روايات وقصص، استمتع بأفضل روايات الرومانسية وروايات الرعب وروايات التاريخ في موقع واحد.

روايات وقصص، استمتع بأفضل روايات الرومانسية والرعب والتاريخ والخيال العلمي والبوليسية في موقع واحد،

عشرات القصص المثيرة والحكايات في انتظارك.

2024/11/04

يوم انفجر الأمل

                        الفصل الثاني عشر: يوم انفجر الأمل





أحاطت بمراد هالات الأسى بعد أن فقد صغيرته إيمان في المهد، وانفجر أمله في ذرية تلدها له زوجه الجديدة أميرة، وقد وقع في نفسه شيء إزاء الإنجاب جملة فاكتفى بنجليه : رؤوف وفردوس، وصد تطلعه في المزيد لما اكتوى بمرارة الفقد، وصارح زوجه بما يشغل وجدانه من هواجس التخلي، فقال :

- سأكتفي بالولدين ولن أطمع فيما عساه أن يورثني تجربة ألم جديدة..

 ورحبت المرأة باقتراحه وفرحت بما يخلي مسؤوليها فيما كانت تكرهه تقول :

- أجل، كنت أرى في رؤوف وفردوس ولدين لي، على الدوام..

ونظر إليها يقول كأنما يهدف إلى الاستعاضة عن إنجاب الأولاد عبر تشجيع ولديه على الزواج العجول :

- الحفيد كالابن،.. أليس كذلك؟

وأومأت له أميرة أن نعم، ولكنه عاد متردداً يقول :

- فردوس في الثامنة عشر، ومن الإجحاف أن أحملها بما لا طاقة لها به، ولكن، مهلاً، رؤوف بوسعه الزواج لو أنني دعمته بالمال، ولو جدَّف الجميع في الاتجاه عينه ستصل سفينته إلى برها المأمول، أجل،.. أعلم كم يجتهد في كلية الألسن عساه أن يعوض أسفه في عدم دخول الطب، بيد أني سأقول له وحين ألاقيه : إن حياة بلا ذرية ولو أنها حفلت بالمنجزات هي أشبه إلى مطاردة السراب، إنها مطاردة مستحيلة النجاح مخيبة الرجاء، أنت تقتفي أثر المستقبل دون إشباع أو إمساك أو امتداد، كمن رام عبثاً الإمساك بالماء، أحسب أن نسبة الإناث في كليته (أي الألسن) تزيد فيها عن نسبة الذكور، وإن منهن - أي الإناث - من يصلحن له ولا ريب، أجل، سأصارحه بهذا كله عساي أن أغريه بما في نفسي..

وفي هاته الأثناء كان رؤوف لدى الريس جعة : بائع البيرة الأعمى بالعامرية، كان رؤوف الذي يحرص على أن يحتفظ بتقدير عام جيد - لايهبط عن ذاك ولا يزيد - في مجمل أعوامه الدراسية الفائتة يجد سلوى نفسه هناك، وكان غرامه بالكحوليات - يسميها بالمشروبات الروحية - يتنامى فيقصد إلى حوانيتها في خواتيم أيامه الدراسية أو بين محاضراته التي يفصل بينها من الأوقات ما يسع التنقل والعودة، وسأل رؤوف البائع مراده، فأجابه الريس جعة وكان على فقدانه للنظر قوي الشعور حاد السمع، يقول :

- اليوم لا نبيع الخمور، إنها ليلة النصف من شعبان..

- بربك،.. هل تقف للزينة؟ وماذا أنت فاعل هنا؟

وجهر جعة بجواب جليَّ كأنه يقرر حقيقة أخلاقية في غير موضع التقرير:

- بني، فارق بين العصيان والفجور، ولو أننا بعناها في المناسبة المباركة، ليلة البراءة، نكون مجاهرين مجترئين..

ومر بهما عربي متدثر في قفطان أبيض من تحته سروال، وكان العرب هناك يتحدثون بلهجة محلية خاصة بهم، ولكنهم يتعاملون مع غيرهم بلهجة يفهمونها، وسمع رؤوف يقول لجعة :

- لقد أغضبتني حقاً أيهذا الأعمى..

- فارق بين أن أفقد البصر وبين أن أفقد البصيرة.

- فلتدهن الكشك بالجير إذاً أو ولتضع عصا من خشب بين كرسين ومقشة أمامه بدلاً من أن تقف وقفة الأهبة وأنت بلا عمل كخيال المآتة..

وأجابه جعة بجواب حمل المسبة له بعد أن نصح له بالاحتفاظ بنصائحه لنفسه، واشتبكا ملياً فأبدى الرجل الأعمى قدرة عجيبة على مجارة روؤف كأنه المبصر، وفصل العربي ذو القفطان بين المتخاصمين وحاول عبثاً أن يصل بينهما إلى كلمة سواء، ثم لما أمسك جعة برقبة من أمامه قال  (العربي) فيما يشبه التحقير المبطن الذي لا يخلو من استعلاء :

- فلتدع الأفندي، أيهذا الفلاح..

ومضى رؤوف رفقة صاحبه الجديد الذي عرف أن اسمه هزاع، وسأله :
- إنه (أي جعة) ليس فلاحاً قط.. لماذا وصفته بالفلاحة؟

- إنه وصف كنا نخلعه على الفلاحين، ثم توسع ليشمل كل من ليس منّا..

ومر الاثنان بصعيدي فرمقه هزاع في شزر، ولم يجتهد الآخر في أن يخفي نظيره من الشعور المكهرب، يقول (هزاع) :

- صعايدة العامرية ينازعوننا نحن العرب على المال والنفوذ، وسيتركون نزعتهم القبلية حين يترك الشايب ما شب عليه، ثمة المسيحيون أيضاً وهم الأكثر سلاماً وانزواءً، كالحملان، وأبناء البلد (يريد أهل الإسكندرية) وهم قلة مثلك، بعضهم ولدوا هنا، وبعضهم وافدون أو زائرون !

- وكيف حدست بأني غريب عن هنا؟

ونظر هزاع إلى هيئة الذي يرافقه في سيره يقول :

- القميص والكراس، وصورة الوجه الغريب عن مألوف الوجوه هنا، هذا الذي يدخل القلب لسماحته، إني عليم بمسائل الفراسة من طول معاشرتي لصنوف البشر، ومن عارك الحياة طويلاً ألفاها في تكرار بائس..

وحدس رؤوف من جملة تصرفات هزاع بما أوعز إليه بحفظ مسافة منه، لم يأنس له قط، ولم تستقر بواطنه نحوه بالعطف أو الودية، وكان به نزعة عامة إلى الجبن، قال متأثراً بهذا كله :

- أعذرني، هلا أخبرتني إلى أين نحن ماضون؟

وابتسم هزاع يقول :

- العرب من بني جلدتي هنا يحبون الأفندية مثلك، وسيحفلون باستقبالك في ديارهم استقبال الكريم للكريم..

استقبله العربي في داره إذاً وقدمت له فتاة - بدا أنها مسرفة في احتشامها حتى لا يكاد يدرك الناظر منها سوى عينين واسعتين - الشاي الأخضر، وأزادت في تقديم غذاء الفتة الذي توزع في صحون زجاجية، كان الخبز مطهواً على الصاج، وسأله هزاع وهما على الأرض جالسان صحبة نفر من الرجال هم أخوة هزاع وأعمامه وأخواله، وأولاء قد جعلوا يتحدثون بلهجة لم يتستبن منها رؤوف إلا لماماً -  أقول سأله حين لاحظ تحرجه هذا :

- ألا يعجبك الطعام؟ ماذا تحب أن تأكل إذاً؟

وأجاب رؤوف في حرج، وهو يتابع الفتاة الأعرابية التي مضت إلى بابها فأرادت أن توصده ولكنه عاد ينفتح حين بلغ غايته مجدداً فانتهى موارباً كأنما قد اندلق :

- أحب الأسماك، كالسبيط والقريدس (الجمبري) على الخصوص..

وأبصرها رؤوف في غير حجابها المحكم بطرف ناظريه عبر الباب الموارب على حين كان الآخر يسأله :

- ماذا يعجبك في ديدان البحر هذه؟

والتفت إليه رؤوف وقد حمله الأمر على التقزز حتى كاد يبثق ما في جوفه لولا أنه تجلد واعتصم بالاحتمال، واحمرت عيناه وخديه إثر ذاك، وسأله هزاع سؤالاً له ما بعده :

- الفلاحون يحاولون تكوين العلاقات ببنات عائلتنا، ولكن دون جدوى ! هلا فكرت أنتَ في الأمر أيضاً؟

رمقه الأعمام والأخوال كأنما يترقبون جوابه، وبلغ رؤوف من التحرج غايته فنهض عن اجتماع الجلوس إلى حيث غسل يديه ومسح على ما تبقى من حبوب وجهه بماء فاتر بارد، (وكانت قد أخذت الحبوب تتضاءل وتختفي بعد أن بلغت أوجها في ذروة مراهقته وإن بقى لها  لا يزال بعض أثر)، ونظر إلى باب الفتاة الذي تبين انغلاقه التام هذه المرة فهتف به هاتف الانصراف، قال لهزاع :

- سأرحل الساعة، لا أعرف كيف أشكرك، وقد أصبتُ مني نائلاً..

وأجابه القاعد وسط النهمين من أهليه يقول :

- لشد ما أنت عجول ! انظرني حتى أغسل يدي وأودعك وداعاً حقيقياً بمن شاركني غذاءً ودياً، (ثم وهو ينظر إل طبق نصف ممتلئ نصف فارغ) وقد حُسبت عليكَ عزومة فلمَ لا تكمل ما قد بدأت !

 

ونظر رؤف وقد تأثر حقاً بعبارة محدثه الأخيرة لساعته الجلدية نظرة ثم قال وهو يأخذ يمضي :

- عفواً، سأتخلف عن محاضرة المساء إذا تماديت في مطاوعة عرضك السخي..

ونهض هزاع بعد حين يناديه يقول :"لقد نسيت كُرَّاسك !"، ولكن رؤوفاً كان قد فارق نطاق الاستجابة للهتاف، وجعل هزاع يهمس منيباً إلى جلسته وهو يستأنف الجلوس والأكل :"الأفندية.. عجولون هم دائماً..".

   اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات


في بيت يوسف..

أقام بكر حيناً من الدهر في بيت يوسف فنعم بإقامة ممتازة في البيت الثري، أحسن يوسف استقباله لما كان وحيداً، وعلمه عشق الأطعمة الحريفية - كالفول الحار - ومراقبة الأجرام السماوية بمنظاره، ووجد يوسف - بدوره - خصماً طيَّعاً على مائدة البليارد، وكان يقضيان هزيعاً من الليل يحكي فيه يوسف له عن باريس، ويروي له بكر عن ريف أبي تيج،.. وكان بكر يقول له :

- إنك تصف باريس وصفاً مغايراً لما قد تخيلت، وكأنها احتوت على بعض آفات المجتمع الريفي..

وكان يوسف يجيبه يقول :

- ما من مجتمع على هذه البسيطة هو طوبائي مثالي، وكل أصابه العطب من وجه أو وجوه، والمجتمعات العربية مغلوبة اليوم ومنذ قرون، وديدن المغلوب أن يفتتن بالمنتصر وأن ينزهه من نقائصه، والحال أن المجتمعات الأفضل - كالحواضر الأوربية ونحوها - تنجح في أن تحجِّم أوجه الفساد حد أن يتناهى في ضآلته دون أن ينتهي، يتاجر الانتهازيون ويبثون الفوضى هنا وهناك بدعوى "القضاء المبرح على الفساد"، وهم في هذا إنما يخلقون المناخ القلق الذي يستطيعون التكسب فيه، وإن هذا القضاء المبرح مما لا يتحقق لطبيعة الإنسان الحالية القاصرة، ووجود العناصر التي تستفيد من تسامح الجميع فتنسل انسلالاً، نزاعة إلى الاحتيال السهل.

 أراد بكر الإقامة هناك ريثما يخبو وقع جريمة السرقة وليكون بمنأى عن أعين الخرباوي، ولكنه لم يخبر مضيفه أبداً عن سر إقامته، وبدا أن يوسف بدوره في وداعة السذاجة التي لم يسأل معها عن مبرر هبوط الشاب الريفي إلى بيته، واكتفى بعلة سمعها في تفسير الأمر من عز الذي كان جاهلاً هو الآخر بالحقيقة :"جئت لكَ به كي تؤنس وحدتك.."، ونهض يوسف عن اجتماعه بالشاب - لما أحس البرد - يريد أن يلبس معطف الكشمير الذي كان يعلقه على حبال كي ينشف (يذكر يوسف حقيقة أنه اشتراه من حانوت عمر أفندي بنصف الثمن الذي كان عليه بسوق المنشية على نحو أفقده الثقة في نزاهة جميع الباعة حتى غدا يصفهم بـ"المطففين المعاصرين")، وتراءى له من سطح البيت المقابل الذي كان دون مستوى الشرفة التي يطل منها - أقول تراءى له رجل فاحم البشرة، ذا نظارة كبيرة، يلبس معطفاً هو كمعطف المخبرين، وحملق إليه ملياً كأن عينيه سيخرجان من محجريهما، ومسح يوسف عينيه يهمس :"الاضطراب الوهامي : عزيزي المرض لا تفسد ليلتي،.. لا وجود لرجال يلبسون المعاطف فوق الأسطح، أجل، فلتهدأ، فلتهدأ.. رجاءً.."، ومكث يحجب بظهر يده صورة ما أمامه كأنما يتقي مكروهاً من المكروهات، وأمسك بمعطف الكشمير وعاد به إلى حجرة بكر مغمض العينين يقول في نبرة لا تخلو من اضطراب :

- الكشمير من بين أكثر صنوف الأقمشة نعومة رغم تركيبته الصوفية، أجل، فلتنظر كيف هو يشمل الجسد بسخونة رائعة، إنه سحر خالص..

وكان بكر من رهافة الملاحظة أن حدس أمراً، وسأله :

- معذرة، سيد يوسف، هل رأيت في شرفة البيت ما حملك على الاضطراب؟

وأجابه يوسف لما كان قريباً من الصدق دائماً في نبرة تقريرية حزينة، وكان معطف الكشمير قد لف جسده فوقاه البرد والرعشة :

- إني مصاب بالاضطراب الوهامي، والآن أشعر بوهم الاضطهاد، أنني ضحية لتجسس، إن هذا يعرب عن علة حقيقية، لطيفة مع ذاك،.. أجل، لقد اجتبتني الأقدار بعلة مضحكة ! لقد رأيت لتوي رجلاً مخيفاً على هذا السطح المقابل، بمقدورك أن تخرج لترى اللاشيء، ستدرك كم أنا سخيف متوهم، ولا تخبرني بهذا حين تطلع على الأمر، لأن المرء قد يروق له أن يشي بنقائصه وعيوبه إلى غيره متطامناً متبسطاً دون أن يحب قط أن يسمع منهم ما يعيبه..

وهم بكر بالخروج إلى شرفة البيت في حيرة بين حديث يوسف الذي يصم فيه الرجل نفسه بالمرض وبين انطباعه الذي لم يتركه منذ نزل في هذا البيت بأنه مراقب مرصود، ولكنه تراجع عن خروجه المتعجل، يقول :

- هلا أعرتني معطفك؟! الجو في الخارج من البرودة الشديدة حد أنني أخشى أن أصاب بالإنفلونزا لو أنني خرجت بجسدي الدافئ..

ووهبه يوسف معطفه بعد انطلت عليه ذريعة لا أصل لها، وخلعه وأسنانه تصطك من البرد، كان بكر في الحق يروم أن يستخدم معطف الكشمير في إخفاء بعض وجهه وطمس هويته، وأغلق الشاب الأزرار حتى غايتها، وهبط برأسه في الجوف الدافئ للصوف، ثم خرج إلى شرفة البيت وعاد بعد ثوانٍ إلى حيث كان يقول :

- إنه ليس وهماً قط، يجب أن أرحل الآن..

ولم يفهم يوسف مبرر صاحبه للرحيل المباغت، وإن سُر لمطابقة ما يراه لمرأى صديقه سروراً مبعثه رفع الحرج عن نفسه، فسأله :

- ولمَ؟

- شرح الأسباب الآن إضاعة للوقت..

- ومعطف الكشمير؟

وأجابه بكر على عجلة من أمره كأن ريحاً تحته :

- سأستعيره وسأعيده..

تخفى بكر في المعطف فمضى في ظلام ليلته بضع خطوات هادئة رصينة كأنما يجس نبض خريطته المعتمة، وسمع وقع الأرجل فوعى أن ثمة من يتعقبه، ومضى مسرعاً في خضم اضطراب، وما لبث أن ارتأى في المعطف الثقيل تكبيلاً لحركته فتركه لدى بائعة دجاج بسوق عمر باشا ما لبثت هي أن تلف به جسدها تتقي به الزمهرير، وإنه (بكر) لعلى حال من العدو الليلي حتى وصل إلى عطفة راشد بمحرم بك، وهناك طوقه الرجلان المطاردان، ثم ضربه منهم واحد - لما تمكنا منه - ضربة غيبت وعيه. 


 


 اقرأ أيضاً : 

           الفصل الأول:  لقد أعماها الحب

الفصل الثاني: المعنى الغائب

الفصل الثالث : لا أجد ولا أرى غيره

الفصل الرابع : اجتماع عائلي في مسرح سيد درويش

الفصل الخامس : ولتغفر لهم

الفصل السادس: لقد جئت إليَّ رسولاً منجداً

 الفصل السابع: نقاش حول غوته

الفصل الثامن: عواقب عملية رمضان

الفصل التاسع: حول الهيمنة الأمريكية

الفصل العاشر: صراع في كنف الغروب

الفصل الحادي عشر: أوهام في معبد الرأس السوداء

            الفصل الثالث عشر: سأعود كي أسترد حقي ممن تبلَّى عليَّ

الفصل الرابع عشر: قلوب حائرة

الفصل الخامس عشر: أمل الحياة

الفصل السادس عشر: الفردوس في السماء لا في الأرض

الفصل السابع عشر: اعتذار

الفصل الثامن عشر: وجه آخر للحياة

الفصل التاسع عشر : أيام عصيبة في الجنوب

الفصل العشرون : نقاش في ستوديو التصوير

الفصل الواحد والعشرون : أيتها السماء.. فلتتركي السعداء وشأنهم

الفصل الثاني والعشرون : رجاء الحق

الفصل الثالث والعشرون : خطاب من فيفيان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق