روايات وقصص، استمتع بأفضل روايات الرومانسية وروايات الرعب وروايات التاريخ في موقع واحد.

روايات وقصص، استمتع بأفضل روايات الرومانسية والرعب والتاريخ والخيال العلمي والبوليسية في موقع واحد،

عشرات القصص المثيرة والحكايات في انتظارك.

2024/11/04

سأعود كي أسترد حقي ممن تبلَّى عليَّ

                         الفصل الثالث عشر: سأعود كي أسترد حقي ممن تبلَّى عليَّ





في الكويت..

أبلغ فؤاد السلطات المسؤولة في دولة الكويت عن رمزي عملاً بنصيحة زوجه، ودلَّهم على حديثه الذي يستهين بسيادة البلد فأثمر تصرفه، وسرعان ما أخذ الأمر على محمل الجدية والسرعة - كالوميض يسبق فعل البرق - فُمنع الرجل من الإقامة، وآلت إلى فؤاد ملكية الحانوت الذي غدا بلا صاحب بعد إسقاط أملاك الرجل، ووصف فؤاد الأمر يقول :

- لقد كان أشبه إلى إزالة شوكة من القدم..

وكان آخر ما نطق به رمزي نحوه هو وعيد يقول :

- سأعود كي أسترد حقي ممن تبلَّى عليَّ..

وظهرت على غادة أمارات حملها الثاني، وكان عماد قد بدأ في تمييز الأشياء وقد نشأ في رحاب الوئام الديني، كانت تأخذ تعنى بشعره فتنظفه وتدهنه لما كان الطفل غير واعٍ بتنظيف يده مما يعلق بها من الأرز الكويتي ذي الزبيب والحمص الشامي، فلما شق عليها تنظيفه وتمشيطه اضطرت إلى حلاقة شعره جملة،.. وقال لها فؤاد :

- عزيزتي، إني مضطر إلى السفر إلى الإسكندرية، صحبة المولود الذي في يدك..

ورمقت طفلها الحليق في عطف تقول :

- وعينا أن المرء يُكثر من زيارة المكان لأنّ له إرْبة فيه يسعى إلى بلوغها،.. ما صالحنا اليوم بالإسكندرية؟!

وقال في جواب بدهي حتى عجب من أن يفوه به عجباً خفيفاً هو أقرب إلى الحياد :

- لقاء الأهل،.. أمي هدى ما عادت تجد من يؤنس معاشها أو يسعدها في هاته الحياة قط بعد أن رحل عنها أبي عبد الغني، سأجيئها بالمولود الذي سيكون جلاء حزنها..

وقالت :

- إني أخشى على عماد وعثاء السفر، وأخاف ضياعه الذي يدمي قلبي هناك، والراحة البيتية أولى بمن هم في مثل غضارته..

- كيف يضيع مني؟ أهو دُمية؟ وكأنني لست أحرص الناس عليه.

- الإسكندرية مدينة واسعة الأسبلة متشاجنة الحارات..

 - ألم يقولوا بأن أهل مكة أدرى بشعابها؟

ومضت نقاشات ذات شجون حامية حتى قبلت الأم بترك وليدها على مضض، وقد أعجزها الحمل عن مصاحبة زوجها في سفره، ووعدها فؤاد بدوره بالعودة في القريب وقبل أن تقترب من الفترة التي يزيد فيها احتمال أن يجيئها المخاض، عاد فؤاد إلى الإسكندرية محملاً بوافد جديد، ولم يجد في استقباله صبياً واحداً من معارف ماضيه إذ شغلت مآرب الحياة الجميع عن مقدمه، وقد تقدمت بالصبية أعمارهم فصاروا إلى ما صاروا إليه من الزواج أو السفر أو الانشغال بالثانوية.. سرت هدى بالمولود إذاً، وكانت قد علمت بزواج ابنها عبر الرسائل فأنكرت عليه اتخاذه للقرار المنفرد، واستوحشت أن تفوتها فرصة الفرح في خضم الأحزان التي اقترنت بعمرها المتقدم،.. وسألته منتظرة الجواب الذي يرضيها :

- وإلى أي دين سينتسب؟

- لم نحدد بعد، لا يجب أن نزيد في ملأ عقول الأطفال قبل أن يصيروا إلى استقلالية رأي، ما هذا بشيء ! ما هذا بشيء !

- ويحك ! تتحدث وكأنك بلا دين..

ورأى تخبطه في مرآة استنكارها له، فعاد إلى القصود بعد الحيرة والتلجلج :

- أعني إنه مسلم وسأظهره على شيء من المسيحية..

- كيف يستقيم هذا؟

وجاءه الإلهام على أكف الحرج أخيراً يقول :

- سألقنه محبة الإله وهو رب الجميع.

وأحست أنها أزادت في الموضوع الذي يربكه مما لا يليق باستقبال عائد من سفر، فعادت تقول بعينين ملؤهما طاقة من السرور والبشر :

- إنه جميل حسن على أي حال، لولا أنه بلا شعر..

- استعصى علينا تمشيط شعره لما اختلط بالأزر الكويتي، وقد خلصت أمه إلى حل راديكالي جذري بأن اجتثته عسى أن ينبت غيره..

- أكان خشناً أم ناعماً قبل تصرفها هذا؟

- إنه بين بين..

- كشعر أبيه؟

وابتسم يقول وهو يضع يمناه على هاته المنطقة الوسطى الخفيفة من شعر رأسه :

- كلا بل هو خير من شعر أبيه (يريد نفسه)..

وتنهد حين انتهى من شأنه الشخصي يسألها :

- وما حال الإسكندرية؟ وحالكم؟

وأجابته المرأة على سؤاله الثاني دون الأول :

- إننا بخير ما دمت كذلك..

فعاد يسأل :

- والمدينة؟

وقالت الأم :

 - إنها محفوظة ببركة إلهية رغم أن العشوائية تهدد جمالها القديم، كأنها عروس ذات حسن أو حوراء فاتنة ولكنها لم تتزين منذ عقود، وفي مصر تمضي الأمور بلا خطة مرسومة ولكن بتوازن النوايا الطيبة من جهة مع سوء التقدير من جهة أخرى.

وبعث وصفها الهم في نفسه حتى لزم صمتاً وهو يرقب الأم التي باتت تجد الصعوبة في إطعام الحمائم وتجهيز لوازم السفرة : سمك البربون الذهبي فوق أرز الصيادية، وسلطة البصل بزين الزيتون، واقترح أن ينهض بالأمر عنها، ولكنها أبت معللة بحقيقة أنه مسافر والمسافر في حاجة إلى راحة، وقد كانت - في الحق - تتأبى أن تكف يدها عن الشغل والعمل الذي يعني تسليماً بالعجز والكبر، وصحب فؤاد نجله عماداً في جولة بالمدينة عساه أن يلقنه محبتها في الصغر، كان يجعل لساقيه الصغيرين مجرى حول عنقه ويحمله على ظهره الذي بدا أنه غدا قوياً متيناً وقد أصقل العمل الشاق وحمل صناديق الدمى بالكويت بنيانه المراهق فصيره وبدله، ومضى به بين هاته الأتوبيسات الصفراء والزرقاء حتى بلغ ميدان عرابي يقول لمن يحمله ولا يفهمه :

- أريدك بطلاً كصاحب هذا التمثال..

وجعل الطفل يبكي وطفق الدمع يجري من محجريه وأغلقت عيناه من أدخنة العوادم، وعاد فؤاد يلوم نفسه يقول وهو يتذكر مآل عرابي حين يستعيد مسألة نفيه في جزيرة سيلان (سيرلانكا) وما جره عليه فشله في صد الإنجليز من سوء معاملة في منفاه الأخير حتى خف بصره ومات :

- لا أريدك كصاحب هذا التمثال، أريدك بطلاً ظافراً حتى النهاية، مهلاً،.. ولو أنك اكتفيت بحياة عادية فلا بأس..

 

في استوديو التصوير..

كان مظهر لم يلتفت حقاً إلى رغبة نور في الحديث والسؤال، وواصل حديثه عن تاريخ السينما التي يعرف بعض أخبارها فيما يشبه النرجسية التي تجعل الأشخاص ينصتون لحدسهم الداخلي وحده متجاهلين غيره من الحدوس، يقول :

- وأما النجومية فصدفة كاملة أشبه إلى ليلة تبتسم فيها المقادير للمقامر على طاولة روليت،.. كيف صار عمر الشريف نجماً عالمياً؟ سأحكي لكِ القصة : لقد جاء مخرج لوارنس العرب ديفيد لين إلى مصر يوماً يبحث عن بطل فيلمه العربي، وقد خلصت الترشيحات آنئذٍ إلى رشدي أباظة، ولما كان الأخير دينجواناً راسخ الشهرة في مصر فقد تأبى أن يختبره المخرج الأجنبي، واستنكف عن أن يُعامل معاملة الهواة، وقال (وهنا يقلد مظهر نبرة صوت رشدي أباظة في أدوار أفلامه تقليداً ساخراً يصور حواره المتخيل مع المخرج البريطاني) :

- في سينما ديانا فيلم لي، اسمه في بيتنا رجل، سيد لين، اذهب وشاهده..

 

  اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات

(ويعود مظهر إلى طبيعته الراوية يقول) قصد المخرج إلى السينما فتعلق بنجم آخر، واجتباه لمشروعه السخي، لقد أعجب بملامحه جملة ما خلا حسنته التي طلب منه إزالتها، ومن لورانس العرب بدأ كل شيء، وهكذا مضت الأمور..

كان في يد مظهر سيجار من مخدر، وقد كانت نور غير ميالة إلى الحكم على البشر من تصرفاتهم، وإن حملها الأمر على بعض الاحتراس الطفيف، وجعل الرجل يقول كالهاذي في صوت أعلى مما يجب :

- ولو أن المخرج البريطاني شاهد فيلم في بيتنا امرأة مثلاً، لما كان عمر الشريف بطلاً عالمياً، ولا سلك مساره، لعل بطلاً آخر في فيلم آخر قد حاز شهرته العالمية، انظري كيف تُكتب الأقدار بخط لاهٍ..

وعاودت طلب سؤاله بعد قهقهته غير المبررة، فصمت على نحو أوحى لها بالحديث تقول :

- إن في الفيلم عواطفاً أرجو لها أن تختزل، أهلي بالصعيد قوم محافظون، كما تعرف، وسيغضبون إذا هم رأوا ما يثير حفيظتهم، وسينزعون إلى التدمير كمثل حادلة غاشمة تجرف كل شيء في طريقها..

وقال :

- العواطف ضرورية لبناء الفيلم، والسينما للشباب كما تعلمين، إن أولاء لن يقصدوا إلى دور عرض لفيلم من بطولة عجوزين..

وقالت وهي تمسك بنص السيناريو فتقلب أوراقه حتى تبلغ غايته :

- العواطف ضرورية والقبلة هنا زائدة بلا ضرورة !

وبدا مظهر على حال من الضياع الذهني حتى لم يعد يدرك ما يفعل فيقول :

- سأحذف هذه، ولكن من ذا يهبني أخرى عوض ما حذفت؟

ونهضت في ارتباك جم فقارقت نطاق الاستوديو في خطى متعثرة، كان مظهر - الذي أفاق لتوه من تأثير المخدر يبحث عنها كيما يعتذر منها، وقد تعثر حذاؤها الجلدي واحتجزه باب الاستوديو ففسد تكوينه، فلما رأته (مظهر) قادماً نحوها أخطأت في تقدير نواياه ومضت دون الحذاء، كانت على حال من الذهول والأسف والخذلان حتى فارقت النطاق القلق، وظلت هائمة على وجهها حتى اهتدت إلى أقرب الفكر وأكثرها رصانة : أن تشتري حذاءً عوضاً عن هذا الذي فسد وضاع، وقصدت إلى حانوت الخواجة جورج بين كامب شيزار وبين الإبراهيمية، كان صاحبه أرمنلي، لطيف كيس، ورمقت تكوين الحانوت الخشبي كأنما لاذت بلحظة تشيع فيها الأصول الكريمة التي افتقدتها في استوديو التصوير، إنه لحقيقة باقية من زمن ثري، جالت فيه النظر ريثما انتهى الانتظار، ووهبها الأرمنلي مثيلاً لما قد فسد، هناك تنبهت إلى أنها قد سارت طويلاً نصف حافية، وسألته :

- ألا تفكر في هجرة المدينة؟

وأجابها الرجل قائلاً : 

- إني أرمنلي، إسكندري كأهل المدينة..

- بل خير منهم..

وعاد إلى اندماجه في فضاء المنتجات الجلدية يقول :

- العفو..

عادت الفتاة المرهقة من تشاجن وتصاخب الفكر إلى بيتها، لقد كانت تناجي نفسها : "لقد تطاول الرجل حقاً، عساها أن تكمل الفيلم مع مجاوز مثله؟ فليضع الفيلم ولتفقد المجد كله، لقاء لحظة أمان، اتقاءً للذعر الذي تملكها ولا يزال.."، وجدت يوسف قرب هذا الأصيص الصناعي لدى باب البيت يسألها :  

- هل قصد صاحبكم (يريد بكر) إلى هنا؟

وأزادها حديثه توتراً على توتر تقول :

- ألم يكن مقيماً في دارك؟

- أبصرته وقد فر من بين يدي بلا دليل إليه، إني أبحث عن معطف الكشمير الذي استعاره دون أن يرجعه..

ولاحظ يوسف ما في قولته من ذاتية محضة حين نطق بها، حتى أن نور تطلعت إليه في عجب لا يخلو من ازدراء، فأضاف يقول :

- إن سلامته موضوع اهتمامي أيضاً.

وقالت وهي تفتح الباب فيتزحزح يوسف عن سبيلها دون تنبيه منها له:

- لعله (أي بكر) ها هناك، رفقة عز..

ودلفت إلى الداخل تمضي في بهو طويل وتنادي زوجها، وألفته لدى مكتبه في إنهماك وشغل، وسألته عن مأربها وقال هو فيما يعود ينفتح الباب لمقدم يوسف الذي كان قد تتبع مسير المرأة بخطواته القصيرة :

- إني أبحث في موضوع مختطفيه (أي بكر)..

وداهمها قوله كأنما ألقى عليها دلواً من ماء فَسَرَت في جسدها قشعريرة، وأردف عز لما لاحظ منها هذا :

- بعض المراقبين لدى عطفة راشد بمحرم بك تحدثوا عن رجلين طوقوه وضربوه..

ألجم الخوف لسان المرأة وشل منها الحواس، واقترب يوسف - الذي كان على حال أفضل - من عز وقد أُخذ هو الآخر بما قد سمع، وحتى لقد خجل من أن يكون دافعه في البحث هو معطف كشمير خجلاً لم يفصح به، يقول :

- هل مات الولد؟

وأجابه عز في تحليل راجح :

- لا أظن، إن للمختطفين في حياته مأرباً.. 

 


 اقرأ أيضاً : 

           الفصل الأول:  لقد أعماها الحب

الفصل الثاني: المعنى الغائب

الفصل الثالث : لا أجد ولا أرى غيره

الفصل الرابع : اجتماع عائلي في مسرح سيد درويش

الفصل الخامس : ولتغفر لهم

الفصل السادس: لقد جئت إليَّ رسولاً منجداً

 الفصل السابع: نقاش حول غوته

الفصل الثامن: عواقب عملية رمضان

الفصل التاسع: حول الهيمنة الأمريكية

الفصل العاشر: صراع في كنف الغروب

الفصل الحادي عشر: أوهام في معبد الرأس السوداء

الفصل الثاني عشر: يوم انفجر الأمل

            الفصل الرابع عشر: قلوب حائرة

الفصل الخامس عشر: أمل الحياة

الفصل السادس عشر: الفردوس في السماء لا في الأرض

الفصل السابع عشر: اعتذار

الفصل الثامن عشر: وجه آخر للحياة

الفصل التاسع عشر : أيام عصيبة في الجنوب

الفصل العشرون : نقاش في ستوديو التصوير

الفصل الواحد والعشرون : أيتها السماء.. فلتتركي السعداء وشأنهم

الفصل الثاني والعشرون : رجاء الحق

الفصل الثالث والعشرون : خطاب من فيفيان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق