الفصل العشرون: لقد كذب عليَّ صاحبك
في حي بحري..
أحاطت بنبيل دائرة الذهول والسرور بمجرد رؤيته للعجوز والصبي، واندفع سريعاً - كأنما خشا أن ينفلتا من بين ذراعيه كما ينفلت الظل - راغباً في أن يمرر إلى الناجيين السؤال الذي كان يغزو أصقاع نفسه، ويغمر تخوم بواطنه، وظل يلوح للغريبان بيديه حتى جدفا نحوه بعد إذ أوعز العجوز إلى الصبي بالأمر، قال (نبيل) في لهجة متأثرة متهدجة كالبكاء :
- إلهي! أين كنتما؟ لقد رأيت زورقكما يغرق وينتكس، ظننت أن البحر ابتلعكما، وخلت أن انقضى نشاطكما في صاخِب الدَّأْماء، وقد صرتما طعمة سائغة لمفترس الأسماك، أو أن قعر الماء استوعب جتثيكما في مستقره استيعابه للأحجار العجاب، أو لعله لفظكما في جهة من نواحيه القاصية بعد إذ سلب منكما مقاومة الروح ونزع عنكما روح المقاومة، لقد حرت في هذا وأكثر وشقيت، أضنتني الوحشة وغلبني الأسى لضياعكما، أيها الغريبان، لقد تغيرت حياتي بعدئذٍ،.. ما سركما؟
وهبط الصبي الأسمر من زورقه وسأله في نبرة أقل عاطفية بأشواط :
- كم ستدفع؟
- ....
- الوقت وقت صيد لنا، وإضاعة الوقت في الحديث تبديد وعبث، ولدينا سر وأنت طالبه،.. كم ستدفع لقاءه إذاً؟
وسمع نبيل قهقهة العجوز الذي لم يبارح زورقه، وهب نبيل سائله شيئاً من المال ميسوراً، خلط الصبي يده المبللة برمل البحر حتى يبست وجفت، وأمسك النقود بكفه النحيل وأودعها جيب سرواله الأسود، وشرع يتمثل عرضاً ما يؤديه بالحركات والإيحاءات :
- السر سيدي هو جنية البحر ! أجل، لقد خطفتنا الجنية وعشنا معها في نعيم القصور حولاً من الزمن، وأقمنا في تلكم الأرض ذات القلاع والتلاع والأبواب السبعة رفقة صيادين "كبر عليهم البحر" فغرقوا فيه، كان صاحبي العجوز صياداً وفير الرزق مخاوياً لها،.. وقد أعادتنا نداهة القلعة المرعبة، بمقدورك أن تسمع إلى ضحكاتها الخبيثة وإلى نداءاتها على أسماء الصيادين الذين تزلف مراكبهم من القلعة، وأقسم أنك كنت لترتعب جزعاً وهلهاً مثلما ارتعبنا، إنها تظهر على أطراف المراكب أيضاً..
وكان الصبي يحاول عبثاً خلق حالة الإثارة والتشويق بحديثه ولكن نبيلاً ما اشترى من بضاعته شيئاً، قال :
- أنت كاذب حتى أنك ولفت أسطورتين في واحدة، تهرف من معين الأباطيل والمغاليط والخرافة..
وقفز الصبي الأسمر العابث إلى زورق الماء كالهارب بما حازه من نقود يقول :
- حسناً، لست بكذيب ولتقصد إلى شاليه أبي قير لتسمع بنفسك صيحات الصيادين المختطفين هناك..
تأبى العجوز معاودة الإبحار وزلف من نبيل بعد إذ هبط من الزورق يقول له مبتسماً فتبدو أسنانه المسوسة، يبثه الحقيقة :
- انقلب الزورق وأنقذني الصبي، حملني على ظهره الهزيل حتى بلغنا نهاية جزيرة فاروس، أقصى غرب المدينة عند نهاية الكورنيش، هدتنا القلعة المملوكية الإسلامية هناك، ولاعجب إذ شيدت قلعة قايتباي أصالة في مقام المنارة، وإذ نحن استأنسنا في محنتنا بشبح الإله بوسيدون : إله البحار والمحيطات ذو الشوكة الثلاثية الشهيرة لدى الأغريق، فقد قنعنا بأن المنارة ما تحطمت ولا انتهى تمثالها، تمثال هذا الإله، حقاً،.. طرحني الصبي إلى الرمل فوجدني شاحباً شحوب الموت، وهبني قبلة الحياة، إنعاش فم لفم، وقد عدت بعدها إلى بعض وعي،.. خلقت بيننا الحادثة صداقة متينة وأنشأت صلة وشيجة، كان صبياً بلا أب ينزح المطر واليوم إني راعيه، أعاد إليَّ المَعاش ووهبته حياة، ستحبه على أخاديعه وتغريراته وستأنس إليها بعد إذ تأنس إليه..
وغضب نبيل يقول :
- لقد كذب عليَّ صاحبك إذاً مثلما حدست..
ودس العجوز بعدئذٍ في جيبه المال الذي دفعه في طلب السر يقول :
- لقد حدثك بالأساطير ولا بأس ! إنها جزء من الوجدانات الشعبية وترجمة عن الشغف الإنساني، وحكايا الصيادون الغرقى المتصايحون جزء من ثقافة البحر العالمي في البلاد الساحلية،.. ليست زيفاً خالصاً إذاً ما دامت تبلور معنى قد يدوم ويطول الاستدلال به لأجيال، قل فلكلوراً قيماً معتبراً،.. ولا تبذل المال قبل أن تستوثق من مقابله..
جعل الصبي الأسمر يدبدب في الأرض بعد إذ فطن إلى خلو جيبه، أعاد العجوز التجديف واندلع فيه وهو يقول لصاحبه :"هلم! قبل أن يغيب الشمس.."، وشكره نبيل يقول :
- أردت الحقيقة، الحقيقة شائقة فوق الأساطير لأنها تحدث..
تحرك الزورق إذاً وعام الصبي إليه ثم صارا نسيجاً واحداً، جعل نبيل يرقب غيابهما فيما كانت ابتسامة ثابتة تزين وجه العجوز في ضياء مستمر الألق، ووجد الناظر البحر عظيماً سادراً لا قاتلاً مستهتراً فانسل إلى وجدانه العطف،.. انتبه نبيل إلى ميعاده الذي كان قد ضربه لسعاد ونسيه لدى عمارة البرج النحيف التي كانت على شكل شاشة LCD، أطول وأغرب عقارات الكورنيش بارتفاعها ذي الأمتار السبع عشرة وعرضها ذي الأمتار الثلاث، كانت علامة واضحة هي خير من زوايا السيالة وخوانقها،.. ولكن أين هي صاحبته؟! كانت سعاد رفقة أبيها الجمبلاتي في حلقة السمك بسوق الميدان في بحري، وقد ارتأى الرجل أن ينسج على منوال التجار المتخصصين القدامى فتخصص في صيد وبيع السلاحف البحرية - بعد بيع الأسماك المملحة - والتجارة في لحم الترسة وتقديمها إلى زبائن حانوته،.. أخفق سعي الرجل يومئذٍ في قطع رأس السلحفاة التي كانت تختفي في صدفتها باستشعارها للخطر الداهم، واختبأ الحي في بيت نفسه هرباً من قضائه المحتوم،.. وطال الانتظار حتى إذا تمكن منها صاحب الساطور هرع الخلائق نحوه بأكوابهم يجمعون من دمائها ما يحسبون فيه براءة من المرض، وما يخالون فيه شفيعاً غيبياً إلى زيجة وولادة، نادى الجمبلاتي على ابنته أن تشرب كوباً مع الشاربين، وقال في نبرة واثقة بلا أساس :
- سينهال عليكِ الخطاب إن فعلتِ، ستنجح دماء الترسة فيما فشلت فيه مياه الرجِّلة التي غسلت بها قدميك..
وأعرضت عنه تقول :
- لا أريد أن أحذو حذو دراكولا ولو عشت بلا خطاب..
أنهى الجمبلاتي سلخ السلحافة وتقطيعها بالساطور، أمسكها بماشة وحضر ورقاً كمثل ورق الجزارين ودككه بالدوبار، ونادى على نجله الصغير جوهر الذي كان على حال من الاشمئزاز والفزع من وقائع المشهد المريب : ذبح السلحفاة فتهافت الحضور على دمائها، يقول له :
- اذهب بها إلى حانوتنا وحاذر من أن تلمسها فيتغير لونها وتفسد، ولتقبض عليها من الدوبار إذاً..
ثم وهو يعود يحدثه ابنته :
- تعرضين عن أمري إذاً؟
- إنها محرمة، قد تحبس في سيلها أو تغرم، إنها سلاح البيئة في القضاء على كابوس القناديل، ستحدث الاختلال البيئي.
وكانت تشير إلى اتفاقية "السايتس" عام 1975، التى تحرم الاتجار بالحيوانات المهددة بالانقراض، ووقعت عليها البلد، وتساءل :
- لماذا لم يحبس عم سحلول وحسن غلألأ إذاً؟
- كان هذا قبل أن تتغير القوانين..
وأجابها الرجل الأمي يقول وكان دأبه أن يشعل سيجارة متى انزعج :
- هل تحملين تاجراً يتمياً وزر فساد البيئة وانقراض الأنواع؟ إنها في جودة لذائذ الضأن، ولين البتلو،.. ما أشهاها !
شربت سعاد من الكوب - نزولاً لدى إلحاح الأب الذي حشد في سبيل إقناعها بعض الواقفين - رشفة تقيأت بعدها، حمل جوهر لحم السلحفاة ومضى متثاقلاً وقد آده الحمل، أشار الجمبلاتي إلى ابنته أن تحمل الصدفة، سألته :
- سأتخذها للزينة في البيت أو الحانوت..
وأجابها الرجل وهو يودع ساطوره جراب من الجلد الايطالي الفاخر من طراز مسرين :
- بل نتحصل على ثمنها القيم من ذوي الأعمال والأسحار، إنهم يطحنوها ويستخدمونها في مآربهم.
قصدت سعاد إلى عمارة LCD وفي يدها صدفة السلحفاء تحملها وسط نظرات من يعبر بها وتعبر به، وطفقت تضرب أخماساً لأسدس مستاءة غاضبة، وودت أن تظهر صاحبها على بعض ما بنفسها من امتعاض، لقد رأت السلحفاة البائسة في مشهد حبب إليها النباتية التي كان يبشر بها صاحبها، وتفكرت في خطورة الإنقراض والاختلال البيئي وكابوس القناديل اللاسعات، حتى الصدفة التي تحملها ستنتهي إلى يد محتال ما يفتأ يستغل برمادها متوهماً أحمق يأتيه متوسلاً الغيب، ووثب إلى خاطرها اقتباس سمعته عن كارل يونغ : "ما لا نَجلبِه إلى نورِ وعينا يَظهر في حياتنا كَمصير"، وثمنت عبارة الفيلسوف السويسري وهي تتذكر "الظلال" التي كانت تسوق أرواح الجميع في مشهد الذبح، والرغائب المكبوتة التي غمرت الجماهير المهتاجة لرؤية الدماء السائلة، ثم انسياق أبيها الشيطاني إلى غواية الخمر،.. كان تخصصها هو الفلسفة في كلية الآداب وقد شق عليها إفهام أبيها الأمي أغراضها في هذا كله، والعارفون معزولون، وفكرت في وجوب أن تستقل برؤية فلسفية تخصها بدلاً من ترديد آراء الفلاسفة، وليس من ردد الآراء بفيلسوف،.. ووجدت نبيلاً ينتظرها يقول وقد تموضع رأسه حتى صار في حجم العمارة الشاهقة بالنسبة إليها بسبب المنظور يقول :
- هاك الخاتم..
- أي خاتم؟!
- خاتم الخِطبة !
ألبسها نبيل الخاتم إذاً وبعد إذ كاشفها بحقيقته الزهيدة في الإصبع الرابع من يدها اليسرى - كتقليد الرومان الذين اعتقدوا في وريد يصل منه إلى القلب - وحمل عنها صدفة السلحفاء، صمتت وفي نفسها هاجس :" إنه أثر رشفة الدم..".
في أبي تيج..
عاد منتصر من زيارته إلى الإسكندرية يتناءى عن العابرين ولا يستكتم سره أحداً، وأوصد عليه باب حجرته بعد إذ دلف الدار قاطعاً السبيل على أولئكم الذين هرعوا واشتدوا في أثره يريدون سؤالانه عما رآه في أسفاره، أودع الشاب زجاجة العطر التي تحصل عليها من يوسف Princess by Vera Wang)) إلى جوار زجاجة الخمس خمسات القديمة، ثم استوحش تجاورهما أمام المرآة على تفاوت منزلتهما في نظره حتى ألقى بالثانية في السلة على فيها من الطيب، وعاد يحرك الأولى فيجعل لها لوحدها مساحة الوسط ثم يتأمل تكوين زجاجتها الذي كان أشبه إلى كابوريا لها عنق وقاعدة، ورأى - عبر فتحة مواربة - صحناً من التين الشوكي على كرسي من الخشب يمثل أمام باب حجرته فاندلعت نفسه واشتهت ما فيه بعد عناء السفر، وتسلل إليه في حرص حتى سمع صوت بدور النائمة على كرسي الصلاة المقابل تسأله وقد أيقظتها حركته :
- وأين العطور ومواد البناء الخاصة التي جئت بها من المدينة؟!
وفزع ملياً وتبلبل خاطره فعاد يدلف إلى حجرته بعد إذ جذب الصحن - الذي بدا أنه ليس إلا طُعماً وضعته الأم النائمة كيما ينبهها إلى عودة نجلها - إلى صدره ويده ثم عاد يغلق الباب وهو ينادي :
- أمهليني سُوَيْعة ريثما استريح عسى أن أظهرهك بعدها على حقائق الأمور..
ولكن بدور ما تركته ودفعت الباب فلم يجد مناصاً من جوابها وقال وهو يمسك بزجاجة العطر :
- تعثرت أحوالي هناك وأخفقت في الإتيان بمواد البناء الخاصة، وخلصت من سفري بهذه..
وألقت على النافذة التي عادت تفتحها نظرة فإذا بعزاء العجوز ثريا تتجاور أضواء سرادقه مع قمر الليل، كان القمر أبيض مثل الصفا، وأحست بدور سفعة البرد فقال منتصر معلقاً :
- أتمت العجوز تسع وتسعين سنة قبل أن يدركها ملك الموت، سألت الصبية الذين جعلوا يلاحقونني في عودتي عن الميت فقالوا متشاغبين : "ثريا !"، وسعدت بأن الشقية الثرثارة قد نفقت وقد شح في عزائها الندابون والمشيعون على فرط ما قضته لها المقادير من طول الإقامة في عالمنا..
والتفتت إليه تقول عوداً إلى بدء وقد فطنت إلى ما يرومه من تشتيتها عن مأربها في الحديث عن قضية السفر باغتياب من ماتت :
- إنكَ ما قصدتَ إلى الإسكندرية طالباً مواد بناء ولا عطور..
وأبدى عجباً زائداً مصطنعاً كأنه الذهول يسألها متشكلاً بنبرة الجهالة :
- ولم قصدتُ (يريد نفسه) إلى هناك إذاً؟
وقرصته المرأة من أذنه قرصاً أرادت به تقريبه إلى الخضعان لها، وجعل يقول وهو يأخذ يتأوه وقد رسخ في قاع نفسه أن الصدق أسلم عاقبة :
- تقابلت مع حورية على جسر الإسكندرية الجديد، وحضرت حفلاً غنائياً لعمرو دياب بالعجمي، (ثم وهي تزيد في الضغط على شحمة أذنه كأنما توعز إليه عبر الألم بأن يكشف عما لا يزال يخبئه) لقد التبست عليَّ في الحفل أغنياته لتشابهها حتى حسبتها واحدة تتكرر..
ورأت بدور زجاجة عطر الخمس خمسات في السلة فاستخرجتها متقذرة، وجعلت تقول :
- إن ثرية لم تمت كلية..
وخرجت من الحجرة إلى المطبخ حيث غسلت الزجاجة ثم رجعت إلى حجرة منتصر وقد أعادتها إلى ما أمام المرآة تقول :
- أودعتني الميتة سراً حرياً بي أن أظهرك عليه اليوم : إن حورية ليست ابنة خالك، إنها أختك..
وانفرجت شفتاه عن نصف ابتسامة وقد رأى في الأمر مزحة مقتسبة من عرض هندي، ولكنها انفراجة مضغوطة تحت وطأة الرغبة في الفهم، فليس من عادة بدور الاختلاق وما أبعد المزاح منها، وقالت :
- لقد أرضعتكما (تريد نفسها) في مهادكما..
ولم تزل به الأم حتى أفهمته ما وقع له، وصعق ذاهلاً وسألها جامداً كتمثال وقد حجبت عنه المرأة قمر دنياه :
- وماذا تريدين إذاً؟
- أقطع صلتك بها ولا تعد إلى مدينتها، وحاذر أن تتردد إلى هناك فتستغويك الزيارة إلى السؤال عنها، (ونظرت إلى عينيه ملياً تذكر من المأثور قولها..) لَيْسَ هذا بِعُشِّكِ فَادْرجي..
وتركته في أسفه بعد إذ تم لها ما أرادت، وقد تمنت له من هو خير منها محتداً وأشرف خلقاً، حتى إذا عاد ينفرد بنفسه غلبه الأنين واستولى عليه الخَنِين، تارة يرمي بما في طبق التين الشوكي إلى مرمى عزاء المرأة المعمرة يستهدف نعشها المحمول، وطوراً يحدث نفسه فيقول في رثاء :"حقاً، أنا المكدي وابن المكدي، وحين أحببت امرأة كانت أختي.." !
عرف منتصر بعد ذاك اليوم العبادة والزهادة بعد إذ تصالح مع يأسه فنعمت نفسه بترك خدعة الأمل ونقهت روحه في ملكوت الكفاية، وتحالفت نفسه وقلبه على التقوى يتمثلها في مسالكه وعلى الحق يراه واضحاً ذا لحوب، ونبذ الخسائس بعد إذ توشح بوشاح التقوى وتزيا بزي الصالحين، ولزم الصوم في الهواجر، وسمعته بدور يهتف في قلب الفجر :
سِتٌ بُليتُ بها والمستعاذُ بهِ من شرها مَنْ إليه الخَلْقُ تَبتهِلُ
نفسي وإبليسُ والدنيا التي فَتَنَتْ مَنْ قَبلنا، والهوى والحرصُ والأملُ
فأشفقت عليه قبل أن ترى في خشوعه الزائد حرزاً مضاعفاً من الشياطين فتركته، وتواصل منتصر مع أشياع عرفة ممن لحقوا بأزمانه وتتلمذوا له وتبركوا به، وقد شهدوا له بحلاوة التلاوة وتفرده بنبرته النحاسية وبإجادته تلاوة خلف عن حمزة أصعب وأجمل التلاوات، فكان يجتمع حوله الصبية وهو يقرأ بها سورة النجم،.. وكان - كما قال له أحد الأزاهرة منهم - أندى صوتاً وأخشع نبرة وأتقى جانباً وعرضاً من مقرئي قريته جملة، لا يدانيه في إتقانه إلا الشيخ مصطفى إسماعيل الذي عرف من طريق بدور هوس بهاء الدين به يوم زار قبر جده نوح في مقابر المسلمين التي استحالت إلى مجال للسحر والشعوذة والتعاطي، وعرف من أمه كذلك شيئاً عن سيرة نبوية النحاس التي انقضى بوفاتها عصر مقرئات القرآن،.. وقد دعم العمدة بكر تلامذة عرفة لما أيقن من تجاربه في الريف والمدينة أن حركة الفكر لا تتغير بالفكر وحده، فقربهم إلى بطانته واستدناهم في الرأي والمشورة، وذكر لهم في رفاعة قوله الذي استحال أمثولة بينهم :
- طوبى لمن زادت أفكاره على أعماره.
وتحصل منتصر على إجازة قراءة حفص عن عاصم من طريق الشاطبية لدى شيخ تنبأ له بالمستقبل المشرق، وكانت تتَفطَرَ قَدمَاهُ في الدعاء بأن تبعد عنه السماء طائف حورية وأن تعصمه وتزكيه، وأصاب شهرة بحسن تلاوته للقراءات السبع وتعاورت الألسن سيرته الفذة وتناقلت قدراته الألمعية على التطويع والتنغيم وشبهه بعض المشبهين بالحصري وآخرون بالمنشاوي، وحرص حداثى المتعلمين وطويلبو التلاوة على ملازمته والقراءة عليه، وعرف بتلفيحته يلفها حول عنقه في المآتم وبسمته البسيط، لقنته بدور فضيلة التواضع التي تشربتها من محصل تجربة عبد المجيد في الحكم، وها هو ذا يحني هامته تواضعاً وهضماً للصارخين المعجبين القائلين : "الله.."، كان منتصر على حداثته أعجوبة قريته وأحدوثتها إذاً، وقد عاد من المأتم في ليل داجٍ فاستقبلته أمه مستبشرة ولثمته حامدة، ورقته بين الامتنان لما صار إليه وين القلق عليه من حساده، ثم صارحته برغبتها في تزويجه بابنة جارهم : المخبر زكي الضبع، كان رجلاً كريه السمعة حاول بكر إزاحته عن الريف مراراً فأخفق، وانتهى إلى ضمه إلى الخفراء شريطة الاستقامة آملاً أن تسلس مقادته من باب تجنيده،.. وقال منتصر وهو يستعيد شيئاً من هذا عنه:
- أأتزوج بنت الأفعى؟ سمعت عنه من الصبية إصابته بالعصاب الهيستيري..
وقالت :
- ابنته شيء، وهو شيء آخر، وما يرويه الصبية عنه فيه من التزيد بمثل ما فيه من الحقيقة.
وخلع تلفيحته كأنما يتملص مما يزعجه يقول حازماً :
- لن ترث من ابنته إلا قبحاً ما دامت نبتت في حظيرته، وما من نطفة إلا وترث طبائع الأبوين.
وكادت المرأة تقول شيئاً عن الخطبة التي تأمل فيها أن تطول قبل الزواج، فعاد يقول :
- التوكل إسقاط رؤية الوسائط، لقد قضي الأمر.
عدت بدور رفضه القاطع إشارة إلى استمرار تعلقه بابنة المدينة ولكنها لم تزد أمام عزمه الباتر، وحرقت المرأة عروسة الخماسين في شم النسيم - كعادة أهل الريف القديمة - كيما تطرد عنه الحسد.
**
2002م..
في برج العرب..
قضى صفوت أياماً راضية ينقل فيها الطوب بحنطوره إلى مواقع البناء، ويصل بركابه إلى مزاراتهم بالمدينة، وتعرف إلى رَجُل كَرِيمُ النَّحِيزَةِ سخي اليد اسمه ناصف غلاب كان من عشاق التنزه بالخيل فأكرمه وأغدق عليه بعد إذ صار بمثابة "سائقه الخاص" فأبرم معه عقداً مجزياً، ولزمت سميحة دارها لزوماً أشبه إلى الإقامة الجبرية بعد إذ صارت مستهدفة استهدافاً اقترن بشيوع اجترامها لدفع عطوة في بئر مسعود، وقد سعدت لما وجدت في عزلتها فراغاً لرعاية نجلها يوسف بمثل ما شق عليها هذا السجن الجديد، وقالت لزوجها يوماً :
- كأنني هربت من سجن إلى آخر مثله..
تذكر صفوت أنه شرب الويسكي مع بواب سيده الجديدة ناصف وفي حجرته الملحقة بفيلته ببرج العرب ذلك النهار فأقام بين إثمه وبين كدر زوجه رابطة، وارتأى في الحُزُونَة التي نزلت بداره ظلاً لما أقحمه في جوفه من الحرام في ساعة الصفاء اليتيمة التي نعم بها، ولعله تذكر ما سمعه يوماً في خطبة الجمعة من قول الإمام ينقله عن سفيان :"والله إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق دابتي وخلق امرأتي.."، وقال لها (صفوت) :
- إن هذا سجن أرحب كثيراً على أي حال..
أنشأت مدينة برج العرب بالأساس للتخفيف من زحام الإسكندرية وقد كانت امتداداً لها طبيعياً، وكان لشرفة البيت مجال فسيح للنظر والاستشراف، وقد نطق صفوت عبارته الأخيرة متأثراً بذلكم المعنى،.. وظل صفوت يداعب نجله الصغير يوسف إذ هو يطرحه على ظهره ويدفن رأسه في بطنه حتى يحمر وجه الآخر، ووجد منه ما أراد فجعل يقول لامرأته :
- الأطفال فضاحون، لقد بكى الطفل يوم صحبته للفيلا بمجرد رؤيته لبواب سيدي ناصف حتى استبد بي الحرج لتصرفه، وإن وجوههم البريئة هي سيرتهم النقية ومرآتهم غير المصطنعة..
وإنه لكذلك حتى دق الباب فنهض يجيبه وذهل لمَّأ ألفى قبالته الغانية التائبة، هذه التي أعادت إليه ورث أبيه بعد إذ انتشلها من مباءة كوم باكير، ورآها في ثوب محتشم فأدرك أنها ما نكصت عما أبدته من الاستقامة والإنابة، ولعله رجح أن في حضورها اليوم مزيداً من الخيور، وتفكر مدفوعاً بتيار الخواطر نفسه :"لعلها أرجعت بعض الورث، واليوم تأتي بالمزيد منه.."، وتبسم لها راضياً متأثراً بذلك الهاجس الأخير الذي طاف في نفسه ونزل بها نزول الارتياح والبشرى، وسألها - رغم ما تقتضيه الأعراف أن يسأل الطارق الفاتح - في احترام وتوقير كأنه لم يخبر بماضيها قط وإن زلت به نفسه فبدا باهجاً في الأخير :
- هلا أمكنني أن أسدي إليك خدمة؟!
وكشفت وجهها المنتقب، قالت :
- بحثت عنك في المدينة طويلاً، ولدي سر عظيم لم أبح لكَ به..
وصمتت صمتاً مرهقاً ثم أزادت تقول :
- إن أباك لم يمت..
وأدخلها الرجل إلى مقامه وقد تبددت بهجته إلى حسرات ودَهَشات، وجعل يحدث نفسه في هذا الليل الدَيْجُوريّ :" ما جاءت إلا في طلب رد ميراثه، وإنها لثمرة المعصية، قاتل الله البواب الذي أغراني بما لم أكن مستسيغه لولا إلحاحه عليَّ !"، واسْتَرْوَحَت التائبة إلى الحديث بطلاقة أكثر في حضور سميحة والطفل، قالت في صورة من الحزن الذي يستجر الحديث فاتراً :
- سيدتي، إنني امرأة عاصية ولي سجل لا أعتز به كثيراً، لقد لابست وداخلت وخالطت وجامعت (وهنا نهضت سميحة بالطفل فأدخلته في حجرة فيما واصلت المتحدثة تقول).. كان أبوك الجواهرجي رجلاً يحب الانتصاف لنفسه ولرجولته، ولشد ما أحب المفاخرة بتفوقه وفحولته، ولشد ما أحب مني كذلك أن أذكر له ما يؤيد مزاعم نفسه البطالة، وقد كنت أسعى له في مراده هذا صدقاً في مرات وكذباً في أخرى،.. ولكنه كان وفي ذلكم اليوم واهناً عِنِّيناً، وقد أضره هذا الشعور كما لا يضر غيره، لقد شاخ وكبر، ولم يرد الاعتراف بما نزل به من تدهور، وقد سعيت عبثاً في التسرية عنه، رأيته بعيداً من الصفائية كل بعد، كان الخمر يذيب أوصاله، لقد تقيأ في فراشه، ونهض إلى الحمام ولكنه ترنح، وساءت صحته فوهبته عصا يتوكأ عليها ورمقها مستقذراً فلم يجد فيها إلا ضعفاً وهواناً قبل أن يطيح بها بضربة..
وهنا نحبت المرأة في شدة فجعلت سميحة تواسيها فتحيطها بيدها وتمضي بها يمنة ويسرة في رفق، تقول له :"لا بأس، لا بأس، أنت اليوم بعيدة من مَثارَاتِ الغَلط، متسامية عن مهاوي الفحشاء.."، وأزادت التائبة تقول بعد إذ هدأت :
- كرهت يومذاك أن استتبعه استتباع النعاج والشياه، كنت أشعر به يحتقرني دائماً ولكنني ما احتقرت نفسي أبداً، وأذكر أنه سألني عن اسمي ذلك اليوم فقط وقد كان جاهلاً به فيما سبقه من أيام، وقد أجبته : "سحر هذا ما سمانيه به أبي.."، كان هذا عرضاً من أعراض احتقاره لي، إنه يطمس هويتي ولايراني إلا وسيلة لإشباع ما بنفسه، أداة باخسة للوِقَاع، ومهما يكن،.. ترامت إليَّ في جلستي على فراشه حشرجات غضائبه في الحمام، لقد غلبته الموجدة واستبدت به، والغضب شعلة من الجنون وشعبة منه، لقد تحاشيته مخافة أن ينالني منه إيعَاد أو تهديد، وإن امرأة مثلي أمام رجل مثله ولو شاخت قدرته هي كمثل البالغ في وجه طفل،.. ورأيته يعود إليَّ ولم أبارح ذعري مما كنت أسمعه، وإذ رأيته فقد سلمت أمري إلى الذي لا تخفى عليه غائبة، وليته ما عاد..
وكانت قبضة سميحة على المرأة التائبة قد خفت وقد جف في حلقها الماء، وأمسك صفوت بالمرأة في شدة هذه المرة يصرخ بها :
- ماذا جرى له؟! ماذا جرى لأبي؟
وأجابته بعينين شفيقتين تقول والدمع غالب محجريها :
- لقد جُنَّ،.. لقد جُنَّ الجواهرجي وغاب عقله..
في فيلا الحي اللاتيني..
شهد اجتماع الخدم في مطبخ الفيلا صخباً غير معتاد في هذه الليلة الشتوية الطويلة، هملت العيون بالبكاء على مهران في ذكراه السنوية، وتنافس آخرون في عد ظواهر سوء المعاملة التي يبديها لهم المنجم المتعجرف، وفاض الغضب فوق سور السرية، ولم تنجح الشكوى في تفريغ شحنات الانفعال، ومضت مظاهرة الخدم إلى حجرة حسنين الصحن فذهبوا إليه متقصدين متذمرين، استيقظ الرجل على هرج الخدم في حجرته، وأنيرت الأنوار فسمع كبيرهم يقول له :
- سيدي،.. لقد تقدمنا جميعاً بالاستقالة الجماعية ما دمت على استبقاء المنجم مصراً،.. كلنا اليوم رضوان..
لبس الصحن نظارته متداركاً الهرج والمرج بأعين تتردد على الغفلة والوعي وقد أدرك أن اليوم ليس كسابقه، لقد هاله أن يفقد الجميع في رمية وأدرك أن احتشادهم على كلمة سواء يضر بما كان يعتقده دائماً لنفسه وفي محيط فيلته من صَّوْلَةُ القرار وسطوة الفعل، قال :
- لا تجعلوا العاطفة تتغول على العقل، ولتبحثوا عن وسيط عدل بينكم وبينه، أعدكم بأن أشَدَّ عليه النَّكير..
وأبدوا التذمر والسخط الذي لا رجعة عنه، انعطف الصحن انعطافة كبيرة إلى مسار التخلص من عماد ولكنه حار في شأن الغجرية وروز، أطاحت الثورة العارمة بحكمة الألسنة فذهب أكثر الخدم مذهباً شددوا فيه على أن كتلة الشر واحدة، ونسيج الإفساد لا يتجزأ، غير أن كبير الخدم قال :
- ما كان رضوان أن يتحالف مع الغجرية لولا أنه توسم فيها شيئاً من أمارات الخير..
وجعل الصحن يستمع لحديث خادم آخر فيحول رأسه وقد بدا أن السلطة انتقلت من يده إلى خدَّامه :
- الغجر أهل سرقة واحتيال، لابد أن يكون غربالنا دقيقاً بعد اليوم، نجتبي ونصطفي..
وعاد خادم في طرف الحجرة يقول :
- بل فيهم وفيهم، ولهم وعليهم، شأنهم شأن سائر جماعات البشر، وقد سمعت من أنهار قولها الذي لا أزال أذكره لها بأن من قواعد الاختلاس عندها ألا تنشل الأخرس أو الأعمى..
وعاد المعترض يقول :
- هذا لكيلا يفتضح أمرها،.. لا تنزهاً وعطفاً على ذوي القصور والحاجات، إن إحساس الأخرس والأعمى بجسده فوق غيره..
وخلصوا بعد مخاض النقاش الطويل إلى استبقاء أنهار وروز وطرد عماد، ومالوا إلى شيء من الرشاد بعد إذ فارت منهم حمم التجاوز وحمية الغلبة،.. وقال الصحن معلقاً في الأخير :
- افعلوا ما ترون، واتركوني أنام..
نُقل الخبر إلى عماد سريعاً الذي كان يستحم في حمام الفيلا المترف فترك اللوفة، وقال معقباً :
- حقاً : "كلُّ العداوةِ قد تُرْجى مَوَدَّتُهَا إلاَّ عداوةَ من عَادَاكَ عن حَسَدِ" !
وتوقع أن تصحبه صديقته أنهار بعد طرده فخاب أمله فيها تقول :
- هاك مفتاح بيتي في شارع شجرة الدر، ستجد الغجر في حي غبريال ومحرم بك كذلك، وهم أهلوك ما داموا علموا بصلتك إليَّ..
وتلقف منها المفتاح فاتراً وهي تزيد تقول له :" وهذا يدلك على إعزازي لك.."، ولكن الدهش ما عاد ينزل بنفسه من طول ما خبر به من التجاريب، وما عاركه من ضربات الحياة التي جعلت الأسف نديمه وسميره، لقد روت له الفتاة يوماً عن مساكن الغجر المشيدة بالطوب الأحمر، والأخرى المبنية بالطوب اللبن، والثالثة المقامة بالقش والبوص، وهذا الحوش المتسع المتوسط تسكنه الأنغام والكلاب، أجل، لقد سمعت عن كل أولئك أطرافاً وذيولاً وفضولاً، واليوم هي في زينة وزخرفة، وبهاء وألق، ونعمة وآلالاء،.. أنى له أن تطاوعه في سبيل الشحة والخصاصة؟ لماذا تترك تل الثروة من أجل الفتات؟ إنها ذاتية اليوم مثله تماماً وقد تبدلت بينهما أدوار العوز والنعمة، ولكنها قرنت خروجها يوماً من الفيلا بخروج روز، وأنت دون القردة مثابة في ناظريها، وخيل إليه أنه يسمعها تقول للصحن في نبرة امتثال :"إني أطوع لك من بَنانك، سيدي.."، حتى الصحن كره أن يقابله يومئذٍ فلم يأتيه إلا قراره المجحف كالأقدار تتخفى وراء قناع أحوالها،.. ودع عماد الفيلا إذاً بعد إذ ألقى على تكوينها الشاهق الذاهب عنان في السماء نظرة وهو يقول في يأس:
- آمل أن تحل بكم اللعائن جميعاً..
وتعودته الندامة الداخلية وهو يتذكر انقطاع صلته إلى التنجيم، وقلة حيلته في عالم الأسحار والقدرة، ودلف إلى بيتها المتواضع بعد إذ مر بوعاء الماء العكر دون حماره النافق، وأدار المفتاح ذي الندوب الثلاث في فتحة الباب الأرضي، وجال ناظريه أسفاً في محيطه الجديد فاستحقر محتويات المنزل الشحيحة البائسة، وهاتيك الأغطية والأفرشة شديدة القذارة، ثم تلكم الأغراض التي كبتت وركمت، وأعاد أوراق التاروت إلى صندوق الخشب الماهوجني، لعنته التي أدت به إلى معرفة لذة النعيم ثم عمقت شعوره بالشقاء كتفاحة المعرفة التي خلقت في الإبراهيميات الخطيئة الموروثة،.. وكان قد احتفظ بلوفة الفيلا - كذكرى تعيد إليه قبساً من دنيا السعادة والرَّغادة - فألقى بها عالياً وهبطت على رأسه، وجلس على سرير سرعان ما أحدث صوتاً آية على تهالكه، هذا قبل أن يسمع من يدلف من الباب الذي نسي أن يوصده فنهض على مضض، وألفى جابراً - آخر من ود أن يراه الآن - قبالته فسعى في طرده أولاً ولكن الآخر انسل رغماً عنه وجلس وقد استحل لنفسه الجلوس يقول :
- وأين أنهار؟!
وروى عماد له وقائع ما جرى فألفى من محاوره الحسد والغبطة على أخته، قال :
- صحيح ما سمعته إذاً..
وحدق إليه يقول :
- كان يجب وفقاً للأعراف أن تُقتل، الفتاة التي ترفض العمل في النشل تكون منبوذة ويصح أن يحكم عليها بالقتل، علاوة على أنها أصرت على إقامة العلاقة بك أيهذا الأفرنجي، ووطأت تقاليد "الهنجرانية" بنعل الاستهتار في مناسبتين فصبت على النار زيتاً جديداً، أرادتها أمي من «الحجيات» ترقص في صحبة العازفين والمطربين ويجتمع حولها السمار، وانظر إلى أين انتهت وقد سفل بها الحال..
وأجابه عماد ساخراً وهو يأخذ ينام عن ميمنة فيضغ اللوفة على أذنه اليسرى :
- وفقتك الآلهة، أذهب وصارحها بأحوال مقتك عليها،.. دعني وشأني إذاً.
وساءه ألا يُستفز الآخر،.. سأله :
- هل بين الشقية وبين رب الفيلا المترف شيء؟
وتنهد الآخر في سأم يقول :
- لا أعرف الغيب، ولكن حسنين عجوز فوق أن تتخذه أنهار خدناً..
وتركه جابر يقول :
- لن تنعم بالسلام اليوم في غبريال، ثمة نزاع بين الغجر وبين الصعايدة من القناوية هنا، لقد وقع بالأساس بسبب شجار بين أطفال العائلتين، حقاً، معظم النار من مستصغر الشرر.
وسأله عماد وفي نفسه نزعة الذاتية لا تزال :
- وما شأني بالغجر أو الصعايدة؟
وهم جابر بالخروج من البيت بعد إذ احتفظ لنفسه بمنخل يدوي من صنائع أخته، خرج وهو يقول :
- ما دمت في بيت الغجر فأنت منهم.