الفصل الخامس والثلاثون:
الحياة التي تستمر
ي تيج..
كانت تسنيم قد عزمت أمرها على الزواج بإبراهيم رغماً عن إرادة ولدها بكر، نكصت المرأة عهدها في "الحياة بلا زوج بعد نوح" وقبلت بحقيقة الحياة التي تستمر، والقناعة التي يُعاد فيها النظر، ثم ظل الرجل الذي هو - وبما درج عليه الوصف الشعبي الذي تشربته - خير من ظل الحائط، كان بكر - آنئذٍ - يناهز عمر العشرين، يافعاً، في فورة الشباب، وقد ارتأى في ارتضائه بالحياة في ظل الرجل الغريب هواناً لا يقبله، فصب تصرف المرأة المنفرد جام غضبه على ما تبقى له من آخر الأواصر التي تصله إلى حياة الريف، وكأنما أمسى يرى الارتحال إلى الإسكندرية خلاصه وملاذه، بعد أن كان أمله ورجاؤه، وقال لها محموماً بالانفعال :
- لن أعترف به أباً لي، ولن يجد مني إلا جفاف المعاملة، فإذا أكرمته وهبته ابتسامة باردة خالية من كل معنى..
وقالت :
- العمدة الجديد رجل من أشياع غانم، ومن المعلوم أن الأخير كان يحمل كراهية لأبيك لم يجتهد في مواراتها طوال فترته، ولاريب أن نيرانها الكريهة ستصل إلى مضاربنا، على أجنحة خليفته، أعني نحن أسرة نوح والعائشون من حاملي اسمه، ونحتاج إلى الرجل القوي الأمين كعمود الخيمة في صحراء عاصفة..
وقال :
- ألا أبدو لكِ رجلاً؟
ومسحت على كتفيه بعد أن مدت يديها وكان قد أصاب طولاً هو فوق طولها في مدة وجيزة - كأنه نبتة الخيزران في نموها العجول - تقول:
- لا أريد لك أن تعارك أناساً بلا أخلاق !
وقال متحمساً :
- سأشاجر من يتعرض لنا بغير حق على خطى أبي نوح !
وقالت دون حماسته :
- لا أريد لك مصيراً كمصير أبيك، أرهقته المسؤولية، وعجلت بأجله !
وقال بكر يسوقه الغضب حتى بدا لا يعرف اللائق من غيره :
- تقولين هذا كله كي تبررين نيتك المسبقة في الزواج بالرجل..
وآلمتها عبارته فعدتها اعتراضاً شائناً جليل الإثم، وانقلبت بغتة من استرضائه إلى نقمة عليه، فصفعته على محياه صفعة قضت على ما بقى لها من محبة في نفسه، وفي الصباح الباكر من ليلة الحناء أيقظ بكر صخب الميكروفونات تذيع بالقرية نبأ زواج والدته بإبراهيم، وتململ فكأنما غص بما يشاع وعلق بحلقه كشوكة، وفكر في ترك البيت - كأنما يبحث عن سِّواغُ - يتمشى ويتريض قاصداً إلى الترعة، واستروح إلى هذا الرأي، ولكنه ألفى في سيره الأغاني تذاع من جهاز الجرامفون (على أسطوانة قطرها 30 سم)، تتنوع الحناجر التي تنشد بين ليلي نظمي وعايدة الشاعر وفريد الأطرش احتفاءً بعين المناسبة التي يمقتها، ثم أبصر اجتماع كبار عائلات القرية، وبعض أولئك الذين يكفرون الأرض فيهنأونه بزواج أمه، تاركين فؤوسهم - لوهلة عارضة - متصببي العرق منداحي الشفاه لا يعلمون ما يخفيه في أعماقه حقاً، بينما يمضي عنهم غير مجيب، كانت كل أولئك المراسم لغرض التجهيز للاحتفال بالزواج الذي فر بكر للتو من مراسمه فإذا بالمظاهر عينها وأكثر تطارده في كل نحو يذهب إليه، وبلغ الترعة، فاصطفى لنفسه موقعاً من هذا النهر الجاري بعيداً من الصخب، ومسح وجهه فتحرق متوجعاً من لدن خده، لا يزال أثر صفعة الأمس التي احمرت له وجنته وتورمت، ومكث يناجي الماء الساكن حتى آن الليل فآب إلى بيته ونام !
اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات قصص
وأما اليوم التالي فكان أنكى من سابقه وأشد وقعاً في نفس الشاب، إذ هو شهد على مراسم العرس الذي أصرت تسنيم على أن يُقام في حوش البيت الكبير الذي كان بدوره أشبه إلى ساحة مكشوفة تتوسط المسكن الريفي، وأقبل المدعوون وغير المدعوين بالـ "نقوط" الذي تجلى في صور المال والسكر والأرز والطيور، ثم الشربات بمذاق الفراولة، واقتربت تسنيم من بكر بعد أن صبت له من الأخير (الشربات)، وقالت كأنما فطنت إلى بعض ما يدور في دواخله فجاءت تسترضيه :
- أعرف كم تحبه.. هلم فخذ ما تشاء !
فقال بكر لها، حاد النظرة، غير مهادن :
- بل خليق بي أن أشرب قهوة مرة كالعلقم..
وتهيبت تسنيم من قوله وساورها شيء من التأفف فمضت تقول :"أعوذ بالله.."، كان بكر آنئذٍ يرقب صورة أمه المنصرفة عنه فإذا بكعبها محنياً، وعلى يديها رسوم، وأورثته صورتها المتصابية أسفاً، وتذكر أباه نوحاً وكيف انتهى إخلاصه إلى العدم، فخلفه على كرسي العمودية رجال أضاعوا الحق، ثم ها هي ذي أمه تنساه - هكذا ارتأى الأمر - في ليلة ذهبت فيها إلى الماشطة، وتحنت بحناء الزينة وبهرجة الاحتفال،.. وانفردت به الأم ساعة المغيب في غيبة من الحضور المتوافد، فقالت :
- أعلم ماذا يدور في خلدك، أجل، لقد قرأت دواخلك في عينيك إذ هما من الصدق الذي يتكشف معه كل شيء،.. تقول بأنني نسيت أباك نوح، وايم الله إنني لأبكي له، وأخجل مما اضطرتني الأقدار إلى الرضاء بمسايرته!
ونظر لها بكر نظرة شاع فيها عدم التصديق لها، ثم مضى منسحباً عنها، إذ هو، وفي هذه المرة، استيأس من الجدال معها، فالمرأة تريد أن تمرر ما لا يمرر، وما تصميمها على إقناعه إلا عبث واستنزاف جهد.