والموت - قد نتج من كعكة،.. وكان ليلاً طويلاً تأخرت شمسه وتضافرت فيه عوامل الترقب، وأشرأبت الأعناق وتدافعت الحدوس إلى معرفة ما كتب على ألواح غيب لم يجيء، وأشرق الفجر بمجي الطفل المنتظر، وكانت بنتاً فقال عبد الغني يرفعها منتحباً، وكانت تباشير الضياء الآتي تجلل صورتها العارية :
- لقد كلفتِنا كثيراً.. وأرهقتِنا من أمرنا عسراً !
وجيء لبهاء الدين في حجرته بعصا يتعكز عليها فأبى الفكرة أولاً، وقبل بها ثانياً حين ساقته لهفته إلى رؤية حفيدته - ساقته إلى التخلي عن المظاهر، وأوعز له اشتياقه إلى ذريته بأن يسلم لسلطان الزمان وضرباته في تواضع ورضا، واقترب بهاء الدين من الطفلة في خطى وئيدة فقال وهو يضع العصا جانباً :
- ما أجملها !
واحتشدت الراهبات العاملات بمشفى أمين يحيي باشا بزينهن المميز لرؤية الطفلة ذات الملامح البديعة، وسأل منهم واحد عن السبب فيما انطوت عليه من جمال وتهذيب كالمعجزة :
- وأي طعام كانت الأم (هدى) تتغذى عليه في فترة الحمل؟ وأي صنف من الألبان كانت تشتري؟
وغير هذا من أسئلة تجاور فيها الحسد والإعجاب، وتجلت فيها نشوة استشعار الحياة والوجود، وكانت صابرين تجيب على الأسئلة جميعاً بقولها :