يَامِيت وأرضُ القَمَر
قصة بداية ونهاية أكبر المستعمرات الإسرائيلية في سيناء
"إن التقتيل والتشنيع، وقيام أمة على أمة، ومملكة على مملكة، لا يدل على رقي تلك الأمة، أو ارتفاع منزلة هذه المملكة.".
جريدة العالم الإسرائيلي – 10 تشرين الثاني 1921م – بيروت.
**
"مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا".
سورة المائدة - الآية 32 – القرآن الكريم.
**
- حين يقع أن تميز نفسك وفقا للمعتقد، أو الجنسية، أو التقاليد فإن ذلك يولد العنف، الإنسان الذي يسعى لفهم العنف لا ينتمي إلى أي نظام جزئي، بل يعمل بمفهوم كلي للجنس البشري.
- جدو كريشنامورتي Jiddu Krishnamurti – متحدث عن القضايا الفلسفية.
تساؤلات عن الهوية والمصير
“يا له من أحمق، ذلك الذي يخرب المعابد ومقابر الموتى المقدسة عندما يجتاح المدن، فإن من يزرع الخراب يحصده فيما بعد.."
الطرواديات - يوربيديس.
الفصل الأول
١
ضاقت الأرض بنا رغم اتساع أمْدِية الصحراء، أمامنا هاته البسيطة الممدودة المتلفعة بالظلمة والسؤال والغبار، إن هذا إلا أفق لا ينتهي وليس لنا من نقطة واحدة نطمئن إليها فيه، وفوق رؤوسنا بريق النجوم الزاهرة كأنه يواسي نفوسنا المخذولة، أهذه لمحة الاعتذار الخجلى التي قرر أن يهبها القدر لما بقى من عوائل قبيلة الرميلات؟ وهذه النسائم الباردة المفعمة بالحيرة والارتباك في المناخ الملتهب،.. أتراها تكون بسمة هازلة على وجه البلاد العبوس بعد خسارة الأرض وتأرجح الرجاء؟ ربَّاه! ما المصير بعد أن طرُدنا من ديارنا؟ وما الهوية إن فقدنا الاسم؟ ولابد من طرف خيط تنحل معه العقدة، وإشعاع إلهام مسحور كانبلاج الوجود،.. ما أشقى ما يتعذب به جوقة الرجال الحيارى بسيناء في ذاك التيه الجديد ! نحن في يوم من أيام كانون الثاني (يناير)، من العام القلق خمس وسبعون وتسعمئة وألف، وقد مضى عهد قصير على طرد زهاء ألف وخمسمئة عائلة من قبيلتنا بأوامر "أرييل شارون"،.. يروق لأبي مسعد، رغم كل الشواهد التي تعادي تطلعه، وكل الهواجس التي تظلل سعيه، أن يراوده حلم العودة إلى أرضه التي أُخرج منها، وما أسرع الشوق يزحف إلى فؤاد المرء حين يفارق مقاماً كهذا المقام ! قد عشنا في هذه المنطقة التي عُرفت بـ "قرية أبي شنار" أو "نتوء رفح"، الواقعة عند جنوب غزة، على ربوة عالية مطلة على الساحل، حيناً من الدهر، كنا بدواً وكنا مزارعين، لازلت أذكر أشجار اللوز والدُّرَّاق النامية نزرعها بالمياه الجوفية هناك ونتفيأ ظلالها، تراودني أيضاً خيالات أشجار الزيتون والخروع والقمح القائمة على هذا الشريط الضيق القريب من البحر، بعضنا عاش في الخيام أو "بيوت الشعر" قرب الأمعز والخراف، وأكثرنا عرف الأكواخ والمنازل الخرسانية،.. في مثل البرهة تبدد هذا الخيال السعيد وحلت الأماني، لأجل ذاك أسماني أبي بعودة الله، ومع سعادتي بالاسم - التي اقترنت بزيادة وعيي بالمعاني - فقد بات اسمي اليوم يثقلني،.. وهل الوعي إلا خط صاعد مفعم بالآمال ينحدر انحداراً شديداً إلى حزن مترع بالقناعة؟ هو ذاك الجناح الذي يرتفع بنا عن وهدة الأرض ثم يعدنا في أسف بأنه لن يثقب السماء!
وأبي رجل شديد العزم، واسع الحيلة، متوفر على خصال عزيزة المثال، وهو – إلى هذا كله – مخلص أشد الإخلاص للتقاليد، ما من عجب إذن أن يلوك هذا المثل البدوي في كل مناسبة : «قطع الورايد ولا قطع العوايد»، وليس غريباً أيضاً أن يتخفى في تيه الصحراء لأعوام متحدياً الزواحف والدوريات والظلام والقدر، يحسبه الرائي يسوس جماعته إلى قصده، ويستبطن المحقق أن قصده يسوقه إلى حتفهِ، وسمعته يقول :
- من المذهل أن ترى حجم الحطام الذي خلفوه بعد تهجيرنا من رفح، دمروا البساتين والأشجار، وردموا آبار المياه حول مناطق التخييم، واستخدموا الجرافات، رفضنا ترك الأرض في البداية واستمسكنا بحقوقنا، كنا زهاء خمس آلاف نفس، على أنهم هددونا بأن يمروا علينا بمدرعاتهم، أرادوا بناء المستعمرة على بيوتنا ومقابرنا، وخلال أسبوع واحد جمعنا رفات موتانا ودفناهم في مكان آخر، ما عتموا أن استزرعوا الطماطم والمانجا، واستولوا على مزارع اللوز، صار دخول الأرض ممنوعاً دون أذن الحاكم العسكري الإسرائيلي !
لا تزال ذكريات الخروج تطارده كمسمار جحا، كثيراً ما يتحدث أبي في الرجال البدو، يشد أزرهم في ليلة معتمة أو يحيي عزائمهم في ليلةٍ إِضْحِيان، وما يلبث أن يتصدى له الرجال الذين أُنهكوا :
- ارتحل أجدادنا من السعودية، ثم إلى بلاد الشام فالأردن وغزة ورفح،.. نحن بدو رحل، أصولنا منسوبة إلى قبيلة القطيفات ببلدة القطيف المعروفة، ومآلنا مجهول ومنقوش في كف القدر، أيا شيخنا : لماذا تصمم على أن تعود بنا إلى رفح؟ لماذا يبكي البدو أطلال الصحراء؟ ما لنا وعادات أهل المدن؟
هتف آخر :
- لعلكم سمعتم هذا : سيقيم الإسرائيليون مستعمرة جديدة محل ديارنا، يسمونها ياميت، سيزرعون فيها الورد الذي يصدرونه إلى العالم، وسينشئونها مدينة ساحلية كبيرة بعد حيفا وتل أبيب !
قال ثالث :
- لقد مات حلم العودة، وبقى لكَ أن تقر بهذا، إلام نتخفى هنا؟ وفيم نرقب مصائرنا في ظلال الخطر؟
استاء أبي من سماع الآراء المناهضة لمساعيه، هو بدوي مخلص لشواهد الرمال وعلامات الصحراء، وفيّ أحسن الوفاء لذكريات الأشجار الوارفة والبساتين الوالية، كان بمقدوره أن يستوعب غضب وحنق الرجال قبل اليوم ولكن.. ماذا عن مستعمرة ياميت هذه التي لا تكف الألسنة عن ترديد أخبارها؟ وماذا جد من أمر هؤلاء القوم الذين لا تقف لهم حدود؟ ازور أبي عنهم وتحدث كأنه يبتعد عما يخيب رجاءه :
- إنها معسكر حربي !
ولم يتركوا له فرصة :
- هكذا بدأت ثم أُعلنت مستعمرة قبل بضع سنين (يريدون عام 1972م)، إنها أول مستعمرة مركبة في تاريخ الدولة العبرية، وستكون مركزاً إقليمياً لمجموعة من القرى الزراعية في رفح !
كثير من بدو قبيلتنا يجيدون العبرية، ثمة الكثير من المفردات المتشابهة في نطقها مع العربية مثل : بايت בית التي تعني بيت، ومصرايم מצרים التي تعني مصر، والشبت שבת التي تعني السبت، وهلم جرا، .. إن منهم من اطّلع على الأخبار، تصلهم الجرائد عبر المهربين، وفي جريدة أورشليم بوست Jerusalem post وجدوا أنفسهم في عدد 27 أغسطس : ترحيل ألف بدوي من أبي شنار إلى قرب رفح، العملية الثالثة خلال العام الماضي، احتجاج وزير الخارجية المصري إسماعيل فهمي،.. وفي العدد 491 من جريدة الشعب، الصادرة في اليوم الموافق 22 آذار 1974م قرأوا ما هو مدون : "بدء العمل في مستوطنة ياميت"، وجاءت عيون البدو بالنبأ اليقين، فلاح رجلان من وراء "خطوط العدو" وقال أحدهما :
- وصل إلى ياميت أول خمسين نفر !
لا يجيد أبي مسعد العبرية، هو – مثلما أسلفت – رجل تقليدي، معارفه مقصورة على العادات وبعض الإنجليزية (ينطقها بلكنة البدو)، ثم هو يسمع من الناس ويقضي في أمورهم، تساءل :
- وماذا تعني ياميت بالعربية؟
- ياميت ימית تعني "بحري" أي المدينة البحرية..
وقال :
- لا مبانٍ أو كهرباء أو طرق أو مياه هناك بعد، لن يبنوا شيئاً ذا خطر في الصحراء، وإذا هم فعلوا فستلفظهم الرمال آجلاً أو بعد حين.
أجيب :
- كيف ستلفظهم الرمال؟ ثم أنى لهذا المنال أن يقع؟ أيا شيخنا فلتسمع لنا : إننا ما أوتينا إلا من عاطفتنا نسير بها شؤون معاشنا، ونحكم بها على مآلنا ومآل غيرنا، اليهود ما دخلوا فناً إلا وبرعوا فيه، وقد قرأنا في صحفهم ما يدل على طموحهم إلى إنشاء مرفأ بالمياه العميقة ومطحنة دقيق وقناة تصل بهم إلى البحر الميت وفندق وجامعة ومطار دولي ومنتجعات سياحية..
وأكمل آخر دون أن يلتفت إليه أبي :
- وقد وضعوا حجر الأساس لإشادة معبد ديني، سيكون في مدينتهم الجديدة البنية اللازمة لصناعة المجوهرات وتصدير المزروعات، علاوة على صناعات قائمة على الكهرباء، وسكك حديد ومرائب (أمكنة إيواء السيارات)، وقد أجروا مسحاً علمياً للساحل المواجه لها.
ضربت الوقوف زوبعة من هواء محمل برمال، عاد أبي يتساءل وقد أخفى وجهه بقماش يحجب عنه الغبار ما خلا عينيه السوادوين الداكنتين :
- يقيمون هذا كله على أطلال خيامنا وأنقاض دُورٌنا ! هل يحق لي أن أسرق ماعزاً لكَ إذا قُدر لي أن أحسن تدجينها وشويها؟
- لماذا لا تقدم عريضة التماس لدى محكمة العدل العليا الإسرائيلية مثلما فعل سليمان حسين عودة أبو حلو؟
أما الأخير فهو زعيم القبيلة المعروف في الكيبوتس* المجاور، احتد أبي على السائل :
- صَهْ ! وهل تظنهم ينصرون البدوي في محاكمهم؟ لن أتسول أرضاً لي لدى عتبات من أغار على حقي فيها، ولا أحسب أن من العقل استنجادي بظالمي..
يحدثني أبي فيقول :" إن الرميلات رجال أشداء، من شيمهم حب الخلاف الذي تشربوه منذ قتالهم مع التَّرَابِيْن، وإن كان لنا حق ما نامت أعيننا عنه، كذلك يجب أن تكون.."، ولشد ما يحب الرجل أن يورد خبر سالم الهرش (شيخ مشايخ قبائل سيناء) يوم وقف أمام موشيه ديان في مؤتمر الحسنة الشهير المنعقد في وسط سيناء عام 1968م قبل بضع سنين فقال على مسمع من العالم :
- نحن مصريون وسيناء مصرية، وولاؤنا لجمال عبد الناصر ! (ثم يتابع وهو ينظر لي) لقد أوقف الهرش مخطط "تدويل سيناء".
وكنت أشاغبه فأقول :
- إنني أتفهم شطر الجملة الأول ولا أستسيغ الثاني (أي الولاء لعبد الناصر)..
- لمَ؟
- كيف يكون ولاؤك لشخص خاض ثلاث حروب خسر في أربعة منها؟
وكان هذا يضحكه قليلاً ثم ما يلبث يعود لجموده، اليوم لا يبدو أن الأسباب تسعفه "لأخذ الحق بالقوة"، وأما سياق حديثه المفعم بالتحدي عن قتال قبيلتين من البدو (الرميلات والترابيين) فلا ينسحب إلى ما وراء هذا من مغامرات أبعد، وهو رجل مخلص يحب القبيلة قبل التقاليد، لعله يفكر في شأننا فيقول : هذه الأنفار المشتتة من البدو لا قبل لها بترسانة القوى النظامية المدعومة عالمياً بالطائرات، عاد الرجال يسألونه :
- أكثر عشائر الرميلات استجابت وانصرفت، لا يضر هذا برجولتهم في قليل أو كثير، وطائفة من البدو أنافوا على الألف يعملون في إيلات نفسها، يتكسب العامل الواحد منهم مثلما خبرنا مئة وثلاثين جنيهاً بالأسبوع الوحد،. أين الحسينات والعبابدة والعجالية والمعاتقة؟ أين السلايين والشيوخ والشريطين والجروات والشلالفة؟ لم يبقَ إلا نحن في هذا الخلاء المقبض.
يقصدون بـ"نحن" عشيرة الخرافيين التي ننتمي إليها، آخر من بقى من عشائر الرميلات وبطونها الأحد عشر هنا، قال أبي :
- بقينا لأننا كنّا خير الجميع صبراً، وأطهرهم باعثاً.
عادوا يتساءلون :
- ماذا نفعل إذن ولم يعد في قوس الصبر منزع؟
تقدم أبي نحو محدثه، قال في رصانة كأنه لم يضق بمعارضة :
- ننتظر حتى يحدث الله أمراً..
ليس تحت الشمس جديد وقد فاض الكيل، تخلو جعبة الشيخ من كل جواب إلا هذا الجواب، وتعدم حيلته من التدابير حين يتعلق الأمر بالأرض أو يتصل الحال إلى ذكريات هاته المروج الساحلية الغناء، لا يزال الرجل محتفظاً بنواة من ثمرة الدُّرَّاق في جيبه،.. انبثق الغضب كجمرة بين رمال الصحراء الصفراء ورمال السماء المشعشعة:
- إلام ننتظر؟ قلت لنا أن ننتظر حتى تقوم الحرب، وقد قامت الحرب منذ عامين ولازلنا على حالنا.
- مرت ثلاث سنوات فقط على تهجيرنا (1972م)، ما لكم تتحدثون كأنه الدهر؟ فلتسمعوا لي : لقد أزلنا هذه الشوكة من حُلُوقنا منذ أكتوبر، وسيتفاوضون في أمر رجوعنا لا محالة، وهذا السادات قبل الحرب يقول في الوكالات العالمية : كل كلمة قيلت عن ياميت هي سكين موجه إلى شخصي واحترامي لذاتي*.
حدجته عجوز من البدو بنظرة قاسية، قالت :
- أتضع حديث الساسة الذي هو نفاق كله فوق مشورة الأهل التي هي إخلاص كلها؟ سل نفسك : هل يُنظر لنا (أي للبدو) على أننا مصريون حقاً؟
دار السؤال في خاطري مثلما دار في خاطره وخواطر البدو، لشد ما تعاطفت مع أبي يومئذٍ وقد غمرني فضول غامر مثير، وفي الصحراء تتضخم الخيالات بسرعة حتى لقد يتهيأ للعقل أن يختلق الرؤى من العدم، وأن يصنع الصور التي تملأ صفحات الخلاء،.. وعادت الأجواء إلى بعض الصفاء، فلم تكن هذه المرة الأولى التي نتعرض فيها لمثل هاته الظروف أو نعامل مسؤولاً أجنبياً، فمحافظ سيناء حتى عام 1946م كان إنجليزياً.
وفي فجيرة اليوم تنكرت في ثياب يهودية حتى أنني اعتمرت قبعة الكيباه الصغيرة المستديرة، احتفظ بها أبي بعد أن جاءه بها صديق له من المهربين، ليس بمقدور أحد أن يميزني بملامحي السامية، فجدتي كانت أرمينية واسمها لوسين، وقد قطن الساميون غربي آسيا، وشرقي أفريقيا، وأما بلادهم فامتدت من شواطئ البحر المتوسط غرباً، إلى فارس (إيران) شرقاً، ومن أرمينيا شمالاً، إلى بحر العرب جنوباً،.. معاداة السامية إذن ليست مصطلحاً دقيقاً في وصف العداء ضد اليهود، والحق، الحق أقول لكم بأن لا أحد هنا يعادي اليهود، ولكننا نكره الاستيطان، و"عدالة" الأمر الواقع، والاستهتار باقتلاع الجذور والتاريخ،.. عندما أسأل : من يعوضني عن أشجار الزيتون التي فقدتها في رفح؟ أو أمان الإقامة في المنازل والبساتين التي تهدمت على ذاك الساحل؟ فهذا ليس عداءً لأي حد، وما ينبغي له أن يكون !
وإذا جاز لي أن أتوغل في عمق التاريخ قليلاً لقلت : إن المجتمعات العربية المغلوبة تحت وطأة البسطال العثماني لم تبلور موقفاً واحداً إبان هذه القرون العجاف التي حجبت عنها منجزات عصر الثورة الصناعية، كي يصح أن نقول بأنها عادت أو هادنت، السؤال اليهودي هو سؤال أوروبي، كما أن ذروة المشكلة اليهودية في العالم صنعها زعماء ديموجاجيين* من مثال هتلر الذي كان يحتقر الجميع (خلا الآريين)، حتى أن شعباً لم يشتهر إلا بالغناء والموسيقى والقصص مثل الغجر لم يسلم منه،.. فلمَ يدفع العرب الأثمان؟ ثم لمَ يلقي الناس بالاً لمثل هذه التفاهات والأنساب العرقية؟ حتى هذا الصراع الغبي على الحدود الدولية والموارد يخفي حقيقة البشر : شراذم تائهة في الفضاء، ولعلهم اختلقوه اختلاقاً ليخفوا هذا الخوف الكامن فيهم من مواجهة مصيرهم المشترك، بل لعلهم ما تمادوا في الإنفاق على أدوات الحرب والوغى تمادي الفجور والشطط إلا هرباً من الإجابة عن أسئلتهم الكبيرة المعلقة، تلك التي دونت منذ الأزل بالنجوم فوق السدم، أو فلنقل : التي دونت على نقوش كهوف النياندرتال منذ اُبتلي الإنسان بمشكلة الوعي،.. إن مأزقنا على هذه الأرض واحد، وليت أن حديثي هذا يصل إلى أذن أقل الرجال عصبية وأكثرهم قومية !
ورأيت نفسي في صورة عكسها الماء بين الرمال فهتفت في نجواي :"ها قد صرت جاهزا !".
**
الفصل الثاني :
دخلت إلى ياميت.. وخرجت !
"وإن الشيء إنما يرزن إذا كان في مستقره، حتى عرَّفوا الظلم أنه وضع الشيء في غير مقره، ومعلوم أن محل العرب مباين لمحل العجم، فكأن أحد الفريقين إذا جاوز محله فقد ظلم.".
فارس الشدياق - كتاب الواسطة في معرفة أحوال مالطة.
لم أكن بحاجة إلى دليل كي أصل إلى ياميت فأنا أعرف رفح جيداً، ولدي من المعارف من استرشدت به عند نقطة أو اثنتين، وقد عرفت من مشائخ البدو أنها تقع على الحدود الدولية القديمة بين مصر وبين فلسطين الانتدابية، وقد قسمت إسرائيل سيناء إلى منطقتين : شمالية وألحقتها بقطاع غزة، وجنوبية وأخضعتها لإدارة مستقلة، كنت في المنقطة الشمالية وتسللت إلى هذا السهل قاصداً نطاق المستعمرة، وتشجعت حين تذكرت أن جدي تحتمس الثالث – وكما يتردد عن مآثره – عبر بجيشه سيناء سبع عشرة مرة، وما أعرفه أن ميناء ياميت حين يُقام لن يفصله عن بورسعيد سوى خمسون ميلاً، وقد زرت بورسعيد وأحببتها.
واقتربت من قصدي مسترشداً بنجم الشِّعرَى حتى بلغت، فرأيت الرمال البيضاء، وأشجار النخيل النضيدة الطويلة ذات الثمار، والبحر الأزرق من وراء، وأبصرت يهوداً يرشون الجير على الرمال في احتفال، وآخرين يحررون نوعاً من الطيور البيضاء من قفص، وحماراً يسعى في غير طريق،.. ثمة الكثير من أدوات وآلات البناء، وهذه كاميرات التصوير تنقل الحدث المهم، تلك طقوس البدء في بناء المستعمرة الجديدة على أرض سيناء، أو أرض القمر على قول البابليين وإلههم المعبود «سين»، وغداً تصير ياميت على أرض القمر حقيقة، لقد عُرفت سيناء في التوراة باسم «حوريب» أي الخراب، وقد عدت أتساءل وأنا أرقب هذا كله : ما طمع هؤلاء القوم في أرض يرونها أرض خراب؟ بعض مرسالي القنوات الأجنبية يتحدثون الإنجليزية، سمعتهم يقولون ما مؤداه بالعربية :
- "نأمل أن تغدو ياميت "ريفيرا الإسرائيلية"، ستنشأ على شاطئ ممتد بطول مئتي متر، أما مساحتها فنحو أربعة عشر هكتار، وستتسع لتشمل مئتي ألف نفس بحلول الألفية الجديدة (2000م)،.. وستتبعها مستوطنات أخرى على مرتفعات الجولان وطريق القدس-أريحا..".
عدت أتذكر حديث أبي عن الرمال التي ستلفظ الغرباء في رثاء، لدى هؤلاء القوم خطة هي أكبر من أن تلفظها ملامح الجغرافيا، تساءل المراسل :
- "ما هو الدور الجيوسياسي* المتوقع لمستعمرة ياميت؟".
- "نأمل أن تكون بمثابة منطقة عازلة buffer zone)) بين قطاع غزة وبين شبه جزيرة سيناء، وأن تحدث تواصلاً إقليمياً بين سيناء وبين صحراء النقب.".
لم يذكر المجيب قضية "المستعمرات المحيطة بغزة"، والتي تضمنت إحاطة قطاع غزة بالتجمعات السكنية الإسرائيلية مثل عسقلان في الشمال، وبئر السبع من الشرق، وياميت من الغرب، وذلك بغية محاصرة القطاع والحد من توسعه، فياميت في جوهرها سدادة في عنق قطاع غزة الذي يحوي على زهاء ثلاثمئة وخمسين ألف نفس،.. ينحرف السؤال دائماً عن الجادة الصحيحة حين يتعلق الأمر بالعرب في الإعلام الغربي، تواجد المصريون في سيناء منذ عهد حضارة بوتو المعادي، إن أقدم العلاقات التجارية بين سكان وادي غزة وظهيرها في بئر السبع كانت قائمة عبر سيناء مع حضارة المعادي ومصر السفلى التي بدورها كانت همزة الوصل مع حضارة الصعيد، القضية إذن ليست قضية الدور الذي استحقت الوجود من أجله، ولكن الأحقية التاريخية والأصل القانوني، فياميت تتأسس على أرض محتلة عام 1967م.
إن كثيراً من المراسلين والمذيعين الأجانب يعمدون إلى اتخاذ موقف في هذا الصراع العصي دون أن يبذلوا جهداً في معرفة موقع القاهرة أو القدس على الخريطة، والمشكل أن الجهل يغري بالتورط والانزلاق، لأن المعرفة تضع الحدود وتؤطر الرؤى، ومن لا يرى الحدود سيتوهم أن الحلول كلها تنفع، وما أسهل أن يأتي بما لم يأتِ به الأوائل! أو أنه سيكرر في حماس من لا يدري أشباه ما يتردد في وعائه الثقافي الذي خرج فيه ومنه، وهذه هي عادة البشر في كل مكان حين لا تكون لهم ثقافة أو آراء خاصة بهم، وقد عجبت وأسفت من رؤساء الصحافة والسياسة الأمريكان الذين تراهم يضعون مصلحة دولة أخرى فوق مصلحة بلادهم نفسها، وقد صارت علاقة الدولتين - لما بينهما من فوارق شاسعة في الحجم والتأثير - أشبه بالأب الذي ينصاع لصراخ طفله دوماً، ثم هو يسوغ مغامراته الرعناء وتعديه على ما لدى الغير فيقف مصفقاً لما لا تحمده سليقة سوية، ومعجباً بما لا يقبله ضمير حي، أمام ذهول المراقبين، وفي مشهد مقتبس من مسرح الهزل، وكنت أتساءل مثلما يتساءل غيري من العرب : أين اتفاقية جنيف الرابعة التي توفر الحماية الإنسانية للمدنيين في مناطق الحروب والنزاع؟ بل أين القيم الأمريكية والحقوق الغربية هنا؟ أليس لنا أن نقلق على مستقبل الإنسانية إذا وقفت كبرى حاضراته مثل هذا الموقف المتملق إزاء الجريمة؟ وهذه الولايات المتحدة التي قدمت للعالم حضارة باذخة وثقافة مهيمنة ألا يسوءها مثل هذا الانجرار إلى الأكاذيب الصرفة وهي التي لا يعوزها معرفة الحقائق ولن تعدم في هذا المسار وسيلة؟
لمحني جندي فحدس بغربتي عن المكان، رغم محاولاتي في التشبه بالوقوف حصحصت حقيقتي، سمعته يتمتم بالعبرية فركضت حتى هوت من رأسي قبعة الكيباه، يُقال إن اليهود الأرثوذكس يلبسونها توقيرا لله، لأنه لا يليق أن يتحدث امرؤ باسم الله عاري الرأس، وهذا مما لا أثر له في التوارة أو في كتب العصور القديمة، على أن القبعة الصغيرة قد هوت إذن وقد ذكرت اسم الله كثيراً عسى أن ينقذني، ربما لا يحجب الله عنَّا شيء مثل هذا الالتزام غير الُمسوَغ بالطقوس، والإنسان يعرف الله بصدق ساعة الفزع والحاجة، والله هو مثل الأب الذي يستقبلك في داره بعد ليلة السهر والتمرد، وقد أنجدني الله يومذاك لأن الجندي اختفى، كأن الرمال لفظته، مثلما يردد أبي.
استغرقت العودة إلى محيط خيام العشيرة وقتاً أكثر من الخروج لأن خبر "تسلل البدوي إلى مستوطنة ياميت" ذاع كالنار في الهشيم، وبغتة شعرت نفسي "أهم وأخطر شخص في هذه المساحة الشاسعة من الصحراء" ! ولدى الإسرائيليون هاجس الاستنفار وترقب الخطر المحدق في كل شيء، ولأن أهل مكة أدرى بشعابها فقد كنت خيراً ممن أراداو الإيقاع بي - أقول كنت خيراً منهم خبرة بالسِباخ* ومواقع المرتفعات والسهول وحتى إيقاعات الريح وزوابع الرمل وندوب الأرض! وتلصصت على الجنود الذين كانوا يلاحقونني فسمعت أن منهم من يزعم أن طرد البدو من رفح جاء بأمر من أرييل شارون دون تعليمات صريحة من الحكومة الإسرائيلية، وأما ما كنت أعرفه سلفاً فأن موشيه ديان - وهو رجل يبدو في تصورنا نحن العرب بعصابة عينه اليسرى المعروفة.. قرصاناً كلاسيكياً - أول من تحمس لفكرة الاستيطان في سيناء، ومن المثير والطريف حقاً ذكر حقيقة كونه ملحداً،.. وفي وهدة الليل عدت إلى الخيام مجدداً فألفيت عشيرتي تغط في سبات، كنت أعرف أن أبي مسعد لم ينم، هو لا ينام قبل أن يطمئن إلى سلامة الجميع،.. فكيف يطاوعه الوسن في غيبة نجله الغائب؟ حاولت ألا أثير انتباه أحد ولكن صوته استقبلني من خيمته :
- أين كنت؟
وطأت مدخل الخيمة، طالعت حاجياتها التي كانت لا شيء قياساً إلى ما رأيته في ياميت : المنسف، الباطية، القدح، الغرابيل، الصاجلت، الحلل النحاسية، الأغطية، الفرش، المزواد، المخالي، الغلاين،.. إلخ، وشعرت نحوها بألفة وسكينة لم أشعر بمثلهما حين رأيت أدوات هذا الاستعراض الكبير في المستعمرة، حاولت تشتيت سؤال أبي بطرح سؤال آخر :
- ألازلت يقظاً، أبي؟
استخف بالسؤال :
- فإن سهيت عن واجب القبيلة فأنى لي أن أغفل عن واجب الأبوة؟
- حسناً، لقد أردت الترويح عن نفسي في الخلاء، لقد سئمت جدالاتك مع عشيرتنا، وإذا تكرر حديث المرء تكررت أيامه.
- وما شأن هذا الجير في بنطالك؟
في البدو الأقحاح مثل أبي مهارة التفرس وحدس خاص اكتسبوه من شحة ظروفهم وضرورات البقاء، بمقدور هذا البدوي مرتكناً إلى ذكاء فطري مذهل أن يصل من القليل إلى الكثير، وجدت في توخي الصدق منجاة :
- حسناً، حسناً، تسللت إلى هناك وعدت.
توقعت عتاباً وتقريعاً، غير أن نبرة أبي المخشوشنة رقت فجأة، ولمعت عيناه لمعة خيل لي أنها أضاءت هذه الدياجي :
- حقاً، كيف صارت أرضنا؟
قالها فيما تهتز نواة ثمرة الدُّرَّاق في جيبه، وأجبت متأثراً بما رأيت وسمعت:
- سيجعلون منها شيئاً أفضل، من العار كيف نحزن على ضياع أرضنا بعد أن نبدد فرصة استغلالها، يقولون : سنحيل الصحاري إلى بساتين، ماذا ينقصنا نحن العرب حقاً لنفعل المثل؟ (رميت بحصوة في غير هدف وهتفت..) أمة غنية بالموارد والحماقة !
- ماذا تقصد بشيء أفضل؟
- كل ما تسمعه عن ياميت صحيح، وأكثر منه حقيقة : من زهور الحدائق إلى تحلية المياه بالطاقة النووية !
تنهد أبي، أمامه أخبار الصحف :
- 1/1/1975 نسبت الإذاعة الإسرائيلية إلى وزير الدفاع الإسرائيلي، شمعون بيريز، قوله في بلدة أوفاكيم في مقاطعة بئر السبع أن إسرائيل ستعمل على استيطان مئات الآلاف من الدونمات من الأراضي الخصبة بين أوفاكيم وياميت، وأنها سوف تقيم أيضاً معسكرات للجيش الإسرائيلي ومحطات قوى في هذه المنطقة. كذلك أفادت الإذاعة الإسرائيلية أن وزير الأديان الإسرائيلي، إسحاق رافائيل، قال رداً على أسئلة طلاب المدارس الثانوية في عسقلان (أشكلون)، إن ثلاثين مستوطنة على الأقل سوف تقام خلال سنة 1975 خارج الخط الأخضر، في الجولان وفي الضفة الغربية في غور نهر الأردن.
- 15/1/1975 أفادت الجيروزالم بوست أن الصندوق القومي اليهودي ضاعف سرعة بناء ثلاث مستعمرات في شمال سيناء قرب ياميت، إثر قرار حكومي على أعلى مستوى بزيادة سرعة الاستيطان في تلك المناطق، وأضافت الصحيفة أن المستعمرات الثلاث هي: ناحال سيناء، أوغدا وشكت.
قال معلقاً :
- يضعون على ميراثنا غبار النسيان، لا تعد إلى هناك أبداً، ألزم الكهف ولا تستنفر التنين الخامل بالعصا.
غضبت من حديثه قليلاً، قلت وأنا آخذ ابتعد منه :
- ولكن التنين ليس خاملاً، إنه لا يترخص عن التهام المزيد والمزيد، ثمة عنف سلبي يُمارس ( (passive aggressiveness !
أبي يكره المصطلحات الإنجليزية، وقد علمني جيداً لئلا أكون دون أهل المدن ثقافة، صرت مجيداً للعربية والعبرية والإنجليزية، ولكنه لا يريد أن يسمع إلا مفردات البدو والصحراء، ويقول لي : تحدث إلى كل قوم بلسانهم..
في الأيام التالية ظللت أرقب نمو "مستعمرات إقليم ياميت (يُطلق عليه بوابة رفح)" المؤلف من خمس عشرة مستعمرة، وبدأ توافد الوافدين على مدينة ياميت البحرية وهي أكبر المستعمرات طراً، لقد تألف هؤلاء الوافدون في سوداهم الغالب من إسرائيليين علمانيين انجذبوا إلى هاته "المناطق البكر" بالقرب من البحر المتوسط، وانجذبوا أيضاً إلى انخفاض تكلفة الإقامة هناك، إن نواة المدينة الصغيرة تألفت من قادمين جدد من الاتحاد السوفيتي، وكانوا قد قدموا إلى المنطقة خلال حرب أكتوبر وبعدها، وكذا المهاجرين الأمريكيين من الجيل الحديث، وبعض الشباب الإسرائيلي، ولكن الدائرة تتسع يوماً بعد يوم، لتشمل المزيد والمزيد من الغرباء، وقد باتت المدينة تجتذب كبار الضباط الإسرائيليين رفقة عائلاتهم، وكنت أختبئ منهم حين يحدجونني بنظرات الارتياب بالتخفي وسط الأطفال في الحديقة العامة، أو عبر إظهار التبضع في المتجر الكبير، وصادقت من رؤساء رجال الأمن في كتلة ياميت ( (Yamit Blocرجلاً اسمه مارغاليت، ظل يردد أن إخلاء ياميت ليس إلا سراب !
ومن عجب أن ياميت حفلت بالفقراء أيضاً، أولئك الذين استغلوا بخس ثمن الإقامة بها، على أن الحكومة الإسرائيلية كانت تصطفي أصحاب المهارات المطلوبة منهم ومن غيرهم، وقد ضمت المدينة أيضاً قاصدي العطلات من بئر السبع والنقب، وقد أضحت قبلة المهاجرين الروس والأمريكان والبريطانيين، وقد قابلت نفراً من المهاجرين الأمريكان الذين يسمون أنفسهم بـ"رواد ياميت" (وبعضهم يؤثر كلمة "مؤسسين" على "رواد"!)، فساءني أن يتصارع أجنبيان على الانتساب إلى أرض هي لي،.. وتذكرت ثورة المصريين القدماء على المحتلين : الأثيوبي والآشوري، وعند المغيب قابلت ربة بيت إسرائيلية - واسمها كارولين - وعرفت أن زوجها نجار، وهو يسافر يومياً إلى قرية قريبة، وهي أم لأربعة أولاد، وقالت لي :
- "عندما كنت طفلة، قرأت عن الرواد الأمريكيين ((American pioneers، وكنت أقول : إنني ولدت متأخرة، وفي المراهقة قرأت عن تاريخ إسرائيل، فقلت : هذا ما أود فعله، ولكن مرة أخرى : فات الأوان ! حين سمعت عن ياميت قلت : هذه هي! الجميع أعتقد أنني فقدت عقلي !".
وجف ماء فمي عجباً، فقد رأيت نفسي في حديث كارولين ضحية كالهنود الحمر والفلسطينيين، وقد كان سردها للأحداث مثيراً للرثاء بالنظر إلى أنها حققت حلمها في الريادة على أرضنا نحن البدو، فأوفت بمغامرات طفولتها ومراهقتها على حساب هذه الهجرة القسرية التي دفعت ثمنها، وعلقت:
- "هذا مثير للاهتمام حقاً، سيدة كارولين، هل تدرين شيئاً عن تاريخ أصحاب هذه الأرض قبل 1975م؟".
وحدجتني في غضب وقالت :
- " هل أنت بدوي؟ فلتسمع لي : لن نعيد أياً من هذه الأراضي، لا أتذكر أي وقت في التاريخ غزت فيه دولة أرضا وأرغمت على إعادتها! كل ما أخذناه في الحرب يجب أن يكون لنا، من الناحية القانونية، لم تكن سيناء ملكًا لأحد، لقد انتقلت ذهابًا وإيابًا مرات عديدة لدرجة أنها لم تخضع أبدًا لسيطرة أي شخص لأي فترة من الزمن.".
وحضر زوجها قابضاً على أدوات النجارة فقال وهو لدى باب الدار :
- "كلما أسرعنا في بناء المستوطنات في سيناء زادت فرصتنا في التمسك بها، أعتقد أن الحكومة الإسرائيلية ستفعل أي شيء لحماية مستوطناتها!".
ولم تترك لي المرأة فرصة النقاش حتى أنها أوصدت الباب في وجهي هاتفة :
- "كان ينبغي أن تكون ياميت هنا قبل سبع سنوات !".
لم يكن يفصل قاطني ياميت عن الشاطئ إلا نصف كيلو متر، ومواقع المستعمرات لا تكون عبثاً، إذ يجري اختيار المناطق ذات الأهمية الستراتيجية والسياسية والاقتصادية، وفي حالة ياميت فقد جرى تقدير كل ما يتعلق بالموقع وحتى ملوحة التربة وانكسار الضوء ! وأما نحن – البدو – فعشنا لصق الشاطئ نفسه، وقد كنا نذبح الشياه، وكما درجت عاداتنا، عند البحر،.. ولم يعد وجود لفيف من البدو هنا أو هناك يقلق المستوطنين حقاً، فربات البيوت يجتهدن في جعل هذه الكتل الخرسانية تبدو جميلة، وبعضهن يقتبسن من صنائعنا (البدو) في استخدام النبات في التزيين.
تألفت ياميت من بيوت صغيرة شكلت في نواتها الأولى ثلاثمئة وخمسون وحدة سكنية، تتخذ حزاماً دائرياً حول حديقة عامة يلعب فيها الأطفال، ويتوسطها متجر كبير (سوبر ماركت) وعيادة طبية، ومؤخراً صار هناك بنك وسينما ومدرسة إبتدائية وروضة للأطفال، وقابلت معلمة هناك، واسمها شولا (Shula)، بدت نحيفة وتعتمر قبعة من القش، وهي من أوائل الوافدين، وعرفت أن لها ابنين، وتصنعت هيئة ولكنة الصحفي الأجنبي فسألتها :
- "كيف أخبار رواد ياميت؟"
واستاءت من كلمة "رواد" فانصرفت :
- "من فضلك لا تطلقوا علينا كلمة رواد!".
ولحقت بها أسألها عن السبب فقالت :
- "الريادة تعني المعاناة، ولم نأتِ هنا لنعاني!".
وظل حديثها يرن في أذني مثل الجرس، لدلالته البالغة، واستبشرت به، لأن الذي لا يبدي استعدادا لتحمل المعاناة لن يكون خصماً عنيداً ساعة يدق ناقوس الخطر أو يوم تلوح مواجهات القدر، ووجدتها على صداقة حميمة بالبدو، فهي تأكل الجاتشنون (jachnun) على الكثبان الرملية معهم، بينما ترى أطفالها يتجمعون حفاة الأقدام، مثل أطفال البدو، وزوجها يلبس قبعة رعاة البقر، ويضع لحية بابا نويل،.. وسمعتها تتحدث إلى أطفال البدو :
- "الجاتشنون معجنات يهودية يمنية، أصلها من يهود عدن، وتقدم تقليديا صبيحة يوم السبت، ستعجبون بها!".
وأما السيارات هنا فتسير حول المدينة ولا تدخلها حرصا على نظافتها، وياميت منطقة فائقة الجمال في وسط الصحراء، كزهرة في مقبرة، وشأنها شأن مشروعات الإسكان الحديثة التي ترحب بسكانها الأوائل في قلق، وقد باتت تحفل بمئات من حدائق الزهور التي شيدها المستعمرون، وأما المياه فتمدها إسرائيل إلى المستعمرة، مثلما يجري تسويق "بضائع المستعمرة" في إسرائيل، وقد أضحت من مصادر الدخل القومي هناك، يصفها بعض الصحفيين المصريين المعروفين بـ"قرية"*، ولكن ما هي بالقرية، وفي حدود معرفتي فلا وجود للمتاجر الكبيرة في القرى، إنها إذن نواة مدينة ساحلية كبيرة، وقد أقام الإسرائيليون في رفح مستعمرات ريفية أخرى ومستعمرة ياميت "الحضرية"،.. صحفيون آخرون يستعملون المفردة "مستوطنة" في وصف ياميت، والاستيطان يكون لأهل البلد وغير أهلها، أما "مستعمرة" فأدق في وصف التطفل على مقدرات الشعوب الأخرى، ياميت مستعمرة إذن، مثلها مثل عشرين مستعمرة أخرى أقامتها إسرائيل في سيناء، جنوب شرق شبه الجزيرة، وعلى خليج العقبة، وشمال غرب سيناء، وجنوب رفح، وعلى ساحل البحر الأبيض المتوسط.
كنت أتسلل كثيراً إذن، بعض المقيمين هناك يستقبلونني جيداً حين أطرق بابهم، وبعضهم لا، وأكثرهم يرتابون في أمري بمجرد أن أبدأ في الحديث بالعربية أو بعبرية تفتقر إلى اللكنة أو بإنجليزية متوسطة، أحياناً يروق لي التظاهر بأنني بدوي ساذج كيلا يجدوا حرجاً من الحديث معي، أحاول الخروج بأي شيء، لا وجود لـ"معرفة لا تنفع" وقد بحثت عن معارف عملية، ناتجة عن احتكاك النفوس لا خيالات الرؤوس، ومعارفنا النظرية نحن العرب عن اليهود تكاد تتلخص في أنهم القوم الذين نجاهم الله من فرعون ثم أدخلهم في التيه، ويعقوب صنوع، وليلى مراد، وحي اليهود، ومعبد بن عزرا، ومآساة فلسطين، وفضيحة لافون، وهذا النعي الساخر الذي تحول إلى طُرفة : كوهين ينعي ولده ويصلح ساعات ! ولكن شغفي لا يتوقف عند هذا الحد، من بين المستوطنين راعني مراقبة هذا الكاهن الذي يخرج كل يوم ليؤدي الطقوس في المعبد اليهودي الصغير، ثم يعود في المساء متذمراً، هل أقف أمامه ملوحاً لأقول بأنني استعرت من زيه قبعة كهذه القبعة التي على رأسه لأعود إلى أرضي متنكراً فأجدها في يد غيري؟
حدجني الرجل غاضباً على أي حال، نظرة الشزر التي لا يضن بمنحها للجميع : اليهود وغير اليهود، ثمة نفر من صبية البدو يكتبون الشتائم على المعبد اليهودي في ستر الليل، ولا جرم أن هذا مما يغضب هذا الكاهن، لا أستطيع أن أسيغ هذه الأفعال تجاه المعابد الدينية، لأنني أرى فيها تمادياً في الوحل، فالله هو صاحب الأرض، ويجب أن يخرج من صراعنا عليها،.. ومهما يكن من شيء، فبيت هذا الكاهن هدف يجدر بي أن أتسلل إليه، لا يوصد الرجل الباب عند خروجه في الصبيحة، وإنما يترك لابنته التي تعود في حدود الظهيرة باب البيت موارباً، كثيراً ما يدور الخلاف بين الاثنين، فالكاهن المدعو "موسى" هو رجل تقليدي مؤمن بأساطير العودة، ونبوءات الكتاب المقدس، وكذا سفر إشعياء وما ورد فيه من جفاف النيل، وتلف القصب والرياض، وتبدد "كل مزرعة على النيل" ! إلى غير هذا، أما ابنته – يدعوها موسى في شجاراته معها بـ"تمار" – فسياسية غير ذائعة الصيت منتمية إلى واحد من الأحزاب اليسارية الإسرائيلية، يسمونه حزب العمل (بالعبرية: מפלגת העבודה הישראלית).
حين دلفت إلى دار الاثنين وجدتها أصغر من تصوري عنها، إنها مؤلفة من حجرتين اثنتين، واحدة للنوم وأخرى للمعيشة، وشرفة للأطفال ومطبخ، من اللافت أن لا وجود للثلاجة، في حجرة المعيشة ثمة الكثير من الأوراق والكتب، بعضها لصحف قديمة مكتوبة بالعربية، مثل : مجلة العالم الإسرائيلي التي كانت تصدر من بيروت قبل نحو نصف قرن، وتبشر بما جاء في وعد بلفور من آمال لليهود في شتاتهم حول العالم، توقفت لدى هذا الخبر تحت عنوان "أخبار العالم" حتى دار رأسي :
- أول باخرة إسرائيلية : قالت جريدة (الدايلي ميل) إن الإسرائيليين عازمون على إنشاء أسطول من البواخر التجارية لنقل البضائع، إلى وطنهم القومي الجديد، وأن أول باخرة أنشأوها لهذا الغرض هي الباخرة (هلونز) التي ابتدت بنقل المهاجرين إلى فلسطين !
مذهل حقاً كيف دار وجار علينا الزمن، فنحن اليوم في سيناء الضائعة..
**
الفصل الثالث :
نقاش في قلب المستعمرة مع نصف يهودية
"إن السلام ليس غياب الحرب فقط، بل هو وجود العدالة !".
- مَهَتمة غاندي Mahatma Gandhi – الزعيم الروحي للهند.
وقع نظري على مكتبة متوسطة – قياساً إلى حجم الشقة الصغير – في حجرة المعيشة، ثمة عدد لا بأس به من الكتب الدينية وقد ميزت منهم التناخ*، ومن النسخ الإنجليزية لروايات فيودور دوستويفسكي، وتولستوي، وآرثر ميلر، وبعض الكتب التي تتحدث عن الحياة في الصحراء، وعلى الحائط عبارات من سفر الخروج، وترامى إليّ صوت متلفع بالغضب :
- عربي آخر يتسلل حاقداً إلى الديار..
اضطربت كأن صاعقة ضربتني في غمرة استغراق، قلت ورأسي يحاذي العبارة المدونة من سفر الخروج :
- لست حاقداً ولكن في نفسي فضول..
- أحمق أنت؟ فلتخرج من هنا قبل أن يعود أبي.
استهترت بالموقف كلية وقد لفت نظري وجود المينوراه أو الشمعدان السباعي:
- لن يعود الكاهن قبل المساء، متذمراً، وأما أنتِ فقد عدتِ قبل الأوان!
غضبت من حديثي فجذبتني بقوة إلى الخارج ولا أزال أقول لها :
- مهلاً، هذه أرضي،.. لمَ أخرج منها؟ إنني بدوي وقد عشت هنا قبلكم، كان يجب أن تري بساتين الخوخ والزيتون، سعادة البدوي قرب البحر التي هي كسعادة الإنسان بالفردوس.
ضعفت قبضتها وبدا عليها التأثر فقالت :
- إنني ناشطة، أظهرت الإسرائيليين على حقيقة ما وقع لكم (أي للبدو)، لقد صورنا ما فعله شارون ببيوتكم وخيامكم.
عدت أتساءل :
- من الذي علمكِ العربية؟
تحدثت معها فتكشفت لي حقيقتها تباعاً، إنها نصف يهودية، تزوجت أمها المصرية بصحفي يهودي عاش في بيروت، في شارع فيليب الخازن بحي وادي أبي جميل قبل عقود، لقد عمل آنذاك في جريدة العالم الإسرائيلي (التي لا تزال ابنته تحتفظ بأعدادها)، قبل أن يعود الأب في الباخرة (هلونز) إلى فلسطين، ويترك العمل في الصحافة ويتفرغ للعبادة في "أرض الميعاد"، وقلت في نفسي : الكاهن موسى ليس أبوها إذن، وقالت :
- كان موسى صديقاً لأبي، اتصلت حبال الرجلين خلال المدة الأخيرة من حياة أبي، أوصاه برعايتي على سرير الموت.
- إنه (أي موسى) يكرهنا نحن العرب كثيرا، بالأمس اقترب مني حتى صار قاب قوسين، كنا واقعين تماماً في ظل المعبد اليهودي حتى ظننت أن رذيلة لن تقع هناك، نظر إلى عيني في عزم، شتمني : animal وانصرف، يبدو أن صاحبك يتبنى رؤية إله التوراة عن مصر والمصريين، العرب ليسوا حيوانات !
- أعرف هذا منذ عشت مدة في خان يونس، مدينة المماليك القديمة*، إنني نصف عربية، ربما حسبك من تكتب الشتائم على معبده، يجب على العرب واليهود إخراج الدين من حلبة السياسة إن أرادوا لأنفسهم موقعاً في "جمهورية الأرض".
- لا أظن أن تصوراً مثل هذا قد يقع قريباً، فالدين من خاصة تكوين الطرفين بل هو من دواعي الفخر والزهو أيضاً،.. سأزور موسى في هذا المعبد، أريد أن أتحدث معه !
- لا تفعل، عندما يحدثك شخص ذو توجه لا يقبل الحياد عنه، فأنت تسمع الأيديولوجيا لا الشخص.
- هذا حق،.. هل هي صدفة أن يملك الكهنة جباهاً صغيرة؟ أين الطعام؟
- لا تسئ إلى موسى، فهو بمنزلة أبي ! كان في ألمانيا خلال شبابه وقد رأى الويلات في الرايخ، حرره الجيش الأحمر من معسكر الإبادة أوشفيتز (Auschwitz) في نهاية الحرب العالمية الثانية ! الجميع حقد على اليهود لأنهم قتلة المسيح، (كانت تمسك برواية الجريمة والعقاب Crime and Punishment لدوستويفسكي فأردفت..) حتى فيودور دوستويفسكي تعاطف مع الجميع، وأرهق نفسه في تفسير دوافع القتلة، ولم يرَ في اليهود إلا إقطاعيين رأسماليين مترفعين ومستغلين * ! تولستوي كان أفضل منه*.
وقلت :
- هل رأيت كيف هو الاضطهاد الذي يعيشه الفلسطينيون اليوم في غزة والقطاع؟ كيف هي أحوال التمييز ضد عرب إسرائيل؟ أتمنى أن يحدث أحدهم خرقاً في الزمكان ليرى يهود معسكر أوشفيتز هؤلاء المحبوسين في سجن غزة المفتوح، حينئذٍ يتسنى القول دون مبالغة : إن ثمة من هرب من معسكر إبادة ليقيم معسكراً آخر لغيره، آليات الفتك فيه هي أبطأ وتيرة، إن النفوس التي حملت وتحمل الظلامة لا يجب أن تورثها للآخرين..
وبدا أنها قلقت من حديثي فقالت :
- العرب أيدوا هتلر، لقد باركه أمين الحسيني مفتى القدس..
- يجب أن تقرأي كتاب "هتلر في الميزان" لعباس العقاد، إذ لا يوجد استشراف أفضل لمآل النازيين أو تشخيص مبكر لـ"هتلر، زعيم الصدف" منه..
ارتجف صوتها دون مقدمات وهي تقول :
- موسى نصحني بعدم مخالطة البدو العرب،.. قال لي : "تمار، أنتِ يهودية، يجب أن تفخري بهذا، لقد عمرنا هذه الصحاري التي لم ولن يعمروها أبداً، فليحفظك يهوه Jehovahمن عيونهم وأيديهم.."، هل تريد قتلي؟
ورميت نظرات في محيط الحجرة حتى استقرت عيناي على نبوءة من سفر أشعياء، وقلت :
- كلا.. ولكن وجب أن أصارحك بالحقيقة : الكاهن موسى لا يخاف على مصالح اليهود حقاً، هو يحترم نبوءات الكتاب المقدس أكثر، من الطريف كيف أن بعض مروجي النبوءات – من المسلمين واليهود – يسعون لتحقيقها بأيديهم متجاهلين الحقيقة البدهية : النبوءة – إن صدقت – فهي تقع دون مساعي، من حيث كونها حتمية و"واقعة".
- ربما، تتحدث أفضل من أهل الصحراء الغلاظ وصبيتهم العابثين..
- لست بدوياً صرفاً، عشنا قرب الساحل قبل أن تطردونا منه، أجهد أبي نفسه في تعليمي أيضاً، وخرج بي عن المألوف في ألا يلتحق البدوي بالمدارس النظامية أو الكاتدرائيات أو الجامعات،.. أين الثلاجة؟
- ثمة ثلاجة كبيرة للجميع في (السوبر ماركت) ! المياه والكهرباء لا تعملان دائماً.
تنهدت وكنت أشعر أنني حبيس منام ثقيل، ووقع نظري على سلاح غير مرخص في صندوق أنيق من خشب الأبنوس :
- لماذا ترغمون أنفسكم على هذه الحياة الشحيحة؟ ياميت ليست إلا بؤرة خضراء وسط صحراء جافة، ثمة شيء ناقص دائماً هنا، الطرق معبدة ولكنها غير مرصوفة، والحدائق العامة بها طرق ملتوية بلاستيكية (plastic roundabouts) وما أشح مساحاتها الخضراء! حتى مصابيح الشوارع الأنيقة لا تعمل، والمدارس بها من الفصول ما يزيد عن التلاميذ، وأما المنطقة الصناعية ففي طور التسوية، والرمل يتسرب عبر البلاط، وقبل هذا كله، فروح التاريخ والأصالة مفقودة..
وتركنا هذا المنزل الصغير وتجولنا في حدائق الزهور، وقالت لي :
- حاولت إقناع الجميع في إسرائيل فقلت : ياميت حجر عثرة على طريق السلام، يجب إخراج المستوطنين من هنا، يجب أن نرحل جميعاً من هاته الأرض، إنني لأطرق على الأبواب في الصبائح فأقول للناس : لا تأتوا بالمزيد من الأنفار، لا تصنعوا مزيداً من المآسي، ولا تضخموا كرة الثلج، لأن وقت الرحيل سيجيء لا محالة، وقد لاحت في معناه النذر،. عبثاً حاولت الاتصال بدوائر الحكومة ورجالات السياسة، لا أحد يثق في نصف يهودية مثلي، إن الاتجاه السائد في الحكومة هو سد الفجوات بين المستعمرات ببناء المزيد منها،.. من الخير أن الولايات المتحدة تتبنى موقفي، هذه بادرة الأمل الوحيدة لأن أوراق اللعبة في يدهم مثلما يردد رئيسكم ! (وقطفت زهرة وقالت..) الواقع أننا نفيد من هذه المستعمرات، فنصدر إنتاج سيناء ووادي الأرن عالمياً، فيما يبقى إنتاج الجولان محلياً، وهذا مما يعقد الأمور !
وذكرني حديثها بما قرأت عن الخطة الإسرائيلية – الجنوب أفريقية المشتركة لتأسيس مصنع حمضيات في ياميت، وتساءلت :
- كم بلغ حجم الوافدين إلى هنا؟
- زهاء ألف وخمسمئة مُستوطِن في ياميت.
ووقعت جلبة وقيل إن سببها حضور رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحم بيجن الذي يشارك في مراسم تكريس المباني والمؤسسات في المستعمرة، واقتربت من هاته الجمهرة، وقالت تمار:
- زيارته في 27 سبتمبر متفق عليها منذ فترة، (ثم في نبرة أهدأ) قبل عام زارنا رابين (رئيس الوزراء الأسبق) في الذكرى السنوية الأولى للمستعمرة، لعله كان السابع عشر من نوفمبر،.. وقد سعيت لمقابلته وسلمت عليه، ذلك أني أكبر فيه نزوعه إلى السلام ونبرته العقلانية، علاوة على أنه رئيس حزب العمل الذي إليه أنتمي!
وفهمت أنها لا تحب بيجن لأنها لم تسعَ لمقابلته، ولم تتهافت على مسيرته كما تهافت غيرها من المستعمرين، عدت أتساءل حول عدد الوافدين :
- وفي مستوطنات سيناء كلها، كم عددهم؟
- لعلهم بين خمس إلى ست آلاف نفس.
والتقطتُ الجواب في مسرة، فلانزال - سكان سيناء من العرب - نشكل أكثرية كاسحة : فنحن 157 ألف نفس مثلما قرأت في التعداد الأخير الذي نُشر في الجرائد، إنه العدد الذي يشكل قرابة مئة ضعف أولاء الموجودين في ياميت، ومن أسف أن سيناء وغيرها من المحافظات الصحراوية، قبل الاحتلال، لم تكن تجمع عن جزء من سكانها بيانات مُفصلة، وإنما تنشر بيانات محدودة في بيانات التعدادات المصرية، ومهما يكن من شيء، فإن لدينا ميزة ديموغرافية إذن، غير أنها - كأي شيء آخر- لن تدوم طويلاً، كانت جمهرة المتحلقين حول مناحم بيجن قد انصرفت، واستشرفت نفراً من الرجال الغرباء يسيرون عند نهاية الحدائق في أعقابها، وقلت:
- في الأيام الأخيرة لاحظت توافد مئات من المستعمرين المدعومين من حاخامات وقادة يمينيين متطرفين وغلاة متشددين إلى هنا.
ووافقتني في إقرار الملاحظة ثم عدنا على عجل إلى دارها، وعند الباب نظرت تمار إلى عقرب الساعة اليدوية الذي أعلن انتصاف الليل، قالت :
- يجب أن ترحل أنتَ أيضاً قبل أن يعود موسى من معبده !
هرعت بعيداً بناء على نصيحة تمار، وقطعت هذا الحزام الدائري وانتهيت إلى الحديقة، ولعبت مع طفلين لأزيل عن ذاتي دواعي الظنون، حتى إذا وقعت في نفسي طمأنينة إلى سلامتي نظرت إلى الخلف فأبصرت موسى عائداً إلى داره، ها هي ذي تمار تستقبله استقبالها الفاتر المعتاد للرجل الذي لا تحبه، وفوجئت بيد تربت على كتفي :
- ها قد خرجت من وجار الذئاب، عودة الله ! أريد التحدث معك !
كان هذا ظافر الذي سرت معه حتى الساحل، مضينا صامتين ومبتعدين من ياميت، إنه صديقي البدوي الذي طرده الإسرائيليون وقومه حين أرادوا أن يقيموا مستعمرة "سادوت"، كانت "سادوت" أولى البؤر الاستعمارية التي أقيمت في إقليم "ياميت"، وقد حظي بفرصة التعليم الجيد مثلي، وقال وقد ولى ساحل البحر ظهره :
- أرأيت إلام انتهينا؟ بدأوا في بناء "سادوت" على عهد عبد الناصر 1969م، هجرونا، ثم عملوا على تشغيلنا فيها بعد أن انتهوا من إنشاء المستعمرة قبل بضع سنوات في حقول الطماطم والنفط.
ما من عجب أن يمس هذا الحديث كبرياءه، ألفيته متأثراً كل التأثر، ومطرقاً الإطراق كله، قال:
- لولا "سادوت" ما كانت "ياميت" التي تأسست على الأولى، ستساعدني، عودة الله؟ أنت من الرميلات، نجل شيخ عشيرة الخرافيين، أكبر بطون الرميلات، إننا نقف على أطلال بساتيننا التي جُرفت بأيديهم..
- ماذا تريد؟
ألقى ظافر على المستعمرة نظرة فوليت ظهري مثله، أبصرنا طائر أبي شنار يقف على قمة المعبد اليهودي، كان هذا تجسيداً للموقف كله فقرية أبي شنار التي سُميت نسبة إلى هذا الطائر تأخذ تتوارى خلف ملامح ثقافية غريبة عنها، ولربما كان وجود "طائر الحجل" الشهير بما يمثله من صمود الفلاح وأنس الراعي تعبيراً عنيدا عن الحقيقة الأصيلة فوق هاته الزيوف القشرية الطافية، وقال :
- يجب أن نقتلهم في ياميت، أن نذيقهم نفس الكأس المر، وسنبدأ ببيت هذا الكاهن وبنته، فلتسمع لي : ثمة طائفة من شباب متطرف يعارض الانسحاب من ياميت، إنهم تابعون لرباط الدفاع اليهودي، يتزعمهم الحاخام مائير كاهانا، وأما موسى فواحد من أذرعه المتسربلة بالفضيلة، هذا الكاهن يغذي الأحقاد المكتومة في معبده..
ارتفع نبض قلبي رغم هدوء تموجات بحر الساحل، كنت على علم ببعض ما قاله عن هذا الحاخام الموتور الذي ذاع صيته :
- ماذا بعد أن نقتلهم؟ لن يبقوا على بدوي واحد في رفح، الإسرائيليون يتعمدون الرد بقسوة كالجنون، لديهم هاجس الفناء، ثم أنهم يعمدون إلى الردع والحسم والتفوق الاستخباري منذ صك بن جوريون نظرية الأمن المشهورة*، حتى كتاب التوراة فهو مليء بالعنف، مقابلة الأذى بمثله في أسفار الخروج والتثنية واللاويين، أنت تعرف هذا..
نظرت إلى صبيين من البدو يتعاركان وأردفت :
- وأما نحن العرب فأهل الفخر الأجوف، والنزق الأحمق، ومعارك "اللاحسابات"، والهزائم المثخنة،.. لا يجب أن نورط بلادنا أيضاً بعد أن وضعت الحرب أوزارها في أكتوبر، سيجيء وقت يخرجون فيه..
وغلب الصبي الآخر فجندله، وهتف ظافر :
- لن يتركوا أرضنا، إنهم متشبثون بها زوراً، ومنهم من يندفع في تيه الأساطير والخرافة التي يسوغ بها موقفه، ألم تسمع خطاب السادات قال : "إن بيجن يرفض إعادة الأرض التي سرقها قبل أن يستولي على جزء منها، كما يفعل لصوص الماشية في مصر"، لقد أنفقوا على الإسكان في المستعمرات مبلغاً يربوا على مئتي مليون شيكل !
وابتسمت من مسألة "بيجن لص الماشية"، في ظل الحرارة، قلت :
- إذا سلكنا الخيار الحصيف، سيجيء يوم تطردهم فيه حكومتهم، لأنها ستضع السلام أولوية على "استيطان محدود"، ربما يجب أن نلعب لعبة التفاوض التي برعوا فيها..
أنكر ظافر عليَّ حديثي فما رآني إلا متخاذلاً، وأما تفسير ذلك فهو أن البدوي لا يميل إلى الاحتكام إلى الجهات الرسمية، ولهذا خلق صنوفاً من أشكال فض المنازعات الموازية، كالمسعودي : الذي يحكم في قضايا مس الشرف، والقصاص : وهو قاضي العقوبات، والعقبى : قاضي النساء، والزيادي : قاضي الإبل، والضريبي : قاضي الإحالة، والمشبع : قاضي القضايا التي لا شهود عليها، وأهل العرائش : قضاة النخيل،.. وهلم جرا، وهذا النزوع المُلح لخلق إدارة موازية لمسائل حياتنا وأمور معاشنا يُساء فهمه كثيراً، فيوؤل على غير حقيقته، برغبة في التمرد أو الجنوح أو الولاء المزدوج أو حتى الخيانة الصريحة، وواقع الحال أن لدى كثير من البدو شعور عميق ومنهمر بالوطنية، حتى لقد يستوي في نظرهم أهمية أي شبر في ميدان التحرير بأي بقعة مهملة في سيناء، ولكن الفخر بالبلاد يكون مستحقاً وطبيعياً حين تمنح أبناءها ما يستحق الفخر، ولازلت أذكر أفراد هذه الوحدات التي لجأت إلى تجمعاتنا السكنية يوم الانسحاب الفوضوي في 1967م، وقد آوى أبي منهم عدداً غير يسير،.. وامتقع وجه ظافر الأشم قائلاً:
- يطردهم شارون الذي استحل الفظائع في سبيل طردنا؟ أنت تهذي.. إنهم لا يزالون يطالبون الولايات المتحدة بالتصريح بـ"قانونية المستعمرات".
وعلقت وأنا أرقب عقاباً يعاف أن يأكل ماعزاً جبلياً شريداً :
- ربما، الأيام حبلى بالمفجآت ودوائرها تدور، فلتعيدوا النظر في الأمر، الولايات المتحدة لا تزال تعارض سياسة التوسع في المستعمرات، منذ وضع الآباء المؤسسون الدستور الأمريكي ولديهم بوصلة أخلاقية غير عاطبة تماماً.
واستهتر بحسن ظني بهم، ودخلنا كوخاً فكشف لي بداخله عن نفق يصل المار فيه إلى فتحة أخرى في كوخ آخر بغزة، وهتف كأنما سِيق إلى التحدث في أمر لم يكن يروم كشف تفاصيله :
- هذا الأمر ليس وليد الساعة، لقد دُبِّر بليل، إذا تخاذلت عنه فسيقوم به غيرك..
- بعض المقاومة هي من باب المسالمة،.. ماذا جنى العرب من حروبهم الأربعة الأخيرة؟
احتقن صدره بغضب جاثم، وعاد يخبئ النفق بسعف النخل :
- المقاومة مسالمة؟ انظر كيف عبثت بالمعاني وخلطت الأوراق بيدين لاهيتين ! بعض التخاذل يتستر بستار العقلانية أيضاً ! لسنا بهائم تدور حياتنا حول الكلأ، ولنا حقوق ننتزعها بالتضيحة.
ورأيت في عينيه غريزة الصيد، وقد لفحني حديثه الأخير ببرودة كبرودة البحر القريب منّا، وقلت :
- تمار ليست إسرائيلية عنصرية، إنها نصف يهودية، تؤمن بحقوق البدو في الأرض، وترى أن الاستيطان يعرقل مساعي السلام، لا تنسفوا دارها، هناك رجل واحد جدير بهذه الأفعال، وسأساعدكم على النيل منه..
**
الفصل الرابع :
لغز مائير كاهانا
كل إصلاح يُفرض بالعنف، لا يعالج الداء.
ليو تولستوي – أديب روسي.
كل ما سمعته عن الحاخام مائير كاهانا كان متلفعاً بالغموض والتوجس، فمن يكون هذا الرجل؟ إن عداءه الكبير للعرب لهو فصل في تفرده، وسيرته المافيوية تحرج الإسرائليين أنفسهم، وأما تصوراته الإقصائية فمستوحاة من عالم قبيح لا تعايش فيه، وفي الأيام التي خلت اعتدت التردد على بيت تمار التي بدا أن الشطر العربي في شخصيتها قد نشط، وأن الحس الإنساني في تكوينها قد استوى، وقالت لي:
- اسمه الحقيقي «مارتن ديفيد»، وهو لا يرى إلا بحل الدولة الإسرائيلية الوحيدة وطرد الفلسطينيين، وينتهج في مساعيه سبيل العنف..
وقلت :
- لازلت أرى حل الدولتين فكرة مثالية طوباوية، في فلسطين هناك طرف تدعمه أكبر الدول في العالم، وطرف آخر يدافع عن المسلوب من حقه مستعملاً الحجارة والأسلحة المتخلفة، هذا الاختلال غير الخفي في موازيين القوى لا يخلق حالة التكافؤ التي قد تمهد للسلام،.. للمثاليين أن يرفعوا غصون الزيتون كيفما شاءوا، ولكن السلام يصنعه توازن القوى، لأن دافع الإنسان إلى المصلحة أوثق من تطلعه إلى الأخلاق، وحين يشتد بأس المتصارعين فالمصلحة تقتضي وفاقاً لا يدمر فيه طرف طرفاً..
وعادت تحدثني عن مصر وإسرائيل :
- التقارير البريطانية تزعم أن تكلفة نقل القواعد والمنشآت العسكرية الإسرائيلية من سيناء إلى صرحاء النقب هي نحو مليار دولار أمريكي في هذا العام وحده (1979م) ! لا يبدو السلام خياراً معبداً أبداً، غير أن مصير العالم أن يتقارب، إننا نرث الانتماء الديني والقومي من الأهل ولا يد لنا فيه، من غير المعقول أن يستمر هذا الإرث الجيني والثقافي كحتمية تخلق النزاعات حتى نهلك..
وقلت :
- لا عجب أن يصدر هذا الحديث من إسرائيلية عربية !
واحتدت :
- إنني إنسانة قبل أن أكون يهودية أو عربية..
لا تضيق الفتاة ذرعاً بحديثي، فقد أورثها رؤية "الخبال" الذي ينخرط فيه موسى ليل نهار تسامحاً مع "الأغيار"، تبحث تمار عن نيلسون مانديلا Nelson Mandela العربي أو الإسرائيلي، ولكنني أرى أن ميراث الصراع بين الجهتين أعمق من أن يُعالج بزعامات ذات كاريزما أو جماهيرية، فيجب حل المشكلات الجوهرية الرئيسة، مشكلة الحاضر : الاستيطان والتوسع، مشكلات الماضي أيضاً : كيف تنزوي ذكريات شاحبة مثل مذبحة دير ياسين أو مذبحة الدوايمة وغيرهما في الذاكرة العربية؟ وقالت :
- لا أفهم شغف بعض العرب بإنكار محرقة الهولوكوست أو ترديد خرافة برتوكولات حكماء صهيون المفبركة*، إذ أن هناك من وجوه الاعتراض الوجيهة على المظالم التي تقترفها حكومتنا ما يستحق أن يُناقش فوق الترويج لمثل هذا الهراء الذي لا طائل تحته، إن هذا يضعف موقفكم حقاً، فلا يوجد أوروبي أو غربي اليوم قد يأخذ مسألة الحقوق العربية في فلسطين أو في غيرها بجدية من شخص يشكك في وقوع محرقة اليهود في ألمانيا.
تحتفظ تمار بكتاب كفاحي لهتلر، وقد جذبتني هذه الفقرة قرب خاتمة الكتاب تحت عنوان : الاتجاه نحو الشرق :
- إن المؤمنين بالكفاح المشترك، أي الكفاح الألماني المصري الهندي لم ينظروا إلى حاضرهم الأليم، فهل من المعقول لحلف يضم ثلاثة مقعدين من مهاجمة عملاق يقظ لا يتورع عن استعمال أشد الأساليب للدفاع عن كيانه والحفاظ على ممتلكاته؟ وأنا كعنصري أتخذ من الأعراق ميزاناً أزن به القيمة البشرية، لا أسمح لنفسي ولو بالتفكير بربط مصير شعب كالشعب الألماني بصمير شعوب تحتل، من حيث التسلسل العنصري، مرتبة وضيعة.
وقلت :
- مقعدون ذوو مرتبة وضيعة على "التسلسل العنصري" المزعوم ! هؤلاء هم المصريون في ميزان هتلر، يجب أن يقرأ المدافعون عن الفوهرر من العرب هذه، عساهم يدركوا حقيقة نظرة الرجل لنا.
كنا نقلب في أعداد مجلة العالم الإسرائلي، وقع نظري على هذا العدد الصادر خلال الحرب العالمية الثانية (يسمون هتلر ب "الهر (القط) هتلر")، وتوقفت عند هذا الخبر :
- مملكة الجحيم : أصدرت الحكومة الرومانية التي يرأسها الجنرال أنطونسكو أمرها بمنع اليهود من أداء فريضة الصلاة، والاستيلاء على الكنائس اليهودية في رومانيا والمقاطعات الروسية المحتلة وجعلها نوادٍ للرقص والفواحش، وقد صرح أحد القادمين من بخارست أن اليهود في البلاد الرومانية في حالة يأس شديد، وقد كلفوه أن يبلغ يهود العالم بأنهم مهددون بشر أنواع الهلاك، إذا لم يبادر العالم المتمدن إلى مساعدتهم وإنقاذهم من الجحيم الذي يعيشون فيه.
لازلت أتعاطف مع محنة اليهود في العهود الوالية، متسرع هو من يخلط بين الصهيونية العنصرية التي اقترفت الويلات في حق العرب، وبين الشعب اليهودي الذي يرفض جزء غير معدوم من نسيجه هذا العسف رفضاً إنسانياً قبل كل شيء، وأسوأ النفوس هي تلك التي يجرها الشنآن على ألا تعدل، وفي كل حوض ينبت الكريم والخبيث،.. وإنني أرى نفسي معارضاً للتهجير والمصادرة القسرية التي تعرض لها يهود المشرق العربي، مثلما أعارض هذا التهميش الذي لاقوه من السلطات الأشكنازية في تلك العقود الأولى من حياة اسرائيل، وإن مثل هذه المواقف المركبة في السياسة هي التي تجعلك تخسر الجميع ولا تخسر نفسك،.. وقد احتفظت ببعض القصاصات القديمة في الصحف المصرية في حقيبتي، هذه واحدة من شهر يونيو عام 1967م :
- دخل الجنرال موردخاى جور المسجد الأقصى المبارك فى اليوم الثالث من بداية الحرب، ثم دخل جنوده، ورفعوا العلم الإسرائيلى على قبة الصخرة، وحرقوا المصاحف، ومنعوا المصلين من الصلاة فيه، وصادروا مفاتيح أبوابه، وأغلقوه على مدى أسبوع كامل منعوا خلاله الصلاة والأذان؛ ثم أعادوا مفاتيح الأبواب، باستثناء مفتاح باب المغاربة، إلى إدارة الأوقاف الإسلامية (المسؤولة عن إدارة شؤون المسجد الداخلية)، وما زالت إسرائيل ترفض إعادته؛ لاستخدامه بوابة لإدخال اليهود إلى المسجد، بدون إذن الأوقاف. كما جرى الاستيلاء على حائط البراق، وتحويله إلى مزار لليهود؛ بينما منع المسلمون من دخوله.
كنت أفكر : ما الفارق الجوهري بين الجنرال أنطونسكو وبين الجنرال موردخاى؟ آن المغيب فنهضت منصرفاً، سأقصد إلى المعبد اليهودي في ياميت، إنني أروم لقاء الكاهن موسى هناك، أريد الاقتراب أكثر من عالم مائير كاهانا، وحين أحصل على المعلومات اللازمة سيكون من الجيد إيصالها إلى ظافر،.. حين وصلت إلى المعبد أبصرت بابه المقفول، على الجدران آثار تشغيب الصبية، ثمة صليب معقوف (صليب النازية) كبير مرسوم، وشتائم، أين ذهب طائر أبي شنار؟ لم أجده ولشد ما استوحشت المشهد دونه، انفتح باب المعبد فأحدث صريراً وغباراً، خرج الكاهن أخيراً، رآني أمام الصليب النازي فخال أنني من رسمته، واقترب مني فدفعني وهو يقول :
- "حقاً، العنف خير وسيلة مع العرب، لم يحسن التعامل معكم إلا سيدي مائير كاهانا !".
عاد إلى المعبد ثم خرج منه بدلو فيه طلاء وفرشاة وجثا على ركبتيه يمسح الصليب ذا الدلالة المؤلمة عنده، اقتربت منه أقول :
- "لقد جحدتني من حيث أسأت الظن بي، سيدي، أريد الانضمام إلى جماعتكم المباركة : رباط الدفاع الـ !".
قاطعني :
- "كيف؟ أنت بدوي وعربي..".
- "ألا يسوغ للمرء أن يخرج من شرنقته؟".
رمقني بنظرة تساؤل وتفحص، لاريب أن الرجل يعرف أخبار هؤلاء البدو الذين يتسللون إلى المستعمرة لأخذ صور فوتوغرافية ينقلونها إلى الحكومة المصرية على مثال فرحانة حسين سالم الشهيرة بـ"أم داوود" التي ذاع صيتها مؤخراً، لأعمالها البطولية، وما تخفيه في صوفيتها – وهو حزام ترتديه البدوية حول وسطها – من أسرار تجمعها وأفلام تسجلها،.. سرعان ما استقر موسى إلى شيء :
- "لن تخدع بهذا الهراء شيخاً مثلي..".
ترك الفرشاة والدلو، نهض، ثم ولاني الرجل ظهره فقلت :
- "إنهم يريدون قتلك !".
- "لا يعنيني الموت، ربَّ مرة رأيته يمر فيها أمامي في مذابح النازية البربرية!"
- "يريدون نسف معبدك أيضاً !"
هناك التفت إليَّ متسائلاً :"من هم؟ "، ووضعت الفرشاة في ذاك الدلو ماسحاً آخر ما بقى من أثر الصليب المعقوف، وقلت :
- "ليس قبل أن أدخل إلى المعبد..".
كانت قاعة المعبد نظيفة ومرتبة (وهو أمر اُشتهر به اليهود خلال تواجدهم في مصر)، وقد كان لدى موسى هوس بأن يجعلها كذلك لتناسب مراسيم الصلاة مثلما أخبرني، كنت أعرف سلفاً أن في كل معبد يهودي تابوت مقدس، وكوة في الحائط تُحفظ فيها لفيفة واحدة من التوارة، بحثت عن هذين فبادرني موسى بشرح الصلاة اليهودية وقال أيضاً :
- "يجب تأدية الصلاة مرات ثلاثة : الصبح والظهر والعشاء، ويًضاف إليها صلاة إضافية في أيام السبت والأعياد، ومطلع كل شهر وفق التقويم اليهودي !".
كنت جاهزاً برد كأنني أدخرته لمناسبة أو لغير مناسبة :
- "لعل ثمة الكثير من المتشابهات بين الإسلام وبين اليهودية إذن..".
تجهم وعلق في ضيق أفق :
- "إن هذا إلا رأي الجهلاء،.. الإنجيل مكتوب بالسريانية، والتوارة مدونة بالعبرية، وأما القرآن فمسجل بالعربية،.. وهناك من يبحث عن تشابهات في التَرَاجِم المختلفة للكتب الثلاث، ثم يلوي عنق النصوص ليزعم أن المشكاة واحدة، والحق أن المصدر واحد فعلا وقد أرسل إلى العالم ديناً واحداً، وأنبياء كذبة،.. لماذا تصرون على الدفاع عن هذه الصحراء؟".
ولابد أن الحاخام كان يرمي إلى أن دينه (اليهودية) هو الدين الحق، شأنه شأن من ورثوا الإيمان جميعاً، وقلت جواباً عن سؤاله الأخير :
- "ليس الأمر بجديد ولا هو بالمُحدث، ذلك أن سيناء هي المدخل الشمالي الشرقي للبلاد، أو البوابة الأمامية، مثلما كانت النوبة وجنادل أسوان بوابة الجنوب، ومرمريكا بوابة الجانب الغربي، وهذه سيناء وقد ظلت مسرحاً لحركة الجيوش، ودخلت عبرها مصر كثيراً من الغزوات والحملات منذ حملة الهكسوس لتأمين الحدود أو لتوسيع الإمبراطورية، ولعلها أن تكون الأرض ذات السجل العسكري الأطول في التاريخ، هناك هلك بولدوين عند سبخة ملحية قاحلة بالشمال (شمال سيناء) هي سبخة البردويل التي باسمه سُميت..".
ولست من هواة المباهاة بأخبار الحروب ووقائع الماضي، ذلك أنني موقن بأن كل حرب هي كارثة، ولا وجود لحرب نبيلة لأن قتال الإنسان ضد الإنسان هو مما يجنيه على نوعه، وأما خلافات المذاهب والفكر فيجب أن تُسوى في الميدان النظري لا ساحة البارود، ولكنني كنت أصدر عن شعور بالخوف ساقني إلى مثل هذا الحديث الذي كان أشبه إلى "شوفونية عارضة مسوغة الأسباب*"، وقد أدركت باتساع آفاق معارفي أن لكل بلد أدبيات مماثلة تمجد تاريخه وتصوره على أنه "الحالة الفذة" ولا بأس، فلنا أن نضع هذا التمجيد – إذا هو مكث في حدود معينة مقبولة - تحت بند العادات والأخبار التي يجتمع عليها القوم لئلا يهلكوا، وقد استهان موسى بحديثي استهانة تجلت في ابتسامته الساخرة :
- "سيناء اليوم أرض ملحقة بمصر زوراً، إنها إقليم منفصل ولا يجب أن نفرط في إنش واحد منها، إنها ساحة تدريب ضارٍ، وملعب مترامي الأطراف، وحلم سياحي، وذخيرة طبيعية، ومشرع تجريبي زراعي،.. الانسحاب من سيناء سيجر علينا ما لا يُحمد عقباه، من حيث سيشكل سابقة قد تكرس لمسألة الانسحاب من المستوطنات، نواجه خطراً وجودياً ولا يجب أن نفرط في أرض مساحتها أكبر من إسرائيل، إنها ذاك المثلث الهائل الذي يلحم آسيا بأفريقيا..".
عرفت من الرجل أنه انضم إلى حركة وقف الانسحاء من سيناء التي تأسست حديثاً في إسرائيل مع اشتداد عود مفاوضات السلام، وقال مباهياً في غير سبب :
- "سنجمع لهذا الغرض مليون توقيع على عريضة الاحتجاج على الانسحاب المشين.".
وتفرع حديثي معه عن أحوال أسفاري الطوال رفقة عشيرة الرميلات، وقد وصفت له طبيعة سيناء مما اطلعت عليه في كل سفرة : مظاهرها الجبلية والصحراوية في القسمين الجنوبي والأوسط، وتلكم الكثبان الرملية والسبخات في الجزء الشمالي، وقلت :
- "هي مقسمة إلى أجزاء ثلاثة : السهل الساحلي حول العريش، وهضبة التيه، ومرتفعات سيناء، هذا الشريط الساحلي الرملي يجاور الصحراء المصرية السفلى ويتابع امتداده إلى فلسطين، مواجهاً في الجنوب جبل المغارة المعزول وفي الشرق جبل الحلال، وقد زرت الاثنان، ما تزال لوحة خوفو المنقوشة في جبل المغارة وهو يضرب الأعداء تطفو على خيالي، وأما جبال التيه فتحتل كامل جنوب سيناء خلا جبل الطور، وقد حذرني منها أبي، وفي وسط هذا التيه يبرز جبل عجمة القاحل والفقير بالمياه، ويُسمى الامتداد الشمالي لجبال التيه إزاء السويس بجبل الراحة، أيها الكاهن : إذا سألتني من صاحب الأرض؟ لقلت : من يعرف طبيعتها..".
استاء الرجل :
- "لازلت على جهلك، قلت بأنك ستخرج من شرنقة الجهالة العربية، ولهذا أدخلتك !".
- "ما علاقة كاهانا بالمافيا في نيويورك؟".
- "لا علاقة لسيدي بالمافيا، سيدي يروم الدفاع عن اليهود.".
- "لقد أخرجوه (أي المافيا في نيويورك) يوم قبضت عليه الشرطة الفيدرالية الأمريكية، كان حائزاً سلاحاً غير مرخص، إنه مجرم.".
أشار موسى إلى الهولوكست النازي البشع في حديثه :
- "تريد منه ومني أن نلعب دور الحمل الوديع في غابة الوحوش الضارية؟ من الخبل ألا يدافع اليهود عن أنفسهم في عالم قُتل فيه ستة مليون يهودي.".
- "فلتسمع لي : لسنا في عهد النازية، وقد مرقت الإنسانية من عصر الاستعباد والامتهان، وأما اليهود فقد عاشوا بين العرب قبل أن يراودهم هاجس الاستيلاء على الأرض، كان يجب أن تقرأ عن اليهودي موسى بن ميمون : الطبيب الشخصي لصلاح الدين الأيوبي، وكذا عن ما شاء الله بن أثري اليهودي الذي أسس مدرسة الفلك على عهد المنصور، والشاهد هنا أنه لم يكن هناك "جيتو مهني" عُزل فيه اليهود في بلاد العرب.".
- "العرب لا يستطيعون العيش بسلام مع أنفسهم، تأكلهم العصبية والنار تأكل نفسها إن لم تجد ما تأكله*، كيف باستيعاب الغرباء؟ هل أتاك حديث أيلول الأسود*؟ وما صنعه الفلسطينيون بالأردن؟ أجبني بجواب لا مناورة فيه : ماذا صنع العرب بهذه الأرض (يريد سيناء) التي لم يمسها أثر العمران خلا المناطق الإدارية ومناطق التعدين والبترول طوال قرون؟".
وهمست في سري :" أيها الخجل : أين حمرتك؟"، وقلت :
- "أراك تتحدث بهذا على أرض مستعمرة عمرها بضع سنوات،.. علام يستند المستمسكون بالبقاء في ياميت؟ من المدهش كيف يتباكى قوم لفراق أرض ليست لهم. ".
- "فلتصمت، أنت تتحدث بهذه الصفاقة على أرض إسرائيلية وادعة وآمنة كتبها الرب لشعبه المختار، وفي قلب معبد يهودي هو بيت الرب نفسه،.. لماذا يريد بعض المسلمين العودة إلى احتلال الأندلس إذن؟".
وضعت يدي في كوة الحائط التي يُفترض أن يكون فيها لفيف التوارة، أخرجت بعض المتفجرات من الكوة وقلت :
- "أرض إسرائيلية وادعة وآمنة؟ ليس تماماً ! ماذا عن هذه المتفجرات؟".
اتفقت مع ظافر على وضع المتفجرات في كوة المعبد، لم نشأ تفجيره حقاً ولكنها حيلة لكسب ثقة الكاهن والاقتراب من دائرة شباب الدفاع اليهودي، لم يصدق موسى ما رأى، وقلت :
- "ها قد أنقذتك ومن الواجب أن ترد لي الدين !".
تنفس المذهول الصعداء وهو يتساءل كالمرغم :
- "وكيف أرد لكَ هذا الدين؟".
وأجبت :
- "أن تصل حبالي بحبال الحاخام كاهانا !".
بمجرد خروجي من المعبد رأيت نفراً من الرجال يهرولون فتبعتهم، وقدرت عددهم بمئة أو مئة وعشرين، وانتهوا إلى موقع غير مأهول في الصحراء ما بين العريش وبين ياميت، وحدست أنهم أفراد حركة جوش إيمونيم Gush Emunim التي يتحدث عنها الناس في ياميت، وركبني القلق الذي أفقدني بعض رشدي، وسرت في جسدي قشعريرة راجفة، وسمعت رجلاً منهم يقول:
- "نعلن اليوم، الموافق عشرون من مارس من عام 1979م، إنشاء مؤسسة مستعمرة عصمون Atzmona الجديدة، رداً على موافقة مجلس الوزراء الإسرائيلي على معاهدة السلام المجحفة مع مصر، ولتبقَ سيناء معقلا دائما لنا !".
وأدركت - من أغرب وأخطر المصادر - أن السلام قد وقع، ومضيت عن الوقوف ووعيت أن ما يفعلونه لن يتعدى زوبعة في فنجان، فقد "شاط الأمر واحترق" بلغة أهل الدين، وأما هذه المحاولات العابثة لجماعات تطرف محدودة تثير الغبار في الصحراء بجيش من الحانقين فلا تتعدى كونها طفولة سياسية،.. وعدت إلى ياميت لأرقب أصداء الخبر، ورأيت تظاهرة كبيرة منددة بمشروع السلام، ورجلاً يحمل طفله فوق رأسه وهو يردد : السقوط لكامب ديفيد، ومنزلاً محروقاً وحوله رجال إطفاء، ورجال ينصرفون بحاجياتهم وقد أتوا لأجل العطلة من النقب وبئر السبع،.. وتحدثت مع نفر من أهل المستعمرة فبدوا مرتابين من حقيقة هاته التعويضات التي سيحصلون عليها بعد تفكيك المدينة، وبدت المسألة محاطة بكثير من الأراجيف والظنون، وبدت – إلى ذاك - مشكلة اقتصادية فوق ما هي قضية سياسية، وسمعت أرقاماً محتملة للتعويضات فرأيتها في غاية السخاء، واستهنت بهذه الريبة، بل عجبت منها أيضاً، وانتهيت إلى مزرعة، وطالعني وجه رجل يلبس فانيلة خفيفة من باب مزخرف بنجمات داوود، يقول في مرارة وإحباط :
- لعلهم لن يراعوا (أي حكومة إسرائيل) الثمن الذي تكبدته في إنشاء هذا المنزل في تعويضهم المنتظر، ولعلهم يسقطون فترة خسارتي في الدخل خلال انتظار الانتقال إلى مكان آخر أيضاً، والبدء في مشروع جديد،.. ومن أنت؟ هل أنت يهودي؟
وبدا لي رجلا رتب حياته على البقاء في مزرعته، فابتسمت وقلت : "بل إنني عربي.."، فقال ورأسه يكاد يحاذي سقف البيت المشاد من القرميد :
- "غريب، تبدو سامياً.".
وعجبت من عجب الرجل ولم أشأ التورط في "حديث السامية" الأجوف، وكنت لأقول أن الساميين هم عرب الجزيرة من عرب الشمال، وعرب الجنوب، علاوة على الآشوريين، والبابليين، والآراميين، الذين عاشوا في بلاد الرافدين في حقبات زمنية متفاوتة، وكذا الكنعانيون، والفينيقيون، والعموريون، والمؤابيون، والأدوميون، والعمونيون، والعبرانيون، وهؤلاء عاشوا في دويلات بلاد الشام في فترات زمنية مختلفةٍ،.. وقال :
- "هذا السلام المزعوم هو الخراب لي، أحياناً يكون صنع السلام أصعب من شن الحرب، وفي بلادكم كيف ترونه؟".
وعلقت وقد زلفت من نجمة داوود المزخرفة :
- "هناك جماهير كثيرة خرجت لتأييده : من مطار القاهرة الدولي إلى منزل الرئيس بالجيزة.".
- "في الكنيست مر قرار الموافقة على المعاهدة بأغلبية ساحقة أيضاً*،
- "كيف ترى المستقبل؟".
- "في أفضل الظروف ستعود السيادة لكم، وسنبقى هنا مع التبعية لنظام المحاكم الإسرائيلية في الأحوال الشخصية، والاحتفاظ بقوات دفاع محلية أو من الأمم المتحدة.".
وجعل يردد : "السادات رجل حكيم وجسور، وضع حياته على المحك من أجل الأجيال الجديدة، ورحلته إلى القدس مما يذكر له، ولكن استمساكه بياميت أضاع كل رصيده عندي،.. لماذا لم يقبل بضم رفح إلى غزة مثلما طلب منه وايزمان*؟ لقد ظل مطالباً بإخلاء المنطقة بين العريش وبين رأس أحمد كأنها من خاصة أملاكه!"، وقد كان رأي هذا المستعمر المجهول هو الرأي السائد في الدوائر العالمية عن السادات، وحتى لقد غدا وقبل اغتياله نجماً فيها، وقد جعل السادات من التخلص من مستعمرات سيناء – وعلى رأسها ياميت – مسألة لا يقوم السلام إلا بها، وما دون هذا المنال إهانة شخصية له، ولشد ما قدرت له هذا الموقف، حتى أنني رأيت فيه رجلاً من الرميلات، وعلى ذاك استخدم الإسرائيليون المستعمرات كورقة مهمة يساومون بها،.. وقلت :
- "لعله رأى القدسية في الأرض، لقد قال في خطاب الكنيست إن شبراً فيها بمنزلة جبل الشريعة الذي كلم فيه الله موسى عليه السلام..".
وأجابني المستعمر وهو يغلق الباب :
- "هذا هراء، لا وجود للقداسة إلا على ما نضفيه نحن على الأشياء،.. ومنذ فجر التاريخ فالحدود لمن غلب..".
وقابلت إعلامياً بريطانيا جاء لتصوير المستعمرة إبان هذا العهد المضطرب من حياتها، وجعل يصور التظاهرة والبيت المحترق، وبدا متخفياً كأنه لم يوفق أوضاعه القانونية الخاصة بالتصوير، وقال لي :
- "كان هناك اقتراح بجعل المنطقة الواقعة بطول الحدود الإسرائيلية من العريش إلى شرم الشيخ تحت علم الأمم المتحدة، بحيث تكون بعض المناطق منزوعة السلاح أو محدودة القوة".
ولم أقف على زاوية الوجاهة في هذا الاقتراح، ولعله الاقتراح الذي يخدم أمن إسرائيل فقط :
- "لن يفيد أحد بالأرض بهذه الطريقة ! ولماذا تقبل مصر بهذا وهي صاحبة الأرض قانونياً؟".
ووجدته مهتماً بالقضية – أي الصراع العربي الإسرائيلي - على نحو ملفت فسألته :
- "لماذا تهتم بهذه القضية؟".
- "لأن بلادي (أي بريطانيا) تسببت فيها بوعد بلفور الشهير!".
عدت إلى خيام البدو وتهيأ لي أن أقرأ أعداد الصحف، كان المهربون يبيعون لي جريدة السفير بخمسة أمثال ثمنها الحقيقي المدون على الصفحة الأولى : مئة قرش، ولفتني هذا العنوان والخبر :
"مستوطنو ياميت" يواصلون احتجاجهم.
شامير : محاولات مصر لتعميق خلافاتنا مع واشنطن تدفعنا لإعادة النظر في "عملية السلام".
أشعل المستوطنون اليهود في مستعمرة ياميت الواقعة شمال سيناء النار في أربعة منازل جديدة احتجاجاً على ضآلة التعويضات التي تعتزم الحكومة الإسرائيلية دفعها لهم مقابل إخلاء المستوطنة في نيسان المقبل في إطار الانسحاب من سيناء، وقد سبق المستوطنون أن أشعلوا النار في سبعة منازل، مطالبين بـ 150 ألف دولار لكل منزل في مقابل إخلائه.
.........
.........
قد أعرب عدد من سكان المستوطنة لصحيفة معاريف عن موقفهم من العناصر المتطرفة التي تسيطر على الوضع في ياميت والعازمة على خوض مواجهة مع قوى الأمن، وقال هؤلاء "نحن نعاني من الإرهاب ولم يعد في وسعنا تحمل هذه العناصر". وقد شرح وزير الخارجية والدفاع إسحق شامير، وأرييل شارون أمام لجنة الشؤون الخارجية والدفاع في الكنيست موقف الحكومة من سكان المستوطنة..
وطالعت عددين من جريدة أكتوبر التي يحررها أنيس منصور :
السادات : قرية ياميت لا أريدها.. فليحرقوها !
وفي العدد الثاني صُححت كلمة "فليحرقوها" إلى "فليحرثوها"، مع اعتذار عن خطأ الطباعة، ولدلالتها النازية في الذاكرة اليهودية.
وانتهيت من القراءة ولم ينتهِ شغفي بالمسار الذي ولجت فيه مغامراً، حتى قلت في نفسي :"المتطرفون يمسكون بناصية الأمور في ياميت إذن، الآن يجدر بي أن أقابل كبيرهم الذي علمهم السحر : الحاخام مائير كاهانا، أجل، اليوم، اليوم، وليس غداً *!"، ووجدت أن تمار قد لحقت بي إلى محيط الخيام، وطالعها آل القبيلة بنظرات مستطلعة كأنهم يستكشفون حدثاً جديداً، وعلقت قلقة :
- لدي وثائق سرية تفيد أن تل أبيب تماطل في تسليم رفح (المقامة عليها مستوطنة ياميت) للحكومة المصرية رغم نص معاهدة السلام على إعادة سيناء كاملة للإدارة المصرية، إنهم يرفعون شعار Camp David ‘s dead والمجلس المحلي لياميت يعارض الإخلاء..
واسترعى حديثها اهتمام البدو، وكنت أعرف الأهمية الخاصة لياميت في السياسة الإسرائيلية وهي المدينة ذات الميناء المهم على البحر المتوسط، وقلت متذكراً ما قرأته عن مساعي الرئيس الأمريكي جيمي كارتر في إتمام اتفاق السلام*، وهذه الضغوط الأوروبية المتصاعدة على إسرائيل*:
- لعلهم يخشون أن يعود الاتصال إلى قطاع غزة ولا بأس، فهي مماطلة لن تدوم طويلاً.
**
الفصل الخامس :
اليمامة الحمراء
إبريل 1982م..
قابلت الحاخام مائير كاهانا بعد تزكية من الكاهن موسى، بوصف أنني "البدوي الذي أنقذ المعبد اليهودي"، وقد خففت من اعتراضاتي خلال السنوات الأخيرة لأحوز ثقته، مثلما نقلت إليه بعض المعلومات الصحيحة عن قبائل سيناء وعاداتهم، اجتمعت إلى طُغْمَة الحاخام إذن في منطقة نائية من الصحراء بعد أن عصبوا عيني وساقوني إلى هناك، أعرف أين نحن بالضبط فالبدوي لا يشبه قصة جحا والسحابة*: من جهة استطاعته أن يميز أدق معالم الصحراء العابرة، وأن يجعل منها أدلة بينة وإشارات واضحة بل وركائز استدلال، وقلت في نفسي بمجرد النظر إلى محيطي : "لا نزال في رفح بضع مئات الأمتار بعيداً من صخرة ديان*".
حين رأيت الحاخام كاهانا أول مرة بدا لي - ومن المفارقة - عربي الملامح، فهذا الشعر الأسود الفاحم الكثيف ليس غريباً عن صفات البدو أو مظهر العرب، وهذه النظرات الحادة الواجمة التي يوزعها أو تلك الشاردة المستغرقة التي يهبها لخيال يطوف في رأسه هي نظرات رجل دين إبراهيمي متشدد تقليدي، وأما هذه الانفصالية الوجدانية التي يرتع فيها الرجل وجماعته فقد رأيت مثلها ينمو في بلادي التي زحفت وتزحف فيها الوهابية بمد جديد بات يدفع جماعات التطرف، هذا بعدما صار للنفط الخليجي وزنه العالمي المعروف، وبعدما صار للوهابية نفوذها الثقافي الجديد وأذرعها الممولة، وحتى أنني لوهلة شعرت نفسي قبالة شكري مصطفى*،.. سألني كاهانا :
- "لماذا أراد البدو تفجير المعبد؟".
- "سيدي، جعلتم البدو يعملون في حقول الطماطم بعد أن أخرجتموهم من أرضهم في سادوت، وأقمتم مستعمرة "ناحال سيناي" ذات الدواجن والزيتون على أنقاض مزرعة ناصر النموذجية! وهلم جرا،.. حين يشعر الإنسان بالمهانة ويخسر قوت يومه من البدهي أن يفكر في الانتقام! ومن لا يملك لا يخاف..".
لم يتوقف الرجل طويلاً عند حديثي، بدا باله مشغولاً بما له أولوية على "مجرد تفجير معبد"، هو يستمع لي كصوت غريب ومهم يمثل الضفة الأخرى من القصة، وقال :
- "إنني لا ألوم العرب حين يفكرون في تفجير معبد، فحكومتنا تريد تفجير ياميت بأسرها، هذه جائزة العرب لقاء السلام في كامب ديفيد، ولا يجب أن نترك لهم الساحة، ذلك أننا سنحمي هذه الأرض بأرواحنا..".
لدى كاهانا طائفة من الشباب المتعصبين الذين يلفون لفه، ويقتفون أثره ولو دخل جحر الضب الخرب، علا هرج الحماسة في أعقاب حديثه من قبل هؤلاء، وقال هو ثملاً بالغضب :
- "هؤلاء السفهاء يطلقون الرصاص على أقدامهم ! بئس القيادة قيادة الثلاثي المتخاذل : مناحيم بيجن، أرييل شارون، رافائيل إيتان* ! انظروا إلى حديث هذا المأفون شارون وما يهرف به على صفحات الجرائد : لن نسمح لعصابات المستوطنين أن تقوض الدولة ! لقد نسى بيجن أن الأحزاب الدينية هي التي مكنته من تشكيل الوزارة في العام الفائت (1981م)،.. وها قد فوض الكنيست الحكومة بالإخلاء فالويل لهذا وذاك، إن من سخريات القدر أن جعلوا لتدمير المستوطنة اسماً كودياً شاعرياً مثل : اليمامة الحمراء، وقد جمعوا لهذا الغرض ما جمعوا : خمسون جرافة، عشرون ألف جندي، عشرة آلاف شرطي، سبعون شاحنة من الديناميت، وأما وزن الشاحنة الواحدة فمئة كيلو متر ! إلهي ! لقد وضعوا هذا كله في تلك الملاجئ المحصنة هناك، فهل نحن في مسرحية عبثية من تأليف صامويل باركلى بيكيت؟ أيها الرفاق : ما أقربنا إلى ساعة الصفر ! اندفعوا إلى العمل، هلموا، من أجل إسرائيل الكبرى ! من أجل دولة يهودية تطبق الشريعة تطبيقاً كاملاً، من أجل الجنة (يقصد ياميت) التي لا يريدون لها أن تدوم إلا لسبع سنين!".
قال أحد الشباب :
- "يجب أن يحوز المستوطنون أسلحة دفاعية لحماية أنفسهم!".
وعلت صيحات الحماس كفحيح الأفاعي، شعرت بالقلق على تمار فتساءلت في خجل أمام هذه الهتافات :
- "أين ذهب المستوطنون، سيدي؟".
هتف كاهانا حتى ارتجت أحجار الأرض :
- " لقد جبنوا وخافوا، فر أكثرهم إلى مستوطنة نيفي ديكاليم في قطاع غزة، قبضوا ثمن التعويض البخس عن أرض لا تُقدر بثمن : خمسمئة ألف دولار، ولقد غلى دمي وقتما بلغني كيف وضع ساستنا في الكنيست مشروع قرار بتعويضهم مالياً بجلسة عاصفة في الثلاثين من مارس،.. ولكن رويدكم، فهيهات أن نفر مثلما فروا ! ماذا كانت ياميت في الأصل إلا مقبرة وصوبة لزراعة الشتلات؟ لقد جعل الإسرائيليون منها شيئاً ذا بال..".
- "ماذا عن الكاهن موسى؟"
- "لا يزال موسى في ياميت، إنه رجل مخلص، أمرت الرجال بالتحصن على أسطح المنازل، ولابد أنه فعل مثلما فعلوا، إنه رجل دين حقيقي وليس كهولاء الحاخامات الزائفين الذين باعوا أنفسهم للحكومة،.. طوبى له!".
أدركت منذ مدة أن موسى هو الرجل الثاني بعد كاهانا في شباب «رابطة الدفاع اليهودية»، أعادني رجال الحاخام إلى ياميت لأشارك معهم أعمالهم، رفقة نشطاء منظمة "جوش إيمونيم"، وأعضاء من حزب "هتحيا"، ودخلوا في اضطراب عظيم حول أداء الخطة التي قُررت عليهم في ساعة ثورة، وهي : امتطاء أسطح المنازل والتشبث بها، وملازمة المخابئ والأقبية المحصنة القوية بأي ثمن، مع تقييد أنفسهم والتهديد بالانتحار،.. ولشد ما عجبت من سماع هذه الطريقة في المقاومة لتهافتها الظاهر وانعدام جدواها غير الخفي، وتوقعت أن يبدي أحد "الرجال" اعتراضاً على تلك الخطة التي ستجعل من منفذها بطة عرجاء في وجه زحف لا يُغلب من الجنود، ولكن الدوجما* القومية والدينية كغشاوة الرؤية التي تمهد للطاعة العمياء وسياسة الانسياق، ودخلوا في حيص وميص، فمنهم من أدرك حماقة ما سيقدمون عليه ومنهم من تشبث بأوامر "سيده" كاهانا، خلال هذا وجدت مندوحة من الزمن لأن أقصد إلى ظافر، ونقلت إليه موقع الحاخام الذي لم يلحق برجاله في ياميت ومكث في رفح، قرب صخرة ديان، وقلت له :
- أرييل شارون (وزير الدفاع) نفسه من يشرف على عمليات الإجلاء بعدما عهد إليه بيجن بالأمر،.. حتى رجال الدين اليهودي والحاخامات فيجري استخدامهم لإقناع المستوطنين بترك منازلهم،.. وقد حددت الحكومة الإسرائيلية أجلاً للانسحاب هو نهاية الشهر الفائت (31 مارس).
وقال لي ظافر باسماً :
- انقلب السحر على الساحر، وعلى الباغي تدور الدوائر،.. (ثم تابع في جدية ظاهرة) ما المسوغ وراء تدمير المستعمرة إذن؟ ألم يتفقوا مع الحكومة المصرية على دفع ثمانين مليون دولار لقاء الإبقاء على المباني؟ يريدون تحطيم المستعمرة لئلا نستفيد منها؟ يطبقون سياسة الأرض المحروقة؟
ذكر ظافر التفسير الشائع بين البدو، ولكنني ذكرت التفسير الآخر الذي سمعته من جماعة الحاخام كاهانا وقد وصل إليه من دوائر الحكومة هناك :
- في كل مرة يجري فيها إخلاء مستعمرة في سيناء، يعود المستوطنون في الليل، ومن المرجح أن يعاودوا الكرة بعد الانسحاب النهائي في الخامس والعشرين من إبريل، ومن المتوقع أيضا أن تجري اشتباكات بينهم وبين المصريين العائدين، وهي لا تريدها أن تكون بؤرة لتهريب الأسلحة والفدائيين، لعل الحكومة الإسرائيلية تروم تدمير المستعمرة تجنباً لهذا كله، إنها تريد حدوداً وجيرة هادئة بعد توقيع اتفاقية السلام..
اليوم هو الواحد والعشرون من نيسان/إبريل، وحين عدت إلى ياميت وجدتها محاصرة، تسللت في عناء إلى هذا القليل الباقي من عمر "الفردوس المفقود" بسيارة مارسيدس نسميها نحن - أهل سيناء - بالتمساحة، وقد جاء هذا الصنف من السيارات إلى سيناء عبر سائقي غزة الذين دأبوا على نقل العمال من العريش إلى فلسطين، سارت عمليات الإجلاء على قدم وساق، سرعان ما أخفقت المساعي السلمية أولاً فانتقلنا إلى غير السلمي منها، ومعها شاعت نذر الدماء والعرق والدموع : أبصرت الإسرائيليين المسلحين بالخوذات والسترات الواقية يهاجمون رافضي الانسحاب بالهراوات ومضخات المياه، ولم أستطع تقدير عددهم (رافضي الانسحاب) آنذاك، ولكنني عرفت في وقت لاحق أنهم كانوا زهاء ألفين نفس، وتمسك هؤلاء في البقاء بناء على "حق الفتح" حيناً، و"حق الاستيطان" أحياناً أخرى، وإذا كنت أعرف سلفاً أن قاطني ياميت قد بلغوا عند أقصى تقدير خمس آلاف نفس، فهذا الذي يعني أن قرابة ثلاث آلاف منهم قد قنعوا بالتعويض وآثروا السلم والرحيل الهادئ قبل 31 مارس،.. عُلقت على جدران البيوت سلالم خشبية طولها أمتار خمسة حاول المستعمرون إسقاطها بعصيان من حديد، رأيت خمسة عشر جندياً يتسلقون أحد هاته السلالم، على حين يدفعهم الواقفون على الأسطح إلى السقوط، وشرعت أبحث عن تمار في المستعمرة التي اختلفت معالمها كلوحة سيريالية من إبداع سلفادور دالي*، لوحة بها من جنون التكوين مثل ما بها من جنون السياسة وحيرة الإنسان !
انهمرت القذائف فوق رأسي من الأسطح في طريقي إلى بيت تمار، وما لبث أن أصابتني إطارات سيارات مشتعلة ببعض الحروق في يدي، وتعثرت بركام الحجارة والحديد، سرعان ما استخدم العسكريون الغازات المسيلة للدموع وساءت الرؤية، بت أعيش لحظة مقتبسة من فوران الجحيم، رأيت ملامح الأمل مع ذاك، ذاك البريق المتجلي في نهاية هذا الوهم والاستيطان الجائر، رأيتهم يخربون بيوتهم بأيديهم، وقلت في نفسي وأنا أرصد تجليات المشهد الوبيل : يوما ما سيعيش البشر سوياً في عدالة وسلام.
بدأ شباب «رابطة الدفاع اليهودية» ينفذون خطة الحاخام "العبقري" مائير كاهانا، وهي الاختباء في الأقبية المحصنة والتمترس في خندق ثم التهديد بالانتحار، وتحصنوا في غرف مسلحة تحت المباني (بنكرز)، وتبين لي أنهم خزنوا المفرقعات والقنابل اليدوية، غير أن القوات الإسرائيلية سرعان ما سعت إلى إخراجهم بمطرقة عملاقة مُعلقة على رافعة، ودُمرت جدران ذاك الملجأ المبني بالأسمنت المسلح، وتمكن الجنود من إخراج عصبة كاهانا مستخدمين مضخات مياه وهراوات ومواد كيمياوية رغوية ساعدتهم على الانزلاق، رأيت تمار أخيراً، ألفيتها مرغمة على البقاء على سطح منزلها رفقة الكاهن المهووس موسى، قد قبض عليها رافعاً السلاح إلى عنقها، وسمعته يقول :
-"سأقتلها، لا يصعد منكم جندي واحد.. ".
ونضح المشهد بعبثية مثيرة للتأمل، فالكاهن اليهودي يوجه وعيده لجنود أرييل شارون، وخلت أن الدنيا تدور حولي وأن الأرض تميد بي، وأحزنني أن يخون الكاهن عهد الأمان الذي سبق أن قطعه مع والد تمار اليهودي، وقد وضع الكاهن لخزعبلاته المنكرة وضع السبق على الأمانة والإخلاص لوصية حماية الفتاة الصغيرة التي وضعها الأب على كاهله يوماً، وألقى الجنود بسلالمهم الخشبية إلى هذا السطح ولا يزال الكاهن في تهديده ووعيده، وخرجت من دائرة الارتباك إلى المبادرة فدلفت إلى الدار، وهناك أبصرت أعداد مجلة العالم الإسرائيلي تحترق، وأما التناخ فقد أنقذته بأعجوبة، وها أنا ذا أبحث عن صندوق الأسلحة الذي يحتفظ به الرجل في بيته، ووجدته، صعدت السلم الخشبي وقلت :
- "لقد عدت، سيدي، من اجتماع الصحراء، لأشارككم هذه اللحظة، بل هذه المحنة..".
لم أحز ثقته تماماً، قلت أمام ذهول تمار فيما أتقدم نحوه :
- "...من أجل إسرائيل الكبرى !".
بدأ الجنود يصعدون من الجهة المغايرة لجهتي، رفعت السلاح فتشتت انتباه الكاهن وهربت تمار من بين يده في لحظة السهو هذه، لم يجد الكاهن بداً من أن يلقي بنفسه من قمة البيت، ولم يمت، انطق إلى المعبد اليهودي وجعل يصرخ :
"لن تنسفوا معبد الرب دون أن تنسفوني معه..".
وكان هذا إيماناً فاق إيمان الحاخام كاهانا نفسه، فها هو ذا الرجل ينثني ويقنع أتباعه بالعدول عن "خطته"، ورأيته (كاهانا) يناديهم أن طاوعوا رجال الأمن، وذروا الحصون والأقبية، فمنهم من استجاب له ومنهم من لم يستجب، وأما الفريق الثاني فجرى نقله بالقوة وبالأقفاص الحديدية التي تتدلى من الطائرات العمودية لنقلهم خارج المستعمرة دون دماء، ولم يكن ثمة موتى أو ثكالى، وطفق صبية إسرائيليين يكتبون عبارات السباب القاذعة على المعبد اليهودي يوجهونها لنا هذه المرة كـ"رسائل وداعية"، وقد نزعوا منه الشبابيك والأبواب والمقاعد والزجاج، ودونوا على جدرانه عبارات استياء وغضب من الجمعيات الدينية، أذكر منها «لا تحزني يا ياميت، سوف يعود إليك شارون..»، ولم أفهم هذه حقاً، فشارون هو المكلف بإجلاء المستوطنة (وإن كان القرار قرار مناحيم بيجن فقد شجعه شارون على إنجاز المسألة)، وقد ألقى بنفسه خطبة بليغة في المواطنين لا تزل أصداؤها في رأسي :
- لابد من هدمها، حتى لا يجيء يوم يلومنا فيه أحفادنا بأننا أضعنا فرصة السلام، وأننا عطلنا مسيرة الأمان حول إسرائيل وداخلها، بأيدينا أقمناها وبأيدينا نهدمها دون أن نريق قطرة دم، إن أحداً من مصر لن يجرؤ على رؤية هاته التضحية العظيمة من أجل السلام !
وعدت إلى عبارات المعبد بعد غفوة السهو : «عائدون.. سيناء ضمن إسرائيل الكبرى.. الموت للعرب الجبناء!»، واستوقفتني واحدة، كُتبت بخط كبير، وفي مكان لافت بصدارة المعبد، حتى بلغت من نفسي ما يبلغه الشيء المهم من نفس متلقيه :
- «הדרך מקהיר לירושלים עוברת בימית..»
ومعناها «الطريق من القاهرة إلى أورشليم يمر بياميت»، ورأيت الكاهن موسى ماثلاً تحتها يهمس بالأدعية، وصبية البدو يتدافعون إلى المعبد تدافع النمل على إناء عسل، يردون على الرسائل بمثلها، ويزيلون بعض الرموز الدينية، وسألتهم أن يكفوا عن الإساءة لدار العبادة، وأن يقتبسوا روح المسلمين السمحاء في تعاملهم مع معبد اليهود سانتا دي ماريا بلانك في طليطلة الإسبانية*، ويبدو أن أحداً لم يلتفت إلى حديثي في غمرة هذه الفوضى العارمة.
تركت المعبد وقد كنا – أنا وتمار – من أواخر الخارجين من المدينة البحرية – أو ما بقى منها - خلال عمليات الإخلاء، وخلال نظرات الوداع، أبصرت الجنود يفتحون المنازل الموصدة ويجرون المتشبثين بالبقاء جراً إلى الحافلات، أو يحملونهم حملاً، وبدأ الجنود يهتفون باللغات الثلاث : العربية والعبرية والإنجليزية : "أوامر مناحيم بيجن.. نسف كل المباني بالديناميت.. أوامر مناحيم بيجن.."، دخلت شاحنات الديناميت إلى "المدينة الخاوية" إذن، واُستعملت شبكة الألغام، وعلا دوي الانفجارات المتتابعة التي خلفت كميات كبيرة من ركام الحديد والحجارة، ولم يبقَ حجر على حجر، وهذه قنابل تشفط الهواء إلى الداخل فتهوي الجدران وتتضعضع القوائم كبيوت العناكيب، نُسفت المباني إذن وتًرك هذا الكنيس اليهودي* وحده، ومن المدهشات أنني رأيت طائر أبي شنار يعود يحلق في الأنحية بعد هدوء الانفجارات، ومن اللافت أن الطائر لم يجد من قائم في هذا الخلاء العظيم إلا ذلك المعبد الذي بدا لنا مشرفاً على الأطلال كأنه يرثيها، أدى بعض المستوطنين صلاة وداعية أخيرة سبقت رحيلهم، وأُنزل آخر المقاومين من الأسطح في أقفاص حديد رُفعت برافعات، ودُمرت بعض الحقول الزراعية الملحقة بالمستعمرة، وكان محصول البطيخ على وشك النضوج، وعاد ظافر إليَّ غاضباً في مساء هذا اليوم يقول :
- لم أجد كاهانا، لقد فر، هذا المجرم بسبع أرواح !
وقال أيضاً :
- اليوم أغارت الطائرات الحربية الإسرائيلية على مواقع فلسطينية في ضواحي بيروت، فعلوا ذلك ثأراً لمقتل ضابط ملحق على يد ميليشيات جيش لبنان الجنوبي، سيجتاحون لبنان قريباً، وسيضعون حكماً مواليا لهم هناك، إنهم يريدون لبنان مسيحي، وضفة غربية إسرائيلية، وأردن فلسطيني !
وتساءلت في سخرية :
- إيان ينعم الشرق الأوسط التعيس بالسلام؟
وسألني كأنه يبحث عن بادرة أمل :
- هل وقع إجلاؤهم عن ياميت؟
- أجل، لم يبقَ سوى خمسة عشر طالباً يعتصمون عند نصب حرب 1967م، والأرجح أن ينتهوا قريباً عما فيه.
لم يُرى الكاهن موسى بعد هذا اليوم، واختفى سره في قلب عاصفة الصحراء هذه، وأما الأطفال الصغار في رفح من قبيلتي وقبائل الجوار فقد دأبوا على تكسير جزء فأجزاء من معبده، وذات يوم سألت منهم واحداً عن باعث هذا التصرف فأبى الصغير أن يجيبني، إنه يبدو مرتاباً من النظرات المحدقة به، وعلى أن من طبائغ الأشغال أن تنوء ببراءة الأطفال، فقد وجدت المسرة في نفس هذا الطفل، إنه لا يبدو عارفاً بهوية صاحب هاتيك المباني المهدمة، ولماذا بقى المعبد اليهودي على الخصوص دون سائر الأبنية؟ إن نفسه الصغيرة منكفئة على العمل قبل حضور غروب الشمس، واقتربت تمار من الطفل تسأله فارتاح إليها وأجابها في خجل:
- نبيع حديد التسليح والمسامير والأجزاء الخشبية وقطع الأرضية لتجار الخردة،.. بالكيلو جرام !
قالها وركض فيما تغيب صورته تحت قرص الشمس الأحمر القاني، وقلت فيما أرقب حركته الآخذة في التصاغر :
- الصغير يقوم بآخر ما يجب عمله لإزالة آثار المستعمرة !
**
الفصل السادس :
لا هدوء بعد العواصف!
إن العرب ليظلون يتحدثون بضجيج وادعاء عن أمجادهم وانتصاراتهم الخطابية حتى ليذهبون يحسبون أن ما قالوه قد فعلوه!
عبد الله القصيمي - مفكر سعودي.
انتظر أبي مُسعد حلم تعمير ياميت على أحر من الجمر، وساورته الأحلام المورقة التي بدت خيالات فردوسية تراود عقل بدوي مرهق، وحتى لقد وقع أن تبرع الرجل بنفسه لجريدة الأهرام التي تبنت الدعاية لتمويل مشروع بناء مدينة جديدة ساحلية عالمية بين رفح والشيخ زويد على أنقاض ياميت، وقد جعلوا لها اسمها جميلاً انتشر بين البدو : «عروس البحر»، ومرة أخرى سموها بـ«مدينة الفيروز»، ومرة ثالثة بـ«مدينة الشروق»، ومهما يكن من شيء فها قد خرج الاقتراح من رحم الدعوات التي نادت بخلق مشروع يرد على هدم ياميت، وقد عُرف بـ"رمز سيناء"، غير أن السعادة الغامرة تبخرت بطول الانتظار، و وعلى الضفة الأخرى وجد شارون ضالته في قطاع غزة بديلاً عن ياميت، لقد وضع الرجل خطة - عمل حزب العمل على تطويرها - تقضي بإنشاء آلاف الوحدات السكنية، ومنطقة صناعية على مساحة ثلاث آلاف وخمسمئة دونم جنوب غزة، وقد أخبرتني تمار بتفاصيل هذا المشروع الجديد، فقلت في نفسي :"لقد فزنا في جولة وهم يحضرون لجولات.."، وقال أبي:
- ستكون مدينة الفيروز كما قرأت : «محطة حضارية، ومركزاً للخدمات المتنوعة تعليمياً وتجارياً وثقافياً وخدمياً وترفيهياً، ولتنشئ تجمعاً عمرانياً يتسع لنحو عشرين ألف نسمة، مع ضم خمسة آلاف فدان تُخصص للزراعة الحديثة»،.. آمل أن نكون من طلائع العائدين إلى مدينة الفيروز الجديدة،.. لماذا لا تقرأ الصحف، عودة الله؟
وقلت :
- لأنها مليئة بالهراء والأكاذيب، أبي..
- تقصد أن خمسين جنيهاً بتمامها قد ضاعوا؟ (يبدو هذا رقماً أكبر مما يبدو عليه الآن لأن الدولار وقتئذٍ يعادل 70 قرشاً!) ماذا عن قوائم المتبرعين للمشروع التي تُنشر دورياً؟ لقد نشروا أكثر من مئة وستين قائمة ! إن الأهرام لهي جريدة كبيرة، لا أحسبها تتورط فيما تتورط فيه الصحف الصفراء من فنون الاحتيال..
- لا وجود لجرائد كبيرة في بلادنا، أبي، ذلك أنهم جميعاً يتبارون في التردي، لا استقلالية للصحف منذ عهد جريدة الوقائع المصرية،.. ثم أين يذهب تراث البيروقراطية والفهلوة؟
- إلام تُلمح؟ وماذا تقصد؟ هل أرهقني تعليمك لتتعالى بما تكسبت من المعارف على ما نحن فيه؟
- أقصد أن صحراء بلاد العرب ملأى بالسراب والرمال المتحركة لعلة !
استاء أبي من حديثي الذي ثَبَّطَ عَزِيمَتَه، بدا باحثاً عن جنة الأوهام المريحة، وخفت هذا النور الذي تجلى كومضة البهاء بتدمير المستعمرات الإسرائيلية، وقعد الرجل قعدته البدوية التقليدية التي يبدو فيها في مهلة مع القدر، وتحلق حوله القصاد في "المقعد"، وهو عريشة كبيرة مصنوعة من جريد النخيل وأعشاب شجر العادر والأخشاب، وجعلوا يتسامرون على أنغام الربابة، وضوء النار اللاهبة، جاءه يومذاك صيادو بورسعيد الذين سروا بتدمير مستوطنة «ناحال يام»، وقالوا له :
- كانوا يصدرون أسماكاً ثمنها ألف جنيه إسترليني يومياً، ينازعوننا في أرزاقنا، لا بارك الله في أزراقهم !
وحضره بدو غرباء عن الرميلات سروا لتدمير مستوطنة «دكلا» وقالوا :
- ما كان لنا أن ننافسهم في محصول الطماطم الذي يستزرعونه في في بيوت زجاجية، وعلى أرض شاسعة هي ثلاثمئة فدان ! واليوم تنفسنا الراحة ونعمنا بالأمل فيما هو قادم.
وتحدثوا أيضاً عن مزرعة المحار Oystres في إيلات، وتبين أن المستوطنات الإسرائيلية كلها قد تحطمت في سيناء خلا ناؤت سيناي، وهناك طلب أبي مني إبداء الرأي وقلت :
- لا ينبغي أن تكون السعادة بخلو الساحة من الأنداد، ولكن بجدارتنا على الإنتاج والمنافسة العالمية..
حمله حديثي على الارتباك أمام الضيوف، لكزني في كتفي وقال :
- رويدك ! فإن الدنيا لا تقوم هكذا، (ثم وهو يوجه حديثه إلى الضيوف) إن عودة الله تجري في عروقه دماء الشباب الفوارة، وأحلامهم السخية، وحسهم النقي الطازج، ولا غرو، لا يحملنكم حديثه على إساءة الظن به، فما يختلج في أعماقه من معاني المسرة هو مثل الذي يختلج في نفوسنا جميعاً، وقد جاءني يوم هُدمت ياميت يصدح بقول جعل القشعريرة تسري في بدني: «أبتِ : ما عاد اسمي يثقلني»،،.. إن مثله كمثل صديقه ظافر الذي لا يزال يبحث بعزم وجد عن الثأر ممن امتهنوا أرضه، وعلى رأسهم المدعو كاهانا، لابد أنكم سمعتم عن هذا الحاخام المهووس ! سمعنا أنه أسس حركة شيطانية قبل ما يربو على عقد من اليوم اسمها..
ونظر لي فأجبت :
- كاخ، حركة كاخ*..
وواصل أبي حديثه :
- هذا الملعون حاول اقتحام المسجد الأقصى في أعقاب تدمير ياميت، حتى إذا أخفقت مساعيه زرع قنبلة وهمية عند أبواب الحرم تاركا رسالة تحذير لمسؤولي الأوقاف الإسلامية بنسف المسجد، ثم أطلقت جماعته - قاتلها الله - النار في الحرم وانتهكت المقدسات بدم بارد، وسعوا كذلك لنسف قبة الصخرة، انظروا كيف يتجسد الشيطان في أجساد الآدميين!
انصرف القوم عن مجلسه بعد أن حازوا واجب الضيافة، لحم حنيذ وشراب طيب وجلسة ملأى بالأسمار والأغاني، يتحدث أبي عن الأغاني البدوية بحكم خبرته في العادات والتراث فيقول : "إن لبدو الشمال أغانٍ يغلب عليها الطابع الشامي، الفلسطيني تحديدًا، وأما بدو مطروح فيغلب على إنشادهم الملامح الليبية، وفي جنوب سيناء يهيمن على ألحان البدو الميسم الخليجي! الجغرافيا تلعب دوراً في التقارب الثقافي.."، وهو يجد سعادته في البوح بهذه الملاحظات، وفي استقبال الناس لها، جاءته أيضاً ست حافلات من طلاب كلية الإعلام، حضروا من القاهرة إلى الإسماعيلية إلى وسط سيناء ومطار المليز، ثم إلى مستعمرة ياميت التي تكفل أبي بشرح أحوالها لهم وما آلت إليه، ومنهم من جعل يغني ألحان الموجي : "طالعين على أرض الفيروز.. الرمل ماس والقلب كنوز... اخضرى يا سينا مطرح خطاوينا.. بعرقنا نرويكى بالحب تروينا.. دى ميتك شربات اللوز!"، وهذا أبي يضيق ذرعاً بالكلمات الساذجة والألحان القاهرية، ولكنه يرسم ابتسامة الضيافة والرضا والحفاوة، خلا الرجل إلى نفسه أخيراً في اليوم الحافل، وما لبثت أن اقتحمت خلوته بما صدمه :
- سأتزوج بتمار..
ووقف فبدا تكوينه بامتداد ظله أكبر من حقيقته :
- هل تمزح؟ الإسرائيلية؟ هل جننت؟ وهل خلت تلك الصحراء الشاسعة من بدوية تصلح لك؟ من يتعامل مع هؤلاء القوم كمن يتعامل مع الفحم لن يجني إلا سواد الوجه*.
- تمار نصف عربية، وقد ورثت من طباع أمها المصرية ما يزيد عما ورثته من خصال الأب اليهودي،.. ثم ألسنا نحفظ لأهل الكتاب حقوقهم؟
- والأولاد؟
- لا أحد يفكر حقاً في مصير الأولاد، هذا باب يستحيل التحقق من أبعاده، الجميع يورط من جاء بعده،.. هل كنت تتصور أن تدهس المدرعات الإسرائليية بساتيننا الساحلية يوم أنجبتني؟
- بأي دين سيدين أولادك؟
- لي أن ألقنهم محبة الإله قبل كل شيء..
- إلهك هو الله أم يهوه؟
- الإله هو الإله، أبي، ماذا بك؟ ألازلت تنتظر خرافة مدينة الفيروز؟
- بل أعيش الوقائع المفرحة التي تضع نفسك في حجاب عنها، لقد أنشأنا منطقة صناعية على أطلال ياميت، ثمة اليوم مصانع لإنتاج العصائر، والبلح، والمربات، والفواكه المجففة، وزيت الزيتون، والمخللات،.. وقد وقع أن استفدنا من تنوع المحاصيل هنا خير استفادة، كان يجب أن تجرب زيت الزيتون الذي ننتجه، يكاد ينافس اليوناني ذا الشهرة العالمية، لقد عدت أزرع نواة ثمرة الدُّرَّاق التي احتفظت بها طيلة أعوام وأعوام قرب المعبد اليهودي لتكون شاهد صدق على وجودنا الذي لن ينقطع..
وضقت ذرعاً باسترساله :
- هذا ليس مدينة الفيروز، إنه دون ما روجوا له في الصحف وخدعوا به البسطاء..
- أحسبه خيراً من لا شيء !
وسعيت إلى التقرب إليه في نبرة ودودة، وقد خيل لي أنني تنسمت رائحة خبز الصاج الذي نعده في صبائح أيام الأعراس فهاج في نفسي وهج الذكريات واتقد العشم :
- هل ستقيم لي عرساً بين الأهلين؟
- هبني أطعتك في جنونك : بم أهمس في أذن عروسك من نصح يوم زفافها الموعود؟ أأقول لها لا تكوني أنتِ؟
- كيف تتغير تمار لترضى عنها؟ لها أن ترتدي ثوباً مطرزاً بالزخارف والألوان الحمراء والرزقاء والصفراء كنسائنا، أن تغطي رأسها بالقلعة السوداء، أن تحزم نفسها بالوقاه، ثم أن تضع البرقع، فإذا تهيأ لك أن تميز بينها وبين البدويات حق لك أن تعترض..
ونظر لي بعمق كأنه يروم أن يسبر أغواراً هي وراء حديثي بأشواط:
- ليت أن هذا كله يجدي فتيلاً، إن الداء فيها متأصل، الدودة في أصل الشجرة..
- ماذا عن رغبتي؟
- ماذا عن التقاليد؟ حياتنا التي لا تقوم إلا على رابطة الدم؟ تاريخنا الذي بدأ منذ عهد النواويس (بيوت لبدو ترجع إلى العصر الحجري النحاسي في وسط سيناء)؟ سمعة قبيلة الرميلات؟ مستقبلك كنجل لشيخ القبيلة البدوية الكبيرة؟ ربَّ شامت بك وبي يقول : تزوج بالغريبة وخان عهد الصحراء ! شر خلف لخير سلف، وهلم جرا، ولعلهم يتقولون عليك بما ليس فيك،.. هل تريد أن تأخذ "القصلة" من إسرائيلي؟
وأما القصلة، في عرفنا، نحن البدو، فهي أخذ أحد الأغصان الخضراء من أي شجرة، بغية أن يناولها ولي العروس للزوج، قائلاً :
- هذي قصلة فلانة، إثمها وخطيئتها في رقبتك من الجوع والعرى، ومن أي شيء تريده وأنت تقدر عليه..
ويُفترض أن يجيب الزوج (أنا) :
- قبلتها زوج لي بسنة الله ورسوله..
وإذا تم ذاك - وهو الأمر الذي لن يتم أبداً في حالتي- أُقيمت الأفراح، وذُبحت الذبائح، ونُصب السامر السيناوي، وعزف العازفون على الشبابة وهي آلة نفخية تشبه أنبوبةٍ مُجَوَّفة من القصب، أو الربابة أو الأرغول، وقبضت على غصن هوى من شجرة شريدة في خلاء الصحراء وتساءلت :
- إلام تتظاهر بكونك حارس التقاليد، أبي؟ ألم تخبرني يوماً برغبتك في أن تركب البحر؟ كان هذا جموحاً لم يجد متنفساً عند بدوي قمعه السياق الذي فرضته المقادير عليه،.. ثم ألم يتزوج جدي البدوي بالأرمنية لوسين؟
وبدا أهدا نسبياً وهو يشرح لي وجوه الخطأ في منطقي :
- بعض قبائل العصور الوسطى مثل العايد اختفت كلياً من سيناء، وأخرى مثل بني واصل لم يبقَ من أثرها سوى بضع خيام، ربما كان فيها من استهتر بالأعراف مثلك، وربما كان فيها من تسامح مع الاستهتار من الشيوخ مثلما تريد مني أن أكون، وأما بخصوص جدك فما أقدم عليه نزوة لا يقيس عليها إلا ذو غرض.
ما هي بالنزوة، فقد كان جدي مزواجاً حتى غدا هذا المسلك مضرب الأمثال بين البدو، ورفعت رأسي إلى السماء فأبصرت نجمتين شاردتين عن عنقود الثريا فقلت:
- لماذا لا تعدني استثناء كجدي؟
- إن الاستثناء يدعم القاعدة ولا ينقضها، ألم أسمعك يوماً تهرف بهذا الحديث، حديث المتعلمين؟ فلتسمع لي : شتان بين أرمنية لم نسمع عن بلادها خيرا أو شرا، وبين إسرائيلية ناصبنا قومها العداء لسنين حتى طبعوا على أرواحنا آثار جرائمهم التي لا تُغتفر!
وألقيت على خلاء الصحراء نظرة، كانت كتل الرمال تدور إزاءنا في غير نظام، وحتى لقد حسبتها تشكل لوحات متحركة ومدهشة من فن الرسم بالتنقيط، قلت :
- القواعد في الأساس هي ما يدور في رؤوسنا، ثم يقع أن نقيد به أنفسنا لعلة قد تتغير، أبي، وأما الدنيا فبراح فسيح، وميدان رحب، وأما جوهر الإنسان فهو خيريته، فإن بلغ مسلكه منَّا مبلغ الطيبة والأخلاق ما عدنا في حاجة للتوقف عند أصله واسمه.
كان أبي ينظر إلى الجهة التي أنظر إليها، استدار نحوي وقال وهو يرقب اندماج الكتل الرملية الحرة بالكثبان المستقرة الأكبر بعد هدوء عصف الرياح:
- هذا البراح الفسيح هو شقاء لم تجربه، ربما لا يصح أن تكون الحرية هدفاً في ذاتها، ذلك أنها كقمة جبل الرمال، ليس بعده هدف، خليق بالمرء أن تكون له غاية تفوقه، ومناط يرنو إليه، لهذا يرتاح الإنسان في ظل الله، لأنه الغاية التي ليس وراءها غاية، أبي قال لي يوماً : ابحث عن الالتزام، فالنفس أمارة بالسوء، متى أطلقت لها العنان جرتك إلى مهاوي العناء.
علقت ساخراً :
- نصحك بهذا بين نزواته..
راجع أبي المعروف من سيرة جدي في ثوانٍ مفعمة بالخواطر، ثم قال :
- أحسب أن جوع وطره لا يضر بسلامة ما ذهب إليه من تبصرات..
وهناك لاحت تمار الرافلة في ثياب البدويات حتى إذا رآها أبي خفض رأسه المجلل بالحزن، ما وقعت الفتاة من نفسه موقع الاستساغة أو القبول، ولعله ضن أن يهبها الفرصة، ذلك أنه رآها بعين طبعه، وهطل المطر هطولاً، وأدركت أنني أضيع وقتي مع "شيخ التقاليد"، فمضيت عنه أقول :
- سأعود إليكم، يوماً.
ثم أنه أجابني :
- إذا مرق السهم من الرمية فلا عودة له !
**
الفصل السابع :
أقمت في خان يونس!
إن حدائق الخلد لا تُجدي نفعًا إذا كانت سجنًا.
– الإلياذة – هوميروس.
ومَرَق السَّهمُ مِن الرَّمِيَّة إذن، وخرجت عن طاعة والدي ولبست الساعة في يدي (والبدوي لا يلبسها لأنه يعرف الوقت بالحساب القمري والنجوم)، وحتى لقد استحقيت أن أوصف بالوصف البدوي المعروف : مشمس (إشارة إلى تواجدنا بعيدا عن القبيلة في الهواء والشمس)، وعلى أن أكثر المشمسين الذين عرفتهم من البدو كانوا بين قاطني جبال أو إرهابيين محتملين فقد كنت الوحيد الذي غادر البلاد بأسرها، ولدواعي مختلفة كل الاختلاف، وتزوجت بتمار وأنجبت ولدين : ميخائيل ومحارب، ووقع أن تركنا رفح في ليلة عامرة بالعواطف وعشنا في خان يونس نستقبل المجهول بصدر متأهب، ولم تكن مدينة غريبة عن قبيلة الرميلات، فمنها طردهم التَّرَابِيْن إلى رفح وهي مقرهم الأصلي، ولم تكن غريبة عن تمار أيضاً فقد سبق لها أن أقامت فيها فترة، وقد حصلت الفتاة على تعويض سخي عن إخلاء بيتها في ياميت، وكانت قادرة على أن تقيم في صحراء النقب وأن تفعل مثلما فعل غيرها ممن حصلوا على المال، أو أن تشتري مساكن جديدة في بلدة قيصرية فيحق عليها وعلينا وصف السكان الأصليين لهذه البلدة للغرباء الذين نزلوا إلى ديارهم فجأة : "أغنياء المستوطنات"، أو تكون واحدة ممن جرى توطينهم ووجدوا النجاح في حقل الزراعة في هاته القرى التعاونية في المجتمع الهادئ والمريح في منطقة هيفيل شالوم (بعيداً من عسقلان ومركز إسرائيل)، غير أنها لم تفعل أي من هذا كله وقد صددتها عن هذا صدوداً، فاستجابت لي بقولها المؤثر : إنها على استعداد لمصاحبتي في الجحيم، ولم تدرَ أن عبارتها المقتبسة من قصص العشق على التخوم الفاصلة بين الجنون والموت – أقول لم تدرِ أن عبارتها هذه ستقفز من عمق الرومانسية الحالمة إلى دنيا الوقائع الفاعلة !
وكانت خان يونس مدينة واقعة أقصى جنوب غربي غزة، تحدها من الجنوب مدينة رفح، ومن الشمال مدينة دير البلح، وهي تشبه أبا شنار (قريتي) من ثلاث وجوه، الأول أنها (أي خان يونس) تطل على البحر المتوسط من الغرب، والثاني : أنها ترتفع عن سطح البحر بنحو خمسين كيلو مترا، والثالث : أن مناخها صحراوي متوسط.
وعشنا أياماً حافلة بالتغيرات في بلدة القرارة ذات الهواء النقي والأجواء الهادئة، وقد حصلت تمار على جنسية مصرية مستفيدة من هاته التسهيلات التي أعقبت توقيع اتفاقية السلام، ولم أنخرط طويلاً في فصول النقاش الدائر وقتئذٍ : "هل مصر أول من يُوقع وآخر من يُطبع؟" لأن الحقيقة أن مصر أُرهقت، وقد غدت دولة وازنة لا مرجحة، وعملت في تجارة البلح بخان يونس، ولم أعد أذكر تجربتي في ياميت إلا في خضم هذه الأحلام المتكررة التي تظهر فيها شجرة الدُّرَّاق وهي تتضخم بجهد أبي مسعد الدؤوب في ريها، حتى تعود تبتلع المعبد اليهودي يوم زفافنا أنا وتمار فيه، ثم يهتف أفراد لا علم لي بهم من قبيلة الرميلات : "هذا جزاء تمرده على الأصول"، ويظهر أبي فوق فروع الشجرة كأنه يمتطيها بوجهه الجاد مردداً :"إذا مرق السهم من الرمية فلا عودة له!"، قبل أن تنتهي فقاعة الحلم !
ومنذ اللحظة الأولى كان لميخائيل ومحارب حظ من اسميهما، فميخائيل يهودي الهوى، أصفر الشعر، ذو عينين خضراوين، أجاد العبرية بسرعة، ومحارب عربي النزعة، أسود الشعر والعينين، وافي القسمات، تشرب أصول العربية،.. وسرعان ما ظهرت أسرة تمار الإسرائيلية من العدم (وقد خلت أن سيرتها انقضت باختفاء الكاهن موسى منذ تبخر في المعبد اليهوي يوم وقعت اليمامة الحمراء)، وظلت هذه الأسرة تقض مضجعي وتزكي النار وتقلل من شأن "البدوي الذي خدع حفيدة «الشعب الكنز»*، وغرها بالأماني مع خلوه من الميزات"، حتى وقعت الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987م، فإذا بخان يونس شعلة تمرد ضد الدوريات الإسرائيلية، وعاصفة احتجاجات يومية، واستخدم الأهالي الزجاجات الحارقة واستعمل الجنود الرصاص المطاطي، وهانت الحياة حتى بدا الوجود برمته في عيني مزحة قدرية بحجم النجوم والكواكب، وقالت تمار :
- بات الوضع لا يُحتمل..
- ستمر هاته الفورة لا محالة، ولابد بعد الفوات من عهد جديد.
- ميخائيل يفاتحني برغبته في الرحيل عن خان يونس، لا يكف عن البكاء، لماذا يقضي طفولته بين الزجاجات الحارقة والرصاص؟
- ويك ! إنه لا يزال طفلاً في الخامسة..
واستوحشت حديثي حتى أظلم وجهها بما يشبه الغبن :
- كأنك تراه لحداثته سليب الإرادة؟ فلتسمع لي : ستجيء أسرتي يوم السبت لتصحبه إلى إسرائيل، سيعملون على نظام حمية جديد لأن وزنه زائد، سيبقى محارب معنا في خان يونس.
- إلى إسرائيل؟
- أجل، إسرائيل دولة حديثة وعصرية..
وقلت :
- وعنصرية،.. حتى علمانيتها مشوهة بالأساطير التوراتية،.. يصعب الدفاع طويلاً عن شرعية إسرائيل دون إقحام الدين.
- ماذا عن بلاد العرب؟ لديكم مشكلة جوهرية (نطقتها بإنجليزية fundmental problem دون داعٍ) مع نمط الدولة الحديثة، لأنكم اعتدتم على هذا الديناصور الضخم المدعو بالخلافة : العباءة التي تسع كل شيء، حتى قضية فلسطين فهي القضية التي يعمد القادة العرب الاستبداديون إلى تعليق حماقاتهم عليها، من القائد الأرعن "مهيب الركن" صدام حسين إلى ذاك المجنون قائد ثورة الفاتح معمر القذافي، ويعمد المجتمع العربي إلى تمرير كل إخفاقاته نحوها، حتى صارت عندكم (تريد العرب السنة) كحائط المبكى عندنا، وصار هناك من يدمن هذه السردية التي تبرأكم من كل وزر، وتدين "هؤلاء الأشرار" هناك كل الإدانة،.. العرب لا يقبلون إلا بالأرض كلها ومن أول نقلة، وقد أضعتم فرصة تأسيس مرتكز سياسي يمكن الانطلاق منه، وإذا وجه العرب طاقتهم نحو التنمية لأمكنهم أن يصيروا كالصين، وحينئذٍ تصبح فلسطين دويلة هامشية إزاء كيانهم الأكبر كتايوان، ولكنهم ركزوا على الكراهية والانقلابات والدعوات السياسية غير الناضجة حتى أضاعوا بلادهم من المحيط إلى الخليج تمزقاً أو تخلفاً، ولابد من واقعية الطرح السياسي، لأن هذه الواقعية هي تسعة أعشار الوجاهة، فجميع أفكار كارل ماركس صحيحة ولكنها تصلح للنمل أو للملائكة..
تتحدث تمار كإسرائيلية تقليدية هنا، وساءني حديثها فقلت :
- لا يعني فشل المحامي أن قضيته غير عادلة، دفع العرب فاتورة صنائع الأوربيين واضطهادهم لليهود في العصور الوسطى وما بعدها..
قالت :
- فلتسمع لي : لن يجد ميخائيل مشقة في الاندماج هناك، ذلك أنه يحب القراءة على صغره، ويشبه القديس اليهودي إسحاق الفاسي في اللوحات المشهورة التي تصوره مندمجاً في التركيز على كتبه.
وقع حديثها من نفسي موقع الاستخفاف والاستهانة :
- حقاً؟! ميخائيل يشبهه وهو ابن خمس سنوات؟
- ماذا تريد إذن؟ تريده أن يبقى حتى تُحل هذه القضية على أكف المعجزة، وإنني أقول لك : لن تحل هذه القضية أبداً، لأن جميع الأطراف تفيد من من إبقاء الوضع على ما هو عليه، وهذا التطرف هنا يغذي ذاك التطرف هناك، ومن الساسة من ينتعش في مثل هذه الأجواء المسمومة كالهوام، ومن يغامر بالسلام يُغتال أو يُقصى..
- أخشى أن ينشأ في البيئة الخاطئة حتى لا يعود يعرف أصله..
- الكنيست لا يزال محتفظاً بالتقسيم التقليدي : اليمين العتيد ويسار الوسط الذي تنتمي إليه دوائر أقربائي ومعارفي..
وقلت :
- ولكن المجتمع يتجه إلى اليمين..
ووقع الأمر إذن في ليلة حزينة من ليالٍ هذا الوجود المرهق، وودعت ميخائيل الذي رأيته سعيداً، وقالت تمار وهي تودع صغيرها في حرارة :
- أخشى أن يحب المطبخ الإسرائيلي : الشنِتْسِل، والفلافل، والحمص، فيزيد وزنه !
ونظرت لها عجباً، فالفلافل والحمص أوثق صلة بمصر من الأهرام وأبي الهول، وأما الشنِتْسِل فطبق من أصل نمساوي، وهو شرائح لحم أو دجاج مقلي منزوع العظم ومغطى بالبقسماط، وعدت أتساءل : ماذا بقى من هذا المطبخ حقاً إذا استبعدت منه ما هو مصري ونمساوي؟ وقد كان خليقاً بها أن تتحدث عن السينما أو العلوم والفنون وغير هذا من ألوان العبقرية التي قدمها اليهود إلى العالم، وليس هذا السطو الساذج على ميراث مأكولات الشعوب الأخرى، وانقطعت صلاتي إلى ميخائيل اللهم إلا هذه الصور التي دأب على أن يرسلها إليّ مصوراً حياته الجديدة بين آن وآن، وسرعان ما شعرت أنني فقدت ميخائيل أو أنني – وهو الأصوب - أفقده، ولكن محارب أسعدني باندماجه في المجتمع الجديد، وانخراطه في العادات العربية، وآية ذلك أنه أحب السماقية كثيراً، وهي الطبق الوطني لمنطقة غزة، وقد صادق الصغير نجل جارنا نضال فصارا يعلبان سوياً دق الحابي وطاق طاق طاقية، وكان أبوه (نضال) يردد أشعار محمود درويش دون أن يجد مني إعجاباً بها، وسخرت من اللامعنى في قصيدة له اسمها : أَنا من هنا. وهنا أَنا*، وما أكثر ما رأيت السخف في قصائد النثر، وما أضعف ميزانها إذا قورنت بعيون الشعر العربي الجاهلي القديم، وبعض أرباب هذه القصائد النثرية لا يدركون الخط الفاصل بين "جنون الفن السائغ" وبين "الهذيان"، "وبين "حرية القلم غير المشروطة" وبين "مسخ المنطق تحت زعم التجريب"،.. ونضال رجل متعلم، كدأب الفلسطينيين الذين تقل فيهم نسب الأمية، وهو يذكر لي أن جميع دول الجوار العربية تورطت في الدم الفلسطيني خلا مصر، وقد كان هذا أغرب ثناء حزته في حياتي.
وفكرت طويلاً في موقف أبي لو علم بما وقع، وقلت : لعله أصاب حين اعترض على الزيجة، متى أخطأ أبي؟ أتراه قابعاً في ظل الإحباط بعد أن جرى تجاهل كل أمانيه في سيناء؟ ألا يزال يردد هذه الأماني المتعلقة بالاهتمام بمصايد السردين، وبحيرة البردويل، والاهتمام بفاكهة العنب في ياميت التي يبدو أن الزمن توقف عندها حتى تسمرت معالهما عند هذا اليوم العاصف العنيف من نيسان، يوم اليمامة الحمراء؟ لقد وقع الزحف العمراني في سيناء نحو الساحل الشمالي الغربي، أما الساحل الشمالي الشرقي فلم يطرأ عليه جديد، أيحتمل أن يكون هذا مما خيب رجاء الشيخ؟ وهل تراه تحرر من أصفاد الأعراف وزرد التقاليد؟ وعدت أتذكر أصدقائي في قبيلة الرميلات، ومعارفي من قبائل سيناء، أين ظافر اليوم؟ وكيف عساه يستقبل خبر زواجي أيضاً؟ كيف ستفور دماؤه الحارة غضباً وسخطاً؟
ومرت أعوام ثلاثة، واغتيل الحاخام كاهانا في نوفمبر من عام 1990م ولم أعرف هل كان ظافر ضالعا في مقتله أم لا؟ ولكنني كنت على ثقة من سعادته وخلانه بالخبر، ومرت أيام هادئة جعلنا نتابع فيها الأفلام المصرية القديمة التي يظهر فيها اليهود : إستيفان روستي، ونجوى سالم (شاهدنا لها "السبع بنات"، "ملك البترول"، و"إسماعيل يس في دمشق")، وإلياس مؤدب مكتشف فيروز الذي مات في السادسة والثلاثين، وراقية إبراهيم، ومنير مراد، وسلامة إلياس، وهلم جرا، وقد أعجبت ببراعة هؤلاء الفنانين الماهرين مثلما قدرت مستوى السينما المصرية آنذاك، بالعموم، هذا حتى تسربت حقيقة تمار بين الأهالي في خان يونس، إن أحداً لا يدري بدقة كيف عرفوا بأنها يهودية، وكيف شاع خبر أسرتها الإسرائيلية بين الجيران، ويبدو أن مثل هذه الأمور يتعذر أن تختفي طوال الوقت، وما هويتنا إلا كجذوة النار الكامنة تحت رماد الزمن؟ وجاء جارنا نضال يحذرها من البقاء في المدينة، وقد بلغ الحنق مداه تجاه الوجود الإسرائيلي خلال الانتفاضة وما بعدها، ووقع إسحق رابين اتفاقية أوسلو من أثر الانتفاضة، واُغتيل برصاصة في الرأس، وأزمعت الفتاة أمرها على الهجرة إلى بلاد نجلها ميخائيل اتقاء العواقب، وقد تأثرت بمقتل رابين فشيعته بالحسرات وتذكرت لقاءها به في ياميت :
- رحل قديس السلام..
وكنت أقول :
- إنه أول قديس سلام أباح سياسة تكسير عظام أطفال الحجارة !
وتفرق شمل الأسرة وكتبت تقول من هناك:
"عزيزي..
أود إبلاغك بأن الحياة هنا جيدة، فالطرقات متسعة ونظيفة، مليئة بالأشجار والمناظر الطبيعية، وفي مساء اليوم آثرت أن أخرج لتناول العشاء في الخارج، ذهبت إلى شارع "بن غوريون" المطل في بدايته على حدائق البهائيين الشهيرة، وفي نهايته ميناء حيفا الشهير، المليء بالمقاهي والمطاعم العربية، وبإمكانك أن تكتشف ذلك من خلال سماعك للأغاني وأسمار الناس، وحدث أن قابلت على المقهى بعض اللادينيين العرب الذين يبدوا أنهم يؤيديون الدولة (إسرائيل) ليس عن قناعة منهم، وإنما رداً على شعورهم بالقمع في بلادهم، ولم أكن أدري بوجودهم من قبل، وقد عجبت لنبرتهم هذه مثلما لم أرتح لها، لأن منهم من بدا ملكاً أكثر من الملك نفسه، وقد أخذ إعجابهم مأخذ التشفي والمناكدة فوق الإقرار المعقول بتحضر قطر من الأقطار، أو رقي دولة من الدول، وتذكرت حديثك حين قلت لي ذات يوم:
- إن أكبر تحدي أخلاقي يواجه الإنسان أن يحتفظ بالإنصاف تجاه من جار عليه في مسألة، وأن شعور الإنسان بالظلم هو أكثر ما يدفعه إلى أن يمارس الاعتداء، فالجماعة التي تظل أسيرة الشعور بالمظلومية لن تعود تتنفس الهواء النقي، وستقع في خطيئتي الاستحقاق الزائف والانتقام الأعمى،.. وأما من يتقي الانزلاق في دائرة العنف فهو الذي ينهي دوائره، هو الذي يفتح الباب أمام فردوس الأمل، ويقطع الطريق على دعاء الشيطان..
وعلى المقهى نفسه قابلت جاري القديم في ياميت إسحاق Isaac ، لقد كان رجل إطفاء يوم غادر المستوطنة، وهو أب لطفلين، وتعرفت إليه رغم السنين، وقد بدت حاشية الحزن تحفه، وقال لي :
-"أخذت شجرة نخيل صغيرة من ياميت، سيدتي، كنت متأثراً غاية التأثر يوم الرحيل، وقد اقتلعت واحدة، وليغفر لي الله، إنها تنبت على هاته الكثبان الرملية البيضاء، لقد زرعت الشجرة في منزلي الجديد هنا، في عِرَاد، حتى إذا هبت رياح في فناء منزلي الداخلي أغلقت عيني وسمعت ياميت مرة أخرى..(ونظر في عيني وأردف) لم أستطع أن أستعيد حبي للحياة بعد مغادرة ياميت، عانيت من الاكتئاب، سيدتي، لقد مثل الانتقال صدمة نفسانية (Psychological trauma)، ولم أرحل قط بقلب كامل، لازلت أذكر مياهها الفيروزية وكثبانها البيضاء وإيقاعها الهادئ ومناخها البارد، إنها تخلو من العلل الاجتماعية التي قد نجدها هنا..".
وقطعت استرساله فقد بالغ في وصفه حتى خيل لي أنه إنما يصف جنة عدن:
-"من المفارقة أن زوجي كان بدوياً هناك، لقد عاد إلى الحياة بعد استرداد أرضه، كان البدو أسبق استيطاناً منا وقد تأثروا مثلما تأثرنا..".
وحرك رأسه إلى الوراء ووجدته يبدي تجاوباً، وحتى لقد حل في نفسه نوع من الرضاء، فهمس : "طوبى له ! هذا وجه العملة الآخر ! لا توجد مآساة كاملة !"،.. وانصرف وبقيت على المقهى وحيدة، ولا أستطيع الزعم أننا هنا في يوتوبيا إنسانية، ولكن المستقبل يبدو مشرقا، والمجتمع الإسرائيلي قد يبدو غير متماسك بحكم تكوينه المتشاكس، ولكن يجمعه هاجس البقاء، ويدفعه الدعم الأمريكي المطلق..".
ولم أرَ هذا الإشراق المرتقب حقاً حين فرغت من الخطاب، فإسرائيل تبتلع الأرض بعد أن التهمت القدس والجولان وأراضٍ من جنوب لبنان وأجزاء من غزة والضفة الغربية، ومهما بلغت أمة من ضروب التقدم فلن يشفع لها هذا خطيئة الاعتداء على مملتكات الغير، أولم تكن هذه آفة هتلر نفسه يوم أحل لـ"جنسه المتفوق" مجالاً حيوياً يتسع ليشمل أوروبا كلها وما وراءها؟ بلى، ولكنني لم انفعل لأن المعاني فقدت دلالتها منذ زمن.
وواقع الأمر أن هناك تماساً كبيراً بين نازية هتلر وبين فكر نيكو ميكافيللي، بل لعل هتلر هو تجسيد لكتاب الأمير الذي كتبه الثاني، كما أن هناك الكثير من المشتركات الجلية بين ميكافيللي وبين الاتجاه اليميني في إسرائيل، وفي حالات خيل لي أن ثمة من استبدل بالصليب المعقوف نجمة داود، ولو أن هذا التجاهل الساخر للأخلاق مما يجدي نفعاً في الأخير، بل لو أن الحلول العملية وحدها متجردة من مسحة الأخلاق تنتصر، لكان النصر حليف المحور في الحرب الكبرى، ولشهد العالم كابوساً لم يمنعه عن البسيطة إلا يد الآلهة وألطاف القدر،.. فهل أن التاريخ هو سجل يكشف حماقة الإنسان في ألا يستوعب الدروس؟
**
الفصل الثامن :
نقاش "هادئ" بين نضال وميخائيل في بيتي!
شاور العاقل والجاهل، فالكلام الحَسَن أكثر اختفاء من الحجر الأخضر الكريم، ومع ذلك فإنه يوجد مع الإماء اللائي يعملن في إدارة أحجار «الطواحين».
- الحكيم المصري بتاح حتب.
يتألف اسم خان يونس من مقطعين: الأول «خَانْ» بمعنى «فندق»، والثاني «يُونُسْ» نسبة إلى الأمير يونس التوروزي الداودار، وقد عرفت هذا من جلساتي مع جاري الفلسطيني نضال الذي يردد كثيرا تاريخ المدينة لأنه "الاسم والهوية، وضياعه كضياع الشخصية":
- كانت خان يونس تحوي على الحانات التي هي محطات آمنة من اللصوص للقوافل التجارية، ومراكز لراحة المسافرين مثل ابن بطوطة وغيره، وقد ظلت هاته الحانات تؤدي هذا الدور على عهد المماليك والعثمانيين وحتى عصر الانتداب البريطاني على فلسطين،.. (ونظر لي بعمق وحزن ثم أردف..) المدينة لم تعد آمنة اليوم، لم تعد خان (فندق) يونس بل سجن يونس.. (وعاد يتخفف من وطأة الأسى الغامر في صوته) لتعرف المدينة يجب أن تدرك أن نموها طولياً كان على امتداد شارع القلعة في القديم، واستمر طولياً على امتداد شارع البحر في الحديث، لقد أسهم هذان الشارعان المهمان في توجيه نمو المدينة !
كانت لهجته أشبه إلى لهجتي البدوية، وليست اللهجة الشامية الجنوبية التقليدية لآل البلد، لأنني عرفت منه أنه تأثر ببدو صحراء النقب خلال اختلاطه بأهل هذه المنطقة، وهو يهزأ بي :
- لديك ولد وزوج يعيشان في إسرائيل، كيف لي أن أنتظر أن تحب محمود درويش؟
وهو يعرض لي بعض الصور بالأبيض والأسود للمجتمع الفلسطيني قبل 1948م، فتبدو لي حلماً رائقاً وجميلاً، كأنما كل شيء مغمور في البساطة، معلقاً :
- هذه صورة لفلاحة فلسطينية، وذاك برتقال يافا الشهير، كان يُصدر إلى كل العالم، (ثم وهو يظهر صورة أخرى) وهذا تبغ حيفا، اشتهرُ في السنوات الأولى للانتداب البريطاني،.. هذه يجب أن تراها،.. أين ذهبت؟ ها هي! أما هؤلاء فهم الدراويش في مهرجان النبي روبين، عشرات الآلاف من فلسطيني يافا واللد والرملة كانوا يزورن ذاك الضريح، ضريح النبي روبين، نجل النبي يعقوب !
وفي إجازته الصيفية يعود ميخائيل إلى "أبيه"، وفي كل زيارة أفقد شيئاً منه، يحدثني الشاب عن سذاجة الطرح الذي يظهر عليه الإسرائيلي في السينما المصرية، وعن حقيقة أن العداء الشديد لجماعة أو شخص تفقده في نظرك أبعاده الإنسانية، وعن الفيلم الوحيد الذي استوقفه "جيوش الشمس" للمخرج المصري شادي عبد السلام، وقال:
- الفيلم توثيقي لحرب يوم الغفران، لا يضيف جديداً، غير أن فيلم المومياء لنفس المخرج جيد، وليته رضى بتمويل إسرائيل لفيلمه الآخر الذي لم يرَ النور ضحية عناده : إخناتون !*
ظل جاري الفلسطيني نضال يتابع ميخائيل بعينين مشحونتين، قال لحظة انتهى :
- المومياء؟! إنه لفيلم ذو إيقاع شديد البطء حد الملل، ليس فيه إلا صوت الرياح الجنائزية وسرقة الآثار، إنما آثره (ميخائيل) لأنه يكرس لمصر الفرعونية لا العربية !
وقلت :
- لا طائل تحت هذا النقاش ولا منفعة تُجنى منه، لأن المهم هو مصر اليوم، وهي على حال يُرثى لها.
ولم أكن يوماً من القنوعين بجدوى المناظرات، أو الآملين في جدواها، ذلك أنها إنما تختبر الملكات الاجتماعية للمتساجلين فوق المفاضلة النظرية الحقيقية بين مشارب وألوان الفكر، ثم أنها مجال واسع للتراشق والسطحية والإجابات غير المجهدة بخلاف ما تقتضيه الحقيقة عادة من بحث وإغراق في التفاصيل، وعلى هذا كله تمنيت أن يحل الصمت، ولكن ميخائيل لم يصمت :
- أتصور أن يتحقق سلام عميق بين "مصر الفرعونية" وبين "إسرائيل اليوم"، لأن دعوة القومية العربية في جوهرها هي الاجتماع على كراهية إسرائيل، وهذا يبرر توهج هذه الفكرة عقب وثيقة إعلان الاستقلال في1948م، وتمزق أوصالها (يريد دعوة القومية) بعد السلام.
وكان في مكتبي بعض أشعار حافظ إبراهيم، وأخذ نضال يطالع هاته الأبيات :
إِذا أَلَمَّت بِوادي النيلِ نازِلَةٌ.. باتَت لَها راسِياتُ الشامِ تَضطَرِبُ
وَإِن دَعا في ثَرى الأَهرامِ ذو أَلَمٍ.. أَجابَهُ في ذُرا لُبنانَ مُنتَحِبُ
لَو أَخلَصَ النيلُ وَالأُردُنُّ وُدَّهُما.. تَصافَحَت مِنهُما الأَمواهُ وَالعُشُبُ بِالوادِيَينِ تَمَشّى الفَخرُ مِشيَتَهُ.. يَحُفُّ ناحِيَتَيهِ الجودُ وَالدَأَبُ
وقال :
- بين العرب وشائج لن تفهمها بعدسات الاستعلاء هذه..
وتساءل ميخائيل :
- ماذا يجمع الخليجي الثري وبين الصومالي قاطع البحر؟ اللغة؟ ما العلاقة بين اليمني المتاجر في نبتة القات وبين صائد السمك على ساحل جزر القُمُر؟ إن القومية العربية ليست إلا الوجه الآخر للخلافة الإسلامية.
- ماذا يجمع اليهود الذين وفدوا إلى فلسطين في الهجرة الرابعة (يقصد في الفترة بين 1924م إلى 1928م) من بولندا وروسيا ورومانيا واليمن والعراق إلا الرغبة المحمومة في امتلاك ما لدى الغير؟
- ماذا قدم العرب للعالم من منجزات خلال الخمس قرون الفائتة؟
- هل تقدم الإنجاز الحضاري عربوناً للحق في الحياة واحترام الملكية؟ ماذا قدم الإسرائيليون لفلسطين طوال عقود إلا المجازر والويلات والخراب؟
وهكذا بدأ الطرفان يتقاذفان الأسئلة وخرج "النقاش" عن جدواه – هذا إن كانت له جدوى ! - فعدت أتساءل :
- هل يتصور أحمقان يمثلان الآن في حجرة صغيرة لشخص تافه يعمل في تجارة البلح بخان يونس – أقول هل يتصور شخصان على هذه الدرجة من الأهمية بنفسيهما القدرة على حل مشكلة عجزت عن حلها الدول والاستخبارات والحكومات؟
وقال نضال وقد اهتزت شراشيب وشاحه الأبيض والأسود لحركة رأسه المنفعلة :
- تسجيل المواقف ليس إضاعة وقت، كل شخص يتحدث كصدى لما يدور في ضميره، ووعي الفرد هو ما يشكل وعي الأمة.
وتدخلت هنا فقلت :
- لا أحد يهتم بقضية شعب فلسطين حقاً، سيان في هذا العرب وغير العرب، الأمر أشبه بمسرحية انفعالية صاخبة، يبدأ الجميع فيها بالصراخ ولوم المجتمع الدولي والمشاهير ثم ينتهون إلى لا شيء، وربَّ لسان يستهجن، وحركات تقاطع، ونفوس تمور، وألسنة تضطرب، وأفئدة تلهج بالدعاء، ثم تخمد وتخمل بعد وجيز زمن ! أثرياء الخليج ينفقون على لاعبي الكرة وشراء اللوحات فوق ما ينفقونه على أي شيء له علاقة بالنضال العربي، ولا أحد يقاتل في ميدان الحرب من بلاد "ديار الإسلام" خلا مصر (التي انكفأت هي الأخرى على ظروفها الداخلية في السنين الأخيرة)، حتى أن شهداء إيران في حرب 1948 هم رجل واحد.
وقال ميخائيل وقد عكس المصباح خياله المتضخم :
- هذا لأنهم (أي الفلسطينيين) شعب غير ذي بال.
وتدخلت :
- ولو فرضنا صحة هذا الادعاء، أهذا يبرر المظالم الواقعة عليهم؟ هل يبرر خلو صفحة الغجر من المنجزات ما أقدم عليه هتلر من محرقة الغجر الرومن (البورايموس Porajmos)؟
وقال ميخائيل :
- المظالم؟! إسرائيل تطلب السلام والعرب يسعون دوماً للقتال !
وابتسم نضال ابتسامة هاربة، قلت وقد كانت جعبتي عامرة ببعض هذه المظالم :
- تحفظ قليلاً، ميخائيل، لقد دمروا بساتين أبيك وجدك في رفح، أبي روى لي وقائع مريعة إذ كانوا يأتون بشيخ القبيلة ويخلعون عقاله ثم يأمرونه بجمع القمامة ليشعر بالمهانة،.. إنني ألومهم أيضاً لأنهم من حفزوا عصر الانقلابات والقضاء على الملكيات في مصر والعراق، ولو من طريق غير مقصود.
وتدخل نضال وهو ينتقدني أول مرة في الجلسة :
- ماذا يعجبك في هذه الممالك الغابرة؟ لقد ضاعت فلسطين إبان عهد فاروق، يجب أن تسعى للديمقراطية في ظل الجمهورية، وأما سقوط الملكيات فحتمية تاريخية منذ وقعت الحرب العالمية الأولى التي هي في جوهرها انقلاب على الملكية.
وقلت :
- هذا منال بعيد، لأن الديمقراطية تكرس لشكل من الحكم الرعاعي القبلي إذا لم تتوشح بدرجة من الوعي والفهم للمواطنة.
وعجب نضال من حديثي لأنني وصمت الديمقراطية بالبداوة التي خرجت من بيئتها، واستدرك :
- فليكن نضالك من أسفل إذن، ولتعمل على أن تغير قاعدة المجتمع إلى الأفضل، واجب المثقف أن يختلط بالجمهور لا أن ينُظر من أبراج العاج وفي المقاهي، ولا ينبغي أن يقع اليأس في نفس المرء من وعي الجمهور أو استجابته لمسيرة الحرية الحتمية، فهذه الهند الفقيرة صاحبة أكبر الديمقراطيات في العالم*.
وقلت :
- هناك عداء بين المجتمع العربي – من حيث كونه شديد المحافظة – من جهة وبين الفكر الجديدة من جهة أخرى، ولهذا يجد المثقف الأمين نفسه في مأزق لعرض ما يؤمن به، ويكون بين خياري "التقية الثقافية"* أو الانزواء الخافت، إن المثقف الذي يشتهر في بلاد العرب هو ذاك الذي يردد قناعات المجتمع ليبرز كأنه داعية جديد لها، ولربما يكون العدو الرئيس للعرب هو التخلف من حيث هو عداء للحقيقة نفسها، وهذا المسار الخرافي في إدارة السياسة وتفسير التاريخ ما يزال يتبناه أذيال العثمانيين في أوطاننا، وهم يحاولون قسر المنطقة عليه جهلاً أو تواطؤاً، وقد وقع في هذا المسار مثقفون ثقال من طراز حافظ إبراهيم نفسه الذي كان يرى الاعتصام بحبل الدولة العثمانية، ومصطفى كامل الذي قفز عبثاً بتوجه حزبه من عداء الاحتلال الإنجليزي إلى رابطة أوثق باحتلال عثماني،.. وقد يتفق لي أن أقول إن إسرائيل تعادي الحق، وهؤلاء يعادون الحقيقة، وإذا حاولت إسرائيل استلاب سيناء من مصر فقد سعت تركيا إلى الأمر عينه، وقع هذا خلال القرن التاسع عشر في مناسبات انتقال وراثة الولاية حين أرادت تركيا أن تحدد حدود مصر الشرقية بخط العريش - السويس الذي يسلب مصر جل سيناء،.. ويجب خلق قالب من الديمقراطية يناسب طبيعة الدول الشرق أوسطية، فحري بكل مجتمع أن ينتج آليات إدارته التي تناسبه، مثلما أن لكل قبيلة حداء إبل مختلف عن الأخرى.
وقال ميخائيل :
- فلينصرف العرب إلى مشكلاتهم إذن، وهي كثيرة متشابكة، وليبحثوا عن سياسة نافعة في ظل ثقافة الإسلام، وإن تم لهم ما أرادوا، وهذا رجاء بعيد، فليعكروا صفو هذه الدولة الصغيرة، إسرائيل أشبه إلى طاووس في محيط متخلف، وسيضطر العرب إلى التعامل معها خلال القرون الخمسة القادمة.
هناك قال نضال منفعلاً :
- ولو كان ذلك كذلك، ألا ينبئك وجود هذا الطاووس المتفوق بغرابته عن محيطه الأقل، إسرائيل تنتمي إلى أوروبا ثقافياً وحضارياً لا إلى الشرق الأوسط، بحق السماء،.. ما الذي هبط بهؤلاء القوم إلى هنا؟
- وليكن ! لازلنا الطاووس الملون في الحظيرة الباهتة..
هتف نضال :
- طاووس مدعوم من أقوى أسد في الغابة.
- إن شئت الإنصاف قل : إسرائيل قوية من الداخل.
- لماذا استخدمت أمريكا – زعيمة العالم الحر بزعم قادتها – ثلثي مرات حق النقض (الفيتو) دفاعاً عنها إذن؟
- بيننا صداقة منذ عهد طويل،.. ما شأن الفلسطيني؟
وقال نضال :
- سياسة بلاد العم سام لا تعرف الصداقة أو العداء حقاً، بل هي آصرة المصلحة ووشيجة النفع المشترك التي تقوم عليها عقلية "النجاة من المهاجرين إلى ما وراء الأطلنطي"، قل : أنتما كيان واحد.
وقال ميخائيل :
- لإسرائيل حق في هذه الأرض وفقا للوارد في نصوصكم الدينية، وللأمر جذور عائدة إلى مملكة يهوذا*..
وتساءل نضال متأثراً بخلفيته اليسارية :
- متى صار للمقدس من النصوص سلطة تقرير الحدود الدولية؟
وتساءل ميخائيل :
- لقد طورت إسرائيل "مدنها" خلال فترة وجيزة فأمست واحات حضارية، ماذا فعل العرب بالقاهرة أو بغداد إلا القبح والزحام والعشوائية؟
واستحضر نضال أبيات حافظ إبراهيم جواباً عن التساؤل الأخير :
لقد كان فينا الظلم فوضى.. فهُذِّبَت حواشيهُ حتى بات ظُلماً مُنظّما
عملتم على عِزِّ الجماد وذُلِّنا.. فأغليتُم طيناً وأرخصتُم دما
إذا أخصبت أرضٌ وأجدبَ أهلُها.. فلا أطلعت نبتاً ولا جادها الـ
وانقطع التيار الكهربائي قبل أن يتم "السما" فظننت هذا رحمة من المقادير برأسي الذي أُرهق، وظل الحديث الأخير حائراً في فضاء مكهرب بالجدل، وكان انقطاع الطاقة واحداً من جملة صور تلك الحياة القاحلة التي نعيشها هنا في خان يونس، وسرعان ما انصرف ميخائيل عن اجتماعنا عائدا إلى مأتاه، وحسبت أن هذا لهو خير ختام معبر عن حديث وحياة المتحاورين !
**
الفصل التاسع :
رحلة الماضي وجحيم خان يونس
"حملت الريِّاح صدى نحيب الأميرة المضيئة نحو الأسفل، زوج الفتى الأمير السَّماوي، فوصل إلى السماء، فسمعه الإله، والد الفتى الأمير السماوي، كما سمعته زوجه وأطفاله الذين في السماء، عندئذٍ هبطوا وأخذوا في البكاء، أقاموا هناك مذبحاً، وجعلوا من البط البري حمّال الطعام الجنائزي، ومن مالك الحزين حمال المكنسة، ومن القاوند طباخاً، ومن الدّوري خفاقة الرز، ومن الدرج ندابة، وبعد أن وزّعوا الأدوار هكذا رقصوا ثمانية أيام وثماني ليالٍ.".
كوجيكي – الكتاب الياباني المقدس
2023م..
ما يربو على ثلاثين سنة من الانقطاع عن التدوين، سادتي، ماذا تصنع الأيام في رحلة الإنسان؟ كيف توقفت عن الكتابة طوال هذه الأعوام؟ وكيف عدت؟ لقد تبخر العجب وقد ألفت الجنون، والتدوين عقلنة الغريب واستفزاز المألوف، ثم أليست حركة القلم المدفوع بالإلهام هي كاهتزاز الحجر اليابس بهطول مطر الحياة؟ وما أعجل القلق يتسرب من نفس سودت هواجسها في البياض!.. ماذا جرى لميخائيل ومحارب؟ امتد الضلعان المنفرجان كثيراً حتى ابتعدا، وانحل الرتق باختمار الأيام، فها هي ذي السنين تمر، ووقعت أحداث هي ذات جلل، تطوع ميخائيل في جيش الدفاع الإسرائيلي، وخدم في القوات الجوية الإسرائيلية (IAF)، تلك المشهورة ببراعتها وتاريخها العائد إلى الحرب العالمية الثانية، وانضم محارب إلى المقاومة الفلسطينية، التي نلتف حولها (العرب) وقتما نبحث عما يرطب القلب إزاء كل اللامعقول من "عربدة الاحتلال"، ولم تكن قناعة محارب بالمقاومة قناعة الانجذاب للأصولية بقدر ما هي رغبة البحث عن الوطن المسلوب عبر ذاك السبيل الوحيدة المتاح، أو النافذة الضيقة، ذلك أن الفتى وفي حدود ما خبرته لم يبدِ اهتماماً زائداً بالدين أبداً.
وعظمت مصيبتي إذن، ووقفت أمام اختبار الوقت حتى عزمت أمراً ذا خطر، وجمعت عزمي على أن يلتقي الخصيمان في معبد ياميت، على أطلال المستعمرة التي لا نزال نحن البدو نختلس التسلل إليها، وكانت السنون الكثر قد تصرمت على وداعي الأخير لهذه المنطقة، وحين وصلت تساءلت : كيف ظلت ياميت على حالها؟ ولمَ؟ كأنها المحفوظة في كهرمان التاريخ، صلى محارب في ظل شجرة الدُّرَّاق العتيقة صلاة المسلمين، وصلى ميخائيل في ذاك الكنيس اليهودي المخلعة أبوابه ونوافذه صلاة اليهود، وقلت أعجب ما قد يوصي به أب أبناءه :
- اقتلا بعضكما ولا تنسيا أنكما أخوان..
وقال محارب في تسليم :
- لا يستقيم، أحدنا يدافع عن الحق والآخر وكيل الشيطان..
وقال ميخائيل في ثقة :
- فليكن النصر حليف الطرف الأقوى إذن..
ووقف الشابان في خلاء الصحراء العربية تحت ناظري وقفة السلام بين الذئب والغزال عند نهاية الزمن، وارتفع الشرر من الأحداق في هذا المحيط الاستثنائي من الحقول والحدائق، كأنه ابن مآساة قابيل وهابيل، وذكر لي ميخائيل أسفه من عدم وجود نصب تذكاري واحد يوثق ما حدث لإسرائيل في ياميت، وأدركت أنه يتحدث حديث أسرته الإسرائيلية التي لابد أنها سردت له جانباً واحداً من القصة، مثلما نسرد نحن العرب جانبنا الوحيد أيضاً من القصة، لقد غدا من الواضح لي بعد حديث ميخائيل أن ياميت باتت ذكرى أليمة في الوجدان الإسرائيلي، وفكرت في أن هذا ربما كان سبباً من أسباب تدميرها على النحو الذي وقع، فلعل ثمة من أراد أن يضرب المثل على صعوبة إخلاء أي مستوطنة أخرى في الأراضي العربية المحتلة مستقبلاً، كأنه أراد أن يخلق "كربلاء إسرائيلية"، ومازلت أتذكر حديث بيجن الذي قال :"إن المستوطنين سيتوجهون إلى الحائط للبكاء على ياميت، وسوف يصومون كما يصومون حين تصيبهم الكوارث الوطنية، بل سيضعون الرماد على رؤوسهم حداداً!"، وهبط ميخائيل وهو يمسك حفنة تراب من أرض سيناء واستدرك :
- إنني أتفهم أهمية هذه الأرض لكم، فهي في أهميتها الحيوية كممر زنغزور لآسيا الوسطى، إننا أبناء اليوم،.. إن رمال سيناء البيضاء عامرة بالسيليكيون وهي تصلح لصنع الخلايا الضوئية، لماذا لا نتعاون سوياً؟
ودفعه محارب وهو يهتف فيه هتافا شديداً أفزع طائر أبي شنار الجميل :
- فلتذر رمال العرب للعرب..
وسألتهما نبذ الخلاف لأن أوانه آت لا محالة، ووقف الأخوان يتابعان هذا الطفل البدوي الذي أخذ يقترب من كومة الحديد، مستخرجاً شيئاً من فضاء أطلال المستعمرة، ثم ركض، واستقبلته بدوية تضع الوشم على شفتها السفلى، وظاهر اليدين والكفين، وثقبت أنفها بـ"شناف" من ذهب، بين ذراعيها، تحت الشمس، ثم وقع أن ذهبت بهما إلى بحر العريش يوم أربعاء أيوب وقلت :
- يُقال إن النبي أيوب برأ من عِلَله يوم اغتسل في هذا البحر!
ورأيت رجال البدو ينزلون البحر، ومن السواركة من يذبحون، واستحم ميخائيل وسطهم وقد حسبوه بدوياً، ولو أنهم عرفوا حقيقته ما تركوه، وقال:
- أيوب وارد في التوارة، ولازلت أذكر قوله : عريانا خرجت من بطن أمي وعريانا أعود إلى هناك، الرب أعطى والرب أخذ..
ولحق بنا محارب الذي قال :
- التوراة صورت الإله يستجيب للشيطان وسؤاله : هل مجانا يتقى أيوب الرب؟ ولكن مس كل أملاكه بضر فإنه يجدف في وجهك،.. وهذا مما لا يليق بإله، كما أن أيوب في القرآن لا ينفجر بالنقمة في وجه الإله فيقول : رب إني مسني الضر، ولا يزيد عن ذاك، بخلاف ما يقوله أيوب التوراتي : ما هو الإنسان حتى تعتبره وحتى تضع عليه قلبك وتتعهده كل صباح، وفي كل لحظة تمتحنه؟
وبدا أن "الأخوين" على خلاف بطول الخط، وأن إصلاح ذات بينهما أمر دونه خرط القتاد، مثلما بدا لي حديثهما ومنذ اللحظة الأولى نقاشاً غير ذي بال، ومثل هذا الجدل اللاهوتي هو ما يدفع بالأمور إلى الجنون بين الفريقين، وأذكر أن نتنياهو جعل يصدر حديثه هذا العام (2023م) أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بروايات عن النبي موسى، وقضينا الوقت من الصباح وحتى العصر، ورأيت البياضين يرمون رؤوس الذبائح وجلودها وأرجلها في البحر ويهتفون : "هذا عشاك يا بحر"، وبدت أشبه إلى عادة وثنية غريبة راقبها الأخوان بعيون العجب، ثم وقع أن اقترب بدوي من ميخائيل حتى صار منه قاب قوسين فهتف :"شالوم!"، وكانت أكثر "سلام عليكم" عبرية مقلقة سمعتها فقد خشيت أن ينقل حقيقة الولد إلى البدو، وأن يكون فيهم من يؤذيه، وسأله ميخائيل وقد أُخذ بنباهة هذا البدوي :
- كيف عرفت؟
وأجيب من البدوي الذي حاذت قدماه رأس كبش : "من العينين !"، وجعلت أهمس في سري وأنا أرقب البحر وهو يبدد دماء هذه الأنعام المذبوحة بحركة تياره الدؤوب :"لا شيء يفوق فراسة البدو.."، وتفرقا وتفرقنا وعادت الأيام إلى سيرتها الأولى،.. وابتهلت فرصة اقترابي من رفح فبحثت في أحوال قبيلتي بعد هذه الغيبة الطويلة، وتحسست مواقع خطاي كضعيف النظر ساعة يسير، فالزمان الطويل قد مر والبدوي القديم لم يعد كما كان،.. ومضيت إلى هناك وحيداً، وقد عرفت أن منازلهم باتت ممتدة من رفح على حدود مصر الشرقية وحتى هاته القرية المطلة على مدينة الشيخ زويد غرباً، علاوة على مساكنهم التي هي في اتجاه البحر، ومنها قرية أبو شنار، ورفلت إذن في العباءة والعقال حتى إذا ولجت محيط البيوت والخيام سمعت من ميزني في فراسة :
- أهلاً بالغائب..
واعترض آخر :
- بل هو المارق..
وعاد الصوت الأول :
- دعه يدخل ولا تكن من الجاحدين، إن جذورنا عائدة إلى عَنَزة بن أسد بن ربيعة بن نزار، وفروعنا لا نقطعها..
وعاد الصوت الثاني في حقد :
- هذا فرع مغمور في حمأة من طين..
- بل هو ابن الكريم، إن كان لكَ أذنان للسمع فلتسمع : ليس لنا (أي للرميلات) أصل عرقي واحد كما هو الحال في عموم القبائل، الشريطيون إلى قبيلة بلي ينتسبون، والقطايفة من قطيف شمال الجزيرة العربية، والقادود والصيّاح وأبو صيبع إلى الرملة في فلسطين ينتمون، وما من بأس أن يتفرع نسلنا مثل الجذور.
وقطع جوابه قول كل خطيب، وأذن لي الصوت الأول بالدخول والحديث، وبدا صاحبه في هندامه رجلاً على حظ من الرئاسة والوجاهة كأنه شيخ القبيلة الجديد، وعرفت أن اسمه درويش، وخشيت أن يكون أبي مسعد قد فارق الحياة وأن درويش قد حل محله فارتعدت، وأجلت سؤالي عن أبي حتى حين، وتحلق حولي الأطفال الذين سمعوا عني ولم يروني، وتناوب الشباب على القول : حياك الله وبياك، وعجل لك الخير، وغير هذا من مثل هذا الحديث الكريم، وأحسنوا إليّ حتى لقد شعرت أنني رجل ذو شأن، كأن سنوات الهجرة عدم،.. وقد غدت نسبة التعليم مرتفعة بين آل القبيلة، فمنهم أطباء ومهندسون ومدرسون بل أدباء مثل عبد الله السلايمة، وصاحب رواية طلعة البدن الروائي مسعد أبو فجر، ولمست هذا في مظهر الشباب الذين احتفوا بي، فهو ليس مظهر البدو المتواضع الذين تركتهم قبل عقود، وعبر حديث قصير عرفت أن قبيلتي باتت الآن تعتمد كلية على الزراعة، بالأساس على الخوخ الذي تلائمه مزارعنا ونصدره محليا، وبعد الخوخ ثمة الموالح التي نصدرها إلى الخارج، ومن صنوف الموالح أذكر الكلمنتينة وهي شبيه اليوسف أفندي ولكنه مائل إلى اللون الأحمر، وقد وهبوني واحدة فاستمرأتها، ثمة الزراعات الأخرى التقليدية : الزيتون، الطماطم، والخيار، ومحاصيل أخرى يجري زراعتها بالتنقيط، وقد أضحى أهل سيناء على خبرة بهذه الطريقة مثلما فهمت، وصارت الرميلات متفردة بتربية الأبقاء عن سائر قبائل سيناء التي لا تربي سوى الماعز والأغنام، وقال درويش يعاتبني :
- ألم يكن من الخير لو بقيت في حظيرتنا؟
وجعلت أرقب بقرة رائعة البهاء :
- الله أراد لي ما أراد.
وهبني درويش نظرة راضية، وهز رأسه الضخم مبتسماً ثم عاد يرقب الأفق :
- يجب أن تحضر سباقات الهجن.
وسعدت بهذه التحولات الكبيرة، وهذه الحفاوة التي لم تكن لي في حسبان، وعاد صاحب الصوت الثاني الذي تبين أنه نجل شيخ القبيلة :
- لماذا نشركه في طقوسنا وهو الذي صاهر الأعداء بنسبه الذميم؟
وحدست أن نجل درويش يخشى من أن أطالب في حقي برئاسة القبيلة، ولهذا فهو يضمر نحوي هذه الضغينة، أوقفه درويش :
- آل الرميلات يسمون أبا شنار اليوم بياميت من طريق العادة، لم تعد العداوة كما كانت..
وجاءوا لي بطعام كثير حتى أنهم ذبحوا بقرة في شرف استقبالي، وشجعتني الحفاوة على أن أسأل عن أبي، هنالك ازور درويش بغتة، وأمام إلحاح السؤال قال فاتراً :
- لقد اختفى..
وتساءلت ذهلاً:
- كيف؟
- مثلما سمعت، استيقظنا ذات يوم فلم نجده.
- هل مات؟ هل ترك أثراً؟
ولم أحز جواباً من أحد وقد طفت على العجائز والشيوخ من آل الرميلات أسألهم عن مصير أبي، وتركتهم ولم تكن يدي قد امتدت إلى طعام، وانصرفت إلى سؤال آل الريشات الذين كانت بيوتهم مجاورة للرميلات من جهة الغرب، في قرية أبي طويلة وأبي زرعى، فما وفقت في مقصدي، وعدت بخفي حنين، وبمثل هذه النتيجة خرجت حين سألت السواركة وقد كان بينهم وبين الرميلات حلف قبلي قديم، واستحكمت حلقات الحيرة حين سألت عائلة البراهمة وعائلة الشاعر دون أن يجد جديد، فرحلت عن سيناء كلها في صمت ووجوم، وخلت أن خلاءها العظيم يحدثني وأن خيالات أشباحه تربط على فؤادي، وانتهت رحلتي إلى الماضي !
ثم وقع أن عدت إلى حي خزاعة شرقي خان يونس، وحلت الأيام العاصفة العنيفة من أكتوبر التي سُميت بالطوفان، وكان الهجوم الأعنف من إسرائيل حتى أيقنت أن القائمين على الحكومة اليمينية هناك فقدوا عقولهم، وأن بربرية الإنسان قد تأخذ شكل العصابة المسلحة مثلما تأخذ صورة إرهاب الدولة الحديثة، وها هي ذي كلماتي تخرج، كأنها الشظايا من قلب جحيم انفجر!
والحال أنني استيقظت صباح هذا اليوم، فتصفحت الاخبار وزرت السوق المحلي في رائعة النهار، وسمعت الناس يصرخون بالإخلاء، وقالوا :
- وصلتنا الرسائل على هواتفنا المحمولة..
وتذكرت يوم الفزع في ياميت غير أن هذا كان أشد، وعدت إلى محارب وقلت له:
- هذا هو النزوح الثامن لنا..
وقال وعلى محياه ابتسامة صُقلت من الصبر :
- ولن يكون الأخير..
بالكاد جمعت بعض الأوراق والحاجيات : هذه المذكرات التي تقرأونها والساعة الذهبية وبعض الوثائق، وكما علمت لاحقاً، فلم يكن لدى معظم الناس وقت لجمع أي شيء، ولم أجد الوقت لأبحث عن جاري نضال الذي كان يرافقني في كل نزوح، كان القصف خفيفاً في البدء ثم إذا به يشتد، ثم نزلت القذائف من كل الجهات، وهي تشبه الرعود، وطمس الخراب معالم شوارع المدينة المتعامدة، وجُرفت المخيمات، وأبصرنا الناس يركضون، كأنه يوم الأبوكاليبس*، وها أنا ذا أتمنى الموت ولكنني أواصل عبثاً من أجل الحياة، وبحثت عن مأوى في مدرسة وترامى إليَّ نباح كلاب، وأبصرت جرحى وقتلى، ومنهكين وممدين على الأرض، واشتبه على خيالي رؤية الورود والزهور وهي تتهادى على أجسادهم من نافذة فُتحت في السماء، على أن أغرب ما وجدته كان ذاك الشيخ الفلسطيني الذي هتف في قارعة السبيل بنبرة مارقة من واحة التعقل أو المألوف :
- مرحباً بكم في الجحيم !
وقدرت أن الموقف قد ذهب بعقل الرجل، والتفت إلى محارب فلم أجده، ثم عدت التفت إلى العجوز فرأيته يرقص "رقصة الحرية"*، وراقبته حتى خجلت من خوفي، ورجمت ضعفي مثلما يرجم البدوي الوالي المفسد قرب خرائب العرجاء*، وطاف في رأسي صورة الجندي أوغست لاندميسر الذي رفض وحده أداء التحية النازية لهتلر، وسط الحشود المنساقة إلى "كاريزما الزعيم القصير"، وقلت كأنني عثرت على ضالة حتى جذبت انتباه من حولي عن وقائع يتعذر الانفصال عنها :
- هو مثل العجوز أوغست ! كلاهما رفض الانسياق لسلطة الخوف !
وعاد محارب الذي جذبني من يدي، ولا أدري إلا وأنا تحت الأنقاض، ومثلنا في مخبأ يعرفه هو وحده، ورويت له أحوال مشهد العجوز، فقلت له ما سبق أن فهت به : " فلتخرج لتراه، هو مثل أوغست لاندميسر !"، وما لبث أن خرج فتبعته، وألفى نفراً من الأهالي الفلسطينيين يرقصون هناك تحت هذا القصف المرعب، وقد سرت فيهم عجباً عدوى الرقص والحرية، ونزعت مباهج هاته الأسحار الشعبية من الموقف بعض سميته، وأبصرت صبية راهقت البلوغ وقد أخطأتها قذيفة وهي لا تزال تتبختر، وبدا لي مشهداً يقف على الحافة بين الخبل وبين العظمة النادرة، قليلاً، حتى يستقر إلى الثانية، فإذا هو المعنى الناضج في ظلال الجنون، والعجيبة المستقرة على جبين هذا الوجود البليد، والتقط محارب هذا العجوز بناظريه من جملة الراقصين وعاد إلى النفق يقول لي ذهلاً :
- بل هو أوغست !
ومررت قرب الراقصين فابتسمت وانحنيت للصبية الشجاعة، هاته التي بدا أنها ثملة بالبهجة على طريق الهلاك، هذا قبل أن تشدني يد في عنف، ورأيت جاري نضال مغبر الوشاح مرهق الوجه وقال :
- عشرون ألف طفل فقدوا أحد والديهما ! عودة الله ! صاروا يتامى، لن أحدثك عن البالغين لأنهم أكلوا من التفاحة المحرمة، صار وعيهم كاملاً، وتلوثت نفوسهم بغبار الحياة، الأطفال ليسوا كذلك، ولن أحدثك عن دمار الأبنية أيضاً ذلك أن ليس للجمادات إحساسات مثل الآدميين، وإن بت في شك من الأخيرة في أيامي هذه، حتى الأطفال لم يسلموا من جحيم الحياة..
ويبدو أن نضال قد انزعج من مشهد الرقص، بخلافي، حتى تركني وهو يقول للأهالي :
- لماذا ترقصون؟ هل سلبوا عقولكم؟ إن هذه إلا رقصة طائر جريح، رقصة العبث !
وهدأ القصف فجعل الأهالي يدفعونه ليرقص معهم، فما تركته إلا وهو يندفع وسطهم في حركات لا إرادية، ورأيت قدمه ترتفع مع العجوز مؤدياً "الدبكة" الفلكورية !
**
الفصل العاشر :
بداية الكون عند سبعة أكتوبر!
السخط على أي شيءٍ تَجري به الأَقدار هو تمرد انفصاليّ عن الطبيعة التي تضُمُّ معًا الطبائعَ الجزئيةَ لجميعِ الأشياءِ الأخرى. التأمُّلات: ماركوس أوريليوس.
2024م..
وجاءت أيام أهدأ وأقمت مع عشرات النازحين في عقار كبير، وراسلتني تمار عبر الإنترنت :
- " رباه! هل فقد البشر عقولهم؟".
- "هذا سؤال ينطوي على إطراء للبشرية، عزيزتي، الله لم يهب العقل للجميع! والمرء لا يفقد شيئاً لا يحوزه.".
- "فلتسمع لي : أعرف أن الأمور خرجت عن المنطق، ولكن كل شيء بدأ من هذه الهجمات الطائشة التي نفذتها حماس، في يوم بلا شمس، من رابع المستحيلات أن يخرج مثل هؤلاء بمنتج حضاري، إن الدين من حيث هو خرافة تسلب العقول رزانتها، انظر كيف قتلوا المدنيين وذبحوا العجائز والأطفال..".
- " ماذا سيبقى من شرعية إسرائيل إذا لم تكن الديانة اليهودية؟ إذا كان لابد من خروج الدين، فليخرج من طرفي المعادلة..".
- " لا تساوي بين الثرى والثريا..".
- "لازلت تتحدثين العربية وتوردين الأمثال، عزيزتي؟ هناك إجرام مقبول بكرافت ودعم دولي وفيتو؟".
-"كأنك تبرر لجرائم حماس..".
- "إن أحداً لا يسعد بقتل المدنيين، وحماس لا تضيف إلا مزيداً من النار على وعاء الزيت الذي يصبه إسرائيلي لا يقبل التفاوض أو التسوية، صحيح أن لديهم (أي لدى زعماء حماس) عالماً خاصاً يرون فيه المعطيات مختلفة عن حقيقتها، متأثرين أكثر مما يجب بالعقلية الأدبية والخطابية، ومنهم من يرى نفسه حلقة أخيرة في سيرة النبوة، بل إن منهم من يعتقد بامتلاكه مفاتح الجنة التي لن يدخلها مسلم إلا بإذنه، كل هذا حق،.. ولكن رأس الإجرام صدقاً وحقاً هو قتل أكثر من ثلاثين ألف نفس بالطائرات الحديثة،.. أين كانت حماس قبل 2005م؟ وأين كانت الحلول حينها؟".
ويبدو أن لدى المواطن الغربي منظاراً للإنسانية لا يرى من خلاله آدمية الفلسطيني إلا عبر عدسة حماس، فقالت :
- "كيف تتصور وضع المجتمع الفلسطيني لو قُدر لحماس سيطرة كاملة على البلد؟ ألن تؤول إلى ديار بربرية قرن وسطية تطبق الأحكام الهمجية وتُدار دفة الأمور فيها عبر مرشد إيران أو أمير قطر؟ حماس لديها مدينة أنفاق تحت الأرض..".
- "مدينة أنفاق في حجم ميترو أنفاق نيوريورك سيتي، أليس كذلك؟ ألم يمولهم نتنياهو بنفسه*؟ دعني أقول : حماس منتج كريه لظروف غير إنسانية، إن كثيراً من الفلسطينيين لا يرضون سلطة حماس عليهم، ويتوقون - شأنهم شأن الأوروبيين – إلى حكم مدني، حر، وكريم،.. ومنهم من يقول : لن يسوسنا ملثم، لن تحكمنا الدوحة أو إسطنبول أو طهران، ولا نريد لقضيتنا أن تكون سلعة في مزادات استخبارات الدول، ولا يصح أن تُختزل المقاومة من أجل الأرض أو شرعية تمثيل الشعب الفلسطيني في حركة عسكرية تفتقر إلى أقل درجات التبصرة في تقدير العواقب الستراتيجية، وقد سئمت السياسة العربية من نمط هؤلاء الذين يخبطون خبط عشواء*، فيقدمون الفعل على التفكر في المآل، ويلعبون المقامرة بالأرواح استناداً إلى غيبيات قومية أو دينية ومصادرات غير منطقية، وقد قاوم المطران المناضل المسيحي «هيلاريون كابوتشي» وغيره من غير المسلمين، وربَّ قائل يقول : "ولكن هؤلاء ليسوا الأكثرية وما ينبغي للمرء أن يتوهم هذا إلا مضللاً بدعايات يسارية مضللة، وقد فازت حماس في الانتخابات الأخيرة قبل أن ينكصوا عن "المسار الديمقراطي الموعود"، مثلما يفوز الإسلاميون "عادة" في كل انتخابات العرب، ثم تندلع الصراعات والحروب الأهلية والانقسامات "عادة" في أعقاب هذه النتائج"، وسأقول جواباً عن هذا كله : إن الموقف الأخلاقي يظل كما هو بفرض وجود فلسطيني واحد تجتمع فيه هذه الصفات، وهو افتراض ليس فيه أدنى عاطفية أو شاعرية..".
-" لقد بالغ جيش الدفاع فعلاً،.. ولكن ما الرد المناسب على ما وقع؟".
- "جيش دفاع؟! هناك صحفي بريطاني (قصدت بيرس مورجان) أجرى مليون مقابلة وقد جف لسانه وهو يردد هذا السؤال كالمُبرمَج، هناك اختراع جديد اسمه السياق الكامل للأحداث، الكون لم يبدأ في السابع من أكتوبر، كيف وصلنا إلى السابع من أكتوبر؟ لا يُلام الغريق إذا استنجد بالشيطان، ماذا تركت إسرائيل للفلسطينيين؟ بيرني ساندرز (Bernie Sanders) هو السياسي الأمريكي الوحيد الجدير بالاحترام، لقد قال : إنها المرة الأولى في تاريخ أمريكا التي تُستقبل فيها "جرائم الحرب" بمثل هذا التكريم، ترامب مهرج استعراضي، فهو يسأل الحكومة اليمينية إنجاز "المهمة" بسرعة، كأنه المتأثر بقول ماكيافللي : الأذى يجب أن يكون دفعة واحدة، لأنه كلما قل تكراره قل خطره، أما بايدين فكهل وقد غدا – لكهولته هاته – بطيء الخاطر عيي اللسان، من المفارقة أن بيرني يهودي، وإنني لا أرى من هويته سوى ضميره حين يتحدث، لن يفوز في الانتخابات الامريكية أبداً، لأن الديمقراطية الأمريكية باتت زائفة تشبه الأوليغاركية*..".
-"كف عن رؤية وجه العملة الواحد، الفلسطينيون أوائل من أساءوا إلى قضيتهم حين اغتالوا يوسف السباعي في قبرص*، وأعرضوا عن مينا هاوس في القاهرة*، ثم أوسعوا العراق بالتفجيرات الانتحارية في بغداد*،.. هل سمعت شيئاً عن أخبار الولدين؟".
-"يقتلان بعضهما، عزيزتي،..أحدهما في الأنفاق والآخر في الفضاء..".
-"أين أنت الآن؟".
-"متى غادرت خان يونس؟".
- "وكيف هي؟".
- "مدمرة، ليس فيها حجر على حجر..".
- "وسلامتك؟".
-" سلامتي؟ دمرت القذائف العشوائية بنايتين هما عن يميني وعن شمالي،.. إن انتظار الموت لهو شر من الموت نفسه، الموت مفارقة ورقاد، وفي بلاد العرب لا يزال ثمة من يصف ما حدث بالانتصار، وهذه العبارة تتردد على رأسي كثيراً هذه الأيام : إسرائيل تكذب على العالم، والعرب يكذبون على أنفسهم..".
- "أوه ! ابحث عن محارب، ميخائيل في أمان فهو الساعة في طائرته، ولتعتنِ بسلامتك..".
- "متى أصلي إذن؟ حسناً،.. كيف أخبار ميخائيل؟".
- نفسيته تأثرت كثيراً، لعله يحتاج طبيباً نفسانياً بعد انتهاء الحرب ليعالج آثار هذا الجنون والعبث..".
"نتنياهو يطيل أمد الحرب ليهرب من المحاسبة عندكم، الملعون يصنع طريقاً من الجماجم والجثث لأجل هوسه الخاص،.. لا يزال يفكر في نبوءة أشعياء،.. لقد أرهق الشيطان..".
- "لقد حاز استقبال رئيس أمريكي في البرلمان..".
- استقبال مجرمين الحرب في ساحات الرأي دليل على احتضار الحضارة الأوروبية..".
- "حاول جهدك الهرب من خان يونس بعد أن تجد محارباً، سألتقي بك في ياميت، هناك كان لقاؤنا الأول وفيها مصيرنا المشترك !".
وجمعت عزمي على أن أصل إلى محارب مهما كلفتني الأسباب، ووجدته في واحدة من هاته الأنفاق المخبوءة، بعد أيام عسيرة كدت أفقد فيها حياتي غير مرة حتى أمنت رؤية الموت وصادقته، وألفيته على بعد خمسة عشر ميل شمال رفح جنوب القطاع، هزيل الجسد نحيل العود، وقد قضى أياماً لا يأكل فيها إلا الأرز والقليل من الأرز، وسرعان ما بدأت الطائرات الإسرائيلية تقذف الموقع فعدت معه إلى الأنفاق، وقلت :
- يجب أن نرحل من هنا.
وأجابني :
- الفرار ليس حلاً.
- المواجهة ليست حلاً أيضاً، إذا تواطئ العالم على التخاذل عن دوره الإنساني في أن يقيم معبد العدالة فالمقاومة هلاك.
وقنع برأيي على جناح الإقرار بما لابد منه، وسرعان ما بحثنا عن مراكب الهجرة غير الشرعية لنصل إلى اليونان ومنها إلى دول أوروبية أخرى، ركبنا قارباً متهالكاً نفخت الآلهة شراعه الهزيل، وجعل محارب يغمغم :"البشر قمامة.. هذا العالم قمامة.."، وكأن همسات الجنون اليائسة تعبد طريق البحر الحالك، وأوغلنا في هذا العباب المخيف، وجنَّ الليل وبرزت الكواكب وخيل لي أن زحل هنا أصغر من زحل الذي كنت أراه في رفح وخان يونس، هل صغرت الدنيا في عيني؟ وبدأ محارب في نقد كل شيء : حماس والعرب وإسرائيل والعالم، وخبت ثورة النقمة ثم بدا زاهداً في كل شيء، وقد انتقل إليَّ شعوره بالزهد حتى خلت أننا راهبين نبحر على متن قارب مدفوعين وغير مدفوعين، وفيما نتوقع قذيفة من السماء تنهي كل شي بدأ محارب يسألني هذا السؤال الأثير الطافي على صفحة الخلود :
- هل الله موجود؟
وهالني السؤال فصمت، وعاد يتساءل وقد أدرك أنه عقل لساني :
- هل تعتقد أن البشر يتصرفون مقدرين وجوده حقاً؟ لماذا سمح بكل هذا الشر؟
ولم أجد ما أتحدث به أولاً، ثم قلت بعد تفكر :
- الله هو الحقيقة، حين تؤمن به ستعي زيف الحياة، وستعبر هذا المخاض على جسر الإيمان، إن هذه اللمعة الإنسانية في النفوس التي خرجت متظاهرة لأجل معارضة الحرب في غزة من طلاب جامعة كولومبيا الأمريكية ومن غيرهم لهي الصدى النوراني لحضوره المحسوس، هي البطولة التي يزرعها شعورنا المغمور به، وهي إلى هذا وذاك ما يجعل الأشياء المتنافرة واحدة في لبها وجوهرها..
ولسبب غير محدد تذكرت هذه الأنشودة التي كانت تتغنى بها قبائل سيناء في عبادة "الإله القمر" :
وكلمتك يتولد منها الصدق والعدالة وعلى ذلك يتكلم الناس الصدق
وكلمتك السماء العلا، والأرض المستورة التي لا يخترق حجابها نظر
ومن يفهم كلمتك؟ ومن يضارعها؟ اشمل بنظرتك بيتك! انظر إلى مدينتك ! انظر إلى "أور"
وعدت أروي لمحارب بعض القصص التي سمعتها من أبناء قبيلة الرميلات حين أرادوا الهرب من مصر عبر بحيرة ناصر الملأى بالتماسيح المخيفة، ويبدو أن هذا لم يخفف من وطأة ما نحن فيه حقاً، ثم وقعت لحظة سكينة نادرة، خلت فيها أن الموج قد توقف عن الحركة وأن الأصوات كلها عدم، حتى إذا انتهت هذه دوت قذيفة هائلة هبطت إلى رؤوسنا من أجواز السماء، ولم أعي ما حدث، انقلب القارب وصحوت حين كنت ومحارب عند خفر السواحل التركية في ضوء البكور، وقالوا لي إن رجلاً يصل بالتائهين هناك إلى بلادهم دون علم دوائر الحكومة، ودلني عليه ضابط تركي لقاء ساعتي الذهبية، وما لبثت أن اقتربت من ذاك الرجل الذي يتحدث عنه الجميع، فألفيته في الثمانين أو أكثر، بلغ من العمر أرذله، مألوف الملامح مع ذاك وقال لي:
- ألا تذكرني؟
ووعيت حقيقته بعد صمت، وتردد صوتي مفعماً بصدى طبيعي كأنه صدى الدهشة في قلب مغارة بدائية :
- أبي؟!
وعانقته في حرارة وقد خلت أنني أتملص من عقوقه كما يخرج المرء من دنس، أو كما يبل المريض من علة، ولشد ما استعذبت حضوره بعد عقود الغياب كما تستعذب الإبل الشراب على صوت حداء الراعي، وعلمت أنه حقق أمنيته في ركوب البحر، ترك الكهل البدوي مشيخة القبيلة، وتمرد على العادات التي قيض لها كل حياته بعد أن اكتمل يأسه من حلمه القديم في الأوبة إلى أرضه، وتفرغ لهذا العمل الجديد الذي أولاه القليل الباقي من حياته، عاد أبي بنا – أنا ومحارب – إلى رفح، ووجدت في ياميت حديقة كاملة من أشجار الدُّرَّاق والخوخ، أقامها الرجل بطول السنين، مختلساً أويقات دخوله وخروجه، وكانت بين جمهرة من الحدائق والحقول، وصليت مع محارب وشغل أبي منَّا مقام الإمام، وغفوت فوق سطح العجائب التي مرت بي، وتوسدت عتبات المجهول الحائر حتى أنني أبصرت في منامي حركات شفتي أبي تتحدثان بلا صوت، وانجذبت إلى قبس النور والحكمة انجذاب الفراش على مبعث ضوء، حتى يقظت بغتة وقد سمعت من يهتف كالمستجير، كأنما لفظه الضمير الكوني مشوش البال في حلم الحياة، وإذا تمار تناديني تقول وهي تبكي :
- عودة الله، أين أنت؟ أين ذهبت؟ لقد قُتل نجلنا ميخائيل، قتله الفلسطينيون، أسقطوا طائرته بالمدفعية !
وابتلعت الخبر في صمت وخفضت رأسي مجللاً بالرهبة، ويبدو أن طائرته كانت الوحيدة التي هوت، لم يبدُ على محارب تأثر، وتدانى أبي من أشجاره وقال كأنه يعود إلى طبيعته في استحضار ما درج عليه من أعراف :
- سبق أن قالها لي جدي يوماً : يوم تسود روح الانتقام فإن أحداً لن يكون في مأمن..
وكتمت العبارة الهازئة حين راودت صوتي الداخلي العابث، لعظم الساعة والخطب : "لقد قالها بين نزواته"، ومسحت دمعة انحدرت على وجنتي المكلومة، ثم لاح هذا الطفل الذي خرج من قلب المعبد اليهودي وفي يده قطعة الحديد المسروق، وأخذ يمضي في مسيره المتعرج وهو يلتفت إلى وجوهنا الواجمة بعد كل أمتار، حتى غاب، وسمعنا ضابطاً مصرياً يسألنا الانصراف عن المنطقة التي بدا أنه لا يحرسها سوى لأجل هذا الطفل، فمضينا.
**
- تمت-
مراجع
1- يهود مصر – التاريخ السياسي – د. زبيدة محمد عطا.
2- مجلة الدراسات التاريخية والحضارية المصرية - المستعمرات الإسرائيلية في سيناء: مدينة ياميت ( 1975م : 1982م) نموذجا – دكتور أحمد عبد القادر محمد عبد القادر.
3- كتب : في انتظار المعجزة، وأكثر من رأي، وانتهى زمن الفرص الضائعة، وشمعة في كل طريق لأنيس منصور.
4- مذكرات المشير الجمسي.
5- الاستعمار الإستيطاني للمنطق العربية المحتلة خلال عهد الليكود، 1977م : 1984م - مؤسسة الدراسات الفلسطينية.
6- الأدب القومى - التراث القصصي عند بدو سيناء - حاتم عبد الهادي السيد.
7- اليهود في مصر – د. قاسم عبده قاسم.
8- تاريخ سيناء القديم والحديث – نعوم شقير.
9- - عش النمل – حوارات وأسرار – سهير حلمي.
10 – الأعمال الكاملة للشاعر الفلسطيني محمود درويش .
11 – سيناء – د. جمال حمدان.
12 – قصة مدينة خان يونس – د. حسن عبد القادر صالح.
13 – البدو – الجزء الثاني (فلسطين – سيناء – الأردن – الحجاز) – ماكس فرايهير فون أوبناهايم وآرش برونليش وفرنركاسكل، ترجمة محمود كبيبو.
14 - الجدار الحديدي: إسرائيل والعالم العربي - آفي شلايم.
15 – مهمتي في إسرائيل– مذكرات أول سفير مصري في تل أبيب.
16 - أعداد مجلة العالم الإسرائيلي وجرائد الأهرام والسفير ويديعوت أحرونوت والجيروزالم وأورشليم بوست وغيرها.
17 – مضابط الكنيست MKD، الوثائق المنشورة في وزارة الخارجية الإسرائيلية MFA، وزارة الخارجية وشؤون الكومنولث (المملكة المتحدة) FCO، إدارة المحفوظات والسجلات الوطنية الأمريكية NARA.
حواشٍ
الجزء (1)
- الكيبوتس : تجمع سكني تعاوني يضم جماعة من المزارعين أو العمال اليهود الذين يعيشون ويعملون سويا.
- كل كلمة قيلت عن ياميت هي سكين موجه إلى شخصي واحترامي لذاتي* : نص حديث السادات بالإنجيزية :
"Every word spoken about Yamit is a knife pointing at me personally and at my self-respect ."
- زعماء ديموجاجيين : الدِيماغُوجِيّة أو الدَهْمَاوِيّة هي طريقة لإقناع الآخرين باستخدام مخاوفهم وأفكارهم المسبقة.
الجزء (2)
- السباخ : السَّبَخَةُ أو السَّبْخَةُ هي أرض مستوية عادة ما تقع بين صحراء ومحيط، وقد كانت فيما سبق بحيرة أو بحيرة ملحية، ويتميز سطحها بوجود ترسبات ملحيّة وجبسيّة.
- الدور الجيوسياسي : مصطلح تقليدي يستخدم للإشارة إلى تأثير الجغرافيا على السياسة.
- يصفها بعض الصحفيين المصريين المعروفين بـ"قرية" : وصفها الكاتب أنيس منصور بالقرية في كتاب أكثر من رأي.
الجزء (3)
- التناخ : كلمة مركبة من ثلاثة أحرف (رؤوس الكلمات) كل منها بداية لاسم مجموعة من الكتب وهى (توراة – نفيئيم – كتوفيم/ ختوفيم) تمثل الكتاب المقدس اليهودى.
- خان يونس، مدينة المماليك القديمة* : شيد المماليك مدينة خان يونس في القرن الرابع عشر.
- ولم يرَ في اليهود إلا إقطاعيين رأسماليين مترفعين ومستغلين * : حاول دوستويفسكي تبرأة نفسه من هذه الاتهامات في مقال نشره ضمن (يوميات) عام 1877م وقال فيه : "ولعل من أشد ما أثار دهشتي هو كيف ومن أين دلفت أنا حظيرة الكارهين لليهود؟ أعود وأتساءل: متى وبأي صيغة تجلى مقتي لليهود كقوم؟ ولأنني ما أضمرت يوماً مثل هذا المقت، ويعرف ذلك كل من كان له صلة أو معرفة بي من اليهود".
- تولستوي كان أفضل منه : لعب أليكسي تولستوي دورا كبيرا في الحرب العالمية الثانية من خلال عمله مع لجنة الدولة الطارئة (Extraordinary State Commission)، وقد ظهر ذلك الدور في محكمة نورنبيرغ (Nuremberg Trials)، التي تخصصت في محاكمة مجرمي الحرب النازيين على محاولات الإبادة الجماعية التي ارتكبوها ضد يهود أوروبا باستخدام أفران الغاز.
- بن غوريون ونظرية الأمن : كان بن غوريون من طلائع الحركة العمّالية الصهيونية في مرحلة تأسيس إسرائيل.
الجزء (4)
- برتوكولات حكماء صهيون المفبركة : وثيقة مزيفة كتبها ماثيو جولوفنسكى وهو مُزَوِر ومُخبر من الشرطة السياسية القيصرية.
- النار تأكل نفسها إن لم تجد ما تأكله : الجملة مقتبسة من قول الشاعر بن المعتز عبد الله بن محمد المتوكل بالله بن المعتصم :
اصْبر على كَيدِ الحَسُودِ فإنَّ صبركَ قاتلُه
كالنَّارِ تأكلُ بعضَها إن لم تجد ما تأكلُه
- أيلول الأسود : أو الحرب الأهلية الأردنية، هو الصراع الذي نشب في الأردن بين القوات المسلحة الأردنية بقيادة الملك حسين وبين منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات.
- شوفونية : الشوفينية أو التعصب القومي هي الاعتقاد المغالي والتعصب للوطن والقومية والعنجهية في التعامل مع خلافه.
- منظمة "جوش إيمونيم" : حركة إسرائيلية، يهوديّة أرثدوكسيّة يمينيّة متطرّفة، ملتزمة بإنشاء مستوطنات يهودية في الضفة الغربية وقطاع غزة والجولان.
- في الكنيست مر قرار الموافقة على معاهدة السلام بأغلبية ساحقة : وافق عليها خمس وتسعون عضواً، واعترض ثمانية عشر عضواً، وامتنع اثنان، وغاب ثلاثة.
- لماذا لم يقبل بضم رفح إلى غزة مثلما طلب منه وايزمان*؟": طلب وايزمان هذا الطلب من الرئيس السادات في 9 سبتمبر 1978، على أن الأخير رفض.
- اليوم، اليوم، وليس غداً : أغنية شهيرة لفيروز، هي تتحدث عن ضرورة عودة الفلسطينيين إلى أراضيهم المحتلة، فتقول :
"سيف فليشهر في الدنيا، ولتصدع أبواب تصدع، الآن الآن وليس غداً، أجراس العودة فلتقرع، أنا لا أنساكِ فلسطين، ويشدّ يشدّ بي البعد، أنا في أفيائكِ نسرين أنا، زهر الشوك أنا الورد".. إلى آخر كلمات الأغنية.
- مساعي جيمي كارتر : طالب الرئيس الأمريكي من الكنيست الموافقة على معاهدة السلام بشكل صريح في 20 مارس 1979م.
- الجهود الأوروبية المتصاعدة على إسرائيل : وصل المركز العربي البريطاني بلندن إلى حقيقة أن السلام لن يتم إلا بضغوط مكثفة على إسرائيل من أجل وقف الاستيطان في مستعمراتها الجديدة.
الجزء (5)
- قصة جحا والسحابة : من نوادر جحا أنه ربط بين موقع الكنز الذي عثر عليه في الصحراء وبين سحابة عابرة.
- صخرة ديان : صخرة ضخمة لها ثلاثة أوجه، مكتوب عليها بالعبرية أسماء طيارين إسرائيليين، أمر بنحتها موشيه ديان خلال فترة احتلال سيناء من جبل موسى.
- شكري مصطفى : مؤسس جماعة التكفير والهجرة، تأثر بكتابات سيد قطب حول جاهلية المجتمع وتوحيد الحاكمية، واتجه إلي تكفير الحكومة، والمجتمع لرضاه بتلك الحكومات غير الإسلامية، وأُعدم شنقاً.
- بئس القيادة قيادة الثلاثي المتخاذل : مناحيم بيغن، أرييل شارون، رافائيل إيتان : تحكم هذا الثلاثي في صناعة القرار في إسرائيل خلال فترة فض مستعمرة ياميت.
- الدوجما : الاعتقاد القوي المتحقق منه، بحيث لا يعود موضوع جدال عقلي ومنطقي.
- وأن يقتبسوا روح المسلمين السمحاء في تعاملهم مع معبد اليهود سانتا دي ماريا بلانك في طليطلة* : غمر المسلمون اليهود بسماحة كبيرة خلال تواجدهم في الأندلس، وقد أقاموا عشرين معبداً يهودياً في مدينة طليطلة الإسبانية خلال هذه الفترة.
- كلوحة سيريالية من إبداع سلفادور دالي: أحد أهم فناني القرن العشرين، وهو أحد أعلام المدرسة السريالية، تصدم لوحاته المُشاهد بموضوعها وتشكيلاتها وغرابتها، وكذلك بشخصيته وتعليقاته وكتاباته غير المألوفة، والتي تصل حد اللامعقول والاضطراب النفساني.
- الكنيس اليهودي : كنيس (בית כנסת بيت كنيست بالعبرية) أو صلاة أي بيت الاجتماع جمعه «كُنس»، هو معبد أتباع الديانة اليهودية نظير للمسجد لدى المسلمين والكنيسة لدى المسيحيين.
الجزء (6)
- حركة كاخ : كاخ (بالعبرية: כ"ך) كان حزب أو منظمة إسرائيلية صهيونية يمينية متطرفة، أنشأها الحاخام مائير كاهانا عام 1971م، وأعلنت إسرائيل عن الحركة كحركة ارهابية عام 1994م.
- من يتعامل مع هؤلاء القوم كمن يتعامل مع الفحم لن يجني إلا سواد الوجه* : ذكر الرئيس الباكستاني الأسبق محمد ضياء الحق عبارة مماثلة في سياق آخر هو التعامل مع الولايات المتحدة.
الجزء (7)
- حفيدة «الشعب الكنز» : الشعب المختار أو الأمة المختارة ترجمة للعبارة العبرية «هاعم هنفحار»، ويوجد معنى الاختيار في عبارة مثل «عم سيجولاه»، أو «عم نيحلاه» أي «الشعب الكنز». وإيمان بعض اليهود بأنهم شعب مختار مسألة أساسية في النسق والخطاب الديني اليهودي، ويؤمن بها كثير من المنتسبين إلى اليمين المسيحي.
- أَنا من هنا. وهنا أَنا : قصيدة غريبة للشاعر الفلسطيني محمود درويش نصها :
"أنا من هنا، وهنا أنا، دوّى أبي: أنا من هنا، وأنا هنا، وأنا أنا، وهُنا هُنا، إني أنا، وأنا أنا، وهنا أنا، وأنا أنا، وهنا أنا، وأنا هنا، إني هنا، وأنا أنا، ودَنا الصدى، كسرَ المدى قامت قيامتهُ، صدىً وجَد الصّدى، دوّى الصدى، أبداً هنا.. هنا أبداً، وغدا الزمانُ غدا، بدا شكلُ الصدى بلداً هنا، ورَدَ الصدى، فاكسرْ، جدارَ الكونِ يا أبتي، صدىً حولَ الصدى، ولتنفجرْ، أنا منْ هنا، وهنا أنا، وأنا أنا، وهنا أنا، وأنا أنا".
الجزء (8)
- وليته رضى بتمويل إسرائيل لفيلمه الآخر الذي لم يرَ النور ضحية عناده : إخناتون ! : عرضت إسرائيل على المخرج المصري شادي عبد السلام تمويل فيلمه إخناتون، ولكنه لم يقبل، وصرح لوكالات الأنباء بأنه قد يعتزل العمل السينمائي، ويذهب إلى تربية الدواجن احتجاجا على واقع السينما العربية.
- الديمقراطية في الهند : في عام 2019م جرى تسجيل تسعمئة مليون ناخب على القوائم الانتخابية الهندية، من بينهم 615 مليون شخص توجهوا إلى مكاتب التصويت، الأمر الذي جعل نسبة الإقبال تصل إلى 67 بالمئة وفق اللجنة الانتخابية الهندية.
- التقية الثقافية : التقية مصطلح دارج عند الشيعة يُراد به كتمان الحق وإخفاء الاعتقاد به أمام المخالفين، لدفع ضرر ديني أو دنيوي، وقد توسع استخدام المفردة في غير ميدان الدين لتدل على "إظهار خلاف ما في النفس".
- مملكة يهوذا : مملكة يهوذا هي مملكة بائدة لبني إسرائيل ناطقة باللغات السامية، ظهرت في جنوب بلاد الشام خلال العصر الحديدي.
الجزء (9)
- أبوكاليبس : إغريقية الأصل، وتعني رفع الستار وكشف الحجاب عن نهاية الكون.
- رقصة الحرية : تحول فيديو رقص صبي فلسطيني على إيقاع الدبكة إلى أيقونة لدعم قضية فلسطين عالمياً في أحداث 2023 و2024، ووقع لها رواج كبير على TikTok وغيره، وسُميت برقصة الحرية.
- ورجمت ضعفي مثلما يرجم البدوي الوالي المفسد في خرائب العرجاء : يعتقد أهل سيناء بوجود ولاة مفسدين، ولهذا يرجمونهم بالحجارة ويصبون عليهم الشتائم، منهم مصبح الوالي المفسود على درب الحج المصري في وادي المشتى، وعمري الوالي في أعلى وادي الأبيض قرب خرائب العرجاء.
الجزء (10)
- يخبطون خبط عشواء : مما يردده العرب، والعشواء هي الناقة ضعيفة البصر، او هي التي لا تبصر في الليل، فهي تطأ كل شيء، ويضرب للمتهافت في الشيء، والذي يركب رأسه، ولا يهتم لعاقبته، ويسير بلا هداية.
- ألم يمولهم نتنياهو بنفسه؟ : بحسب صحيفة "يديعوت احرونوت" الإسرائيلية فقد حث رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حكومة قطر على مواصلة تحويل الأموال إلى غزة، بهدف الحفاظ على الاستقرار الإقليمي، لأن هذا من شأنه أن يقلل من دوافع الجماعات المسلحة في غزة لتنفيذ هجماتها، ويحفظ الانقسام بين نسيج الشعب الفلسطيني.
- الأوليغاركية بالإنجليزية: Oligarchy) : هي حكم الأقلية بحيث تكون السلطة السياسية محصورة بيد فئة صغيرة من المجتمع.
- اغتالوا يوسف السباعي في قبرص : اًغتال فلسطينيون الأديب المصري يوسف السباعي في فبراير 1978م في نيقوسيا تحت زعم تعاونه مع إسرائيل بثلاث رصاصات في الرأس.
وأعرضوا عن مينا هاوس في القاهرة : مؤتمر شهير عُقد في شتاء 1977م بفندق مينا هاوس، شارك في المؤتمر : إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية ومصر لبحث مشكلات الحل النهائي للقدس واللاجئين الفلسطينيين، جرت دعوة منظمة التحرير الفلسطينية ولبنان وسوريا والأردن والاتحاد السوفيتي ولكن أي من هؤلاء جميعاً لم يحضر.
ثم أوسعوا العراق بالتفجيرات الانتحارية في بغداد : تشير بعض المصادر العراقية إلى أن عدد الانتحاريين الفلسطينيين في العراق وصل إلى ألف ومئتين ما بين عامي 2007م إلى 2013م، فيما تذهب بعض الآراء إلى تكذيب هذه الأرقام والتشكيك في مصادرها.
**