الفصل العشرون : موعد عند كلية فيكتوريا
استقبلت صابرين عودة ابنيها من نزهتهما بحي لوران بقلب مفطور، قال عز مبادراً :
- لقد ضللنا في متاهات الأزقة والسبل بلوران، دلنا على شارع شعراوي باشا شاب من أبناء الأثرياء هناك، كدنا نفقد الأمل في العودة !
وقالت الأم حين استوعبت القصة :
- من أسف كيف يترك الأب طفليه يعودان وحدهما من الحي الغريب ! ولكن لاعجب إذا هو زائغ العينين غادر الوعد.. ماذا رأيتما هناك (تريد بيت منصف الدمرداش)؟
وتطوع عز بالجواب وكان محباً للوشاية :
- رأيت عجوزاً فاقداً للوعي هناك، وامرأة ترش على وجهه المياه توقظه مما هو فيه، يبدو أن كارثة حلت بالرجل،.. لم أحصل على القطار الذي كنت أريده !
انتقل منصف الدمدرداش وابنته سوسن إلى الحياة في حي العجمي إثر قرارات التأميم التي استهدفت مصانعه، ودّعت سوسن حي لوران وداعاً صامتاً، نشأ حي العجمي في مكان صحراوي بالإسكندرية تتناثر فيه الفيلات على نحو عشوائي ما خلا هاته الشوارع المقسمة بعناية : شارع البيطاش الرئيس، والهانوفيل، وشارع الحنفية، هناك (في شارع الحنفية) اشترى منصف الدمدراش فيلته التي التجأ إليها ملاذاً أخيراً، وهناك تكثر فيلات المشاهير والأثرياء، ولاحظ منصف حالة الوجوم على وجه ابنته، قال لها :
- إنها مرحلة عارضة، أعرف أن العجمي أمسى منتجعاً صيفياً معزولاً، ولكن لا بأس.. لماذا لم يحضر هشام في موعده؟! إن رجلاً لا يحترم موعده لا تثقي به أقل ثقة.
- يقول بأنه منشغل جداً..
يحضر الغائب وتتجول المرأة رفقته في شوارع بيانكي، وشهر العسل، والفردوس، قالت في خيبة :
- خلتك قد تركت وعودك لي بعد ما جرى لنا، إنه لزلزال نفساني لم أزل أبذل الجهد كي أعالج أثره،.. فلتنظر إلى الشوارع ها هنا، إنها غير مُعبدة ولا مرصوفة، نعاني مشكلات في الصرف الصحي والمياه والكهرباء،.. إلهي ! يشعر المتنقلون بين الطبقات الاجتماعية في عنف بمرارة في حُلُوقهم لا تنمحي أبداً، الأثرياء بعد الفقر، المحتاجون بعد الثراء، كل أولئك يضمرون صنفاً من المرارة الناتجة عن شعورهم بالاغتراب الاقتصادي والثقافي في بيئاتهم الجديدة ! يتراءى لي أن العمران في المدينة يتجه إلى الشرق، لقد كان لإنشاء الميناء الغربي والكورنيش دور في هذا، في الغرب (أي غرب المدينة) تركزت مستودعات الأخشاب ومخازن القطن وصوامع الغلال والموظفين، في الشرق (شرق المدينة) ثمة الأثرياء، أولئك الذين يتفادون الزحام والعمال وحركة البضاعة - يتفادنوها في ضاحية الرمل، زيزينيا، جليم، ولوران حيث كنا ننتمي، يوماً !
قال هشام مقتضباً :
- أنت امرأة ذكية، وستجدين السبيل بعد هذا المخاض، من المبالغة أن تنسبي حالتك الجديدة إلى الحاجة !
وأطرقت أمام المشهد الفوضوي بالحي، تساءلت :
- ألن نتزوج؟
وصمت طويلاً، قال :
- نحتاج إلى فترة استقرار تؤول بعدها الأمور إلى اتجاه واضح.
- هل تحتقر بيئتي الجديدة؟ هل أبدو لكَ مهيضة الجناح على نحو أن تؤجل الأمر وتختلق الأعذار؟
- رويداً، رويداً..
وواصلت المرأة المنفعلة سرد الأسئلة، قال منصرفاً عنها :
- سأراكِ في يوم آخر حين تهدأين..
وانفض اللقاء على غير ما بدأ، بزغت دواعي الخصام فتوارت صفحات الإعجاب القديم،.. وعدها الرجل بأن يتنزها بالعجمي في جو البهجة والمرح حتى وجه الصباح، في مطاعم وكازينوهات العجمي الساهرة، وبأن تشتري آخر صيحات الملابس من شارع بيطاش ذي الحوانيت المتجددة، وطال الوعد المعلق تحت سيف الشواغل التي لا تنتهي،.. لقد بدأت الزاوية بين الاثنين في الانفراج والابتعاد، ألا يُرجئ المرء وعداً قطعه إما من واقع عجز أو بسبب من الفتور؟.. وشعر الرجل بعاطفة جديدة نحو بيته القديم، وبات يترقب زيارته الأسبوعية بلهفة لم يعرفها مسبقاً، حتى آن اليوم المنتظر، وبدأوا من الملاهي تلبية لمطلب عز الذي يحب العربات المتصادمة، ألحت صابرين على زوجها أن يركب الأفعوانية الخطرة (قطار الموت)، قال هشام :
- لدي فوبيا (خوف مرضي) من الأماكن المرتفعة، إنني أفضل بيت المرايا !
قالت زوجه وفي نفسها هزو :
- على المرء أن يتحدى مخاوفه !
وصعدا سويا - دون عز ومريم اتقاءً للعبة الخطرة - وبدأت الحركة الملتوية صعوداً وهبوطاً، وحينذاك قالت المرأة :
- أخبرني بالحقيقة وإلا قفزت من هنا !
- أي حقيقة؟!
- حقيقة زواجك من سوسن؟
- لن أجيب تحت سيف الابتزاز هذا.
وارتفع المسار فجعل الرجل يصرخ ويصرخ، كان من بين الراكبين صبية ضحكوا من خوفه غير المبرر، حتى عز ومريم ضحكا على أبيهما من موقعهما الآمن على الأرض، وانتهت رحلة القطار الطائر فوق المسار الحديدي المعلق، قالت صابرين لزوجها وهما يتمشيان قرب هذا الأخطبوط الدوار :
- كنت منفعلاً غاضباً كهذا الأخطبوط ! (تشير بيدها إلى رأس الأخطبوط المرسوم منفعلاً، على الدوام..)
- متى نودع الملاهي؟
وبدا أنها تحب أن تراه في صورة المفزوع، قالت :
- ليس قبل أن نزور مدينة الرعب !
واستساغ الرجل هذا الحس المشاغب لزوجه القديم، وسألته في لحظة حقيقة وهما في حجرة الزجاج :
- ماذا جرى في بيت منصف الدمرداش؟! لقد أظهرني عز على ما لم أستطع أن أستوضحه.
- التأميم ! لقد خسر ثروته في يوم أغبر !
- فلترسل إلى سوسن أسفي لما حدث لها.
- حقاً؟!
- ...
عادت صابرين رفقة ابنيها إلى جناح فندق البحر، تغمر النفوس مشاعر طيبة، تزور صابرين حجرتي ولديها قبل أن يناما، تقترب من مريم فتقول بعد أن تقبل منها موضع الجبين، تنصحها بشرب اللبن :
- من الخير أن أراكي تبتسمين بعد أيام من الحزن الذي ما زلت لا أفهم سببه !
لا تزال تخفي مريم عن أمها حقيقة العربي الذي مات في سوق الورديان، تريد أن يختفي خبره فلا تذيعه.. أليس في إذعة الفواجع إحياء لها؟ لا يزال مشهد توديعه الجنائزي المهيب حاضراً : نحيب الفلاحات، تقهقر جاسر بعد جبروته، بكاء الرجلين : عبد الرحمن وسامي، ثمار البرتقال في كل نحو، أداة الصمود المبتكرة في وجه البطش والإكراه - كل أولئك يهز وجدانها بعنف، تتساءل في لحظة خلوة : هل حل الشاب الثري الذي دلها على شارع شعراوي باشا محله؟ تتذكر ساعة لاح من الفيلا في صورته الوسيمة المترفعة، لولا تدخل عز بأسئلته وترهاته لكان المشهد تجسيداً للكمال والمثالية،.. هل بعثت به الأقدار بديلاً لمن فُقد تمحي به أثر النائبة؟ لا.. لن يعوض العربي في نبل صفاته وظاهر سماته، لقد تحدى الآخر الموت في مشهد البطولة التي لم ينعم بشيء من ميزاتها، ووجدت نفسها بين الفقد والوجد حائرة، بين الورديان ولوران تقتفي أثر نفسها، لقد خلقت الأمل في الحب بعد لحظة الضياع الكامل عامدة، أنى لها أن تميز أنه الحب؟ كيف لها أن تنزهه عن أن يكون شعور زائف قد نجم عن نزوة مراهقة؟ ثم كيف لها أن تلتقي بشاب لوران إلا أن تضل الطريق مجدداً؟ ومهما يكن من أمر، من حقيقة الحب أو عدمه، فلابد أن تعثر عليه ففي عثورها تحقيق وسبر للحقيقة الغائبة، إلى هذا خلصت صامتة،.. كان سرير عز يقوم منها مقاماً مقابلاً، بدا أخوها لم ينم وقد أزال عن رأسه وجسده اللحاف ما أن انصرفت الأم عن الحجرة، وسألته :
- لماذا لم تنم؟
- من العسف أن أنام في التاسعة،.. أعرف فيم تفكرين..
-....
- شاب حي لوران الذي أنقذنا من التيه، ولم يترك على مكانه دليلاً،.. كأنما من كوكب هبط، سأعاونك على أن تجديه !
والتفتت إليه وقد تدثرت في ثوب اللهفة، قال وهو يمسك بورقة يرسم عليها بقلمه رسماً غير محكم :
- يقع حي لوران بين أحياء ثلاثة : السيوف، جاناكليس، وحي سان ستيفانو، إنها منطقة كبيرة يتعذر علينا أن نعثر فيها على نفر واحد، أعرف هذا حق اليقين، بل يعرفه كل ذي عينين.. لقد ذكر (يريد الشاب) في خضم ثرثرة أنه يدرس في كلية فيكتوريا، هذه الواقعة إلى جوار الحي، يبدو هذا طرف خيط لا بأس به !
وقالت :
- إلهي ! كأنما انتقلنا بين استحالتين ! يبدو البحث عن إبرة في كومة قش عملاً يسيراً بالقياس إلى ما تطلب..
ومال برأسه إلى الوراء فتبعثر نظام جسده بالتبعية، قال :
- بربك.. لماذا لم تسأليه عن عنوانه، رأساً، ودون مواربة ؟!
وقالت تستحضر أحوال اللقاء العابر:
- لقد احتجز الخجل لساني وقصف التردد عمر اللقاء القصير قبل أن أتلفظ بالأمر، بدا كل شيء آنذاك مداهماً يتقلب على صفحات الدهش والعجلة.
وجاء نهار الغد فوقف اثناهما أمام كلية فيكتوريا، وقفا في توقيت خروج الطلبة، وقال عز وقد انتحى وأخته جنباً بعيداً من تيار الخارجين :
- لقد تقصيت عن الأمر ملياً، إنها كلية الملوك والأمراء والمشاهير، إيتون الشرق، بغتة، وقبل سنوات أربعة انتهت التبعية البريطانية للكلية تزامناً مع نتائج العدوان الثلاثي (أزمة السويس)، واليوم عادت (الكلية) إلى التبعية المصرية وإن ظلت المناهج فيها على لغتها الإنجليزية، لاجرم أن الشاب بات يشعر بما يشبه الفصام جراء هذه الانقلابات المضطربة بين الهويتين !
وابتسمت، كادت تقول : "كيف يفيدنا تقصيك هذا؟! أنت تثرثر كثيراً بغير نفع،.. لسنا إلا تائهين في صحراء، نبحث عن نجمة قطب في أفق سماء ملبدة بالمشتتات.."، كادت تقول هذا كله أو بعض منه - لولا أن لاحت صورة الشاب وسط التيار المندفع فبرق قلبها بلمعة أمل، كان الشاب ذو القامة الفارعة يناجي فتاة أخرى وزادت نقمتها حين أبصرتهما يبتسمان، واستدارت عما رأت، واعتزلت ما تأذت منه، قالت لأخيها في صوت يتجشم عناءً :
- يجدر بنا أن ننصرف، نبدو كالأحمقين..
وفطن عز إلى ما جعل أخته تتخلى عن شغفها برؤيته ما قد رأت، قال لها يتابع حركة الشاب والفتاة بعينيه :
- عزيزتي.. هل يعني الابتسام الحب؟
وقالت وهي تأخذ تنصرف :
- لن أنتظر حتى أعرف الجواب..
استبقت مريم أخاها الرجوع، قضت دقائق العودة الأولى بجناح فندق البحر في بكاء.. كم صدمة بات يحفل بها القلب الصغير؟! العربي، ثم هذا الذي لم تعرف اسمه، تذكرت محنة الطلاق أيضاً، حين انفرط عقد الأسرة المخلخل فلا عاد يأتلف إلا في يوم يتيم كل أسبوع، وانقلب الميزان برمته رأساً على عقب، تتضافر الأحزان في نسيج واحد في خفة عجائبية، ستسلط المعاني على رأسك أصداء ما تفكر فيه.. وإنها لكذلك حتى طُرق الباب، فتحت بقلب مهيض، قال عز مبتسماً، ظافراً :
- لقد عثرت على عنوان الشاب !
اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات قصص
استقرت حياة يوسف وزوجه عفاف في باريس، ألح يوسف على زيارة معالم المدينة يريد أن يخلق جذوراً وألفةً في المكان الذي ارتحل إليه، ومن برج إيفل وقوس النصر مروراً بالبانثيون وانتهاءً بسراديب الموتى ومتحف أورسيه أخفق الشاب في مراده، وكانت عفاف تقول له:
- إن معالم أي مدينة تكمن في أناسها الأحياء، لا في آثارها الوالية !
وقال في فتور :
- إن الحق معك،.. لا أزال أرى الإسكندرية، إن شبح المدينة يطاردني في باريس !
- من الخطأ أن تقيم مدينة بمقياس مدينة أخرى، فلتستمع بخصوصية كل مكان.
- إن باريس مدينة مرهقة، وإنها لأجمل المدن طراً إذا أنتَ زرتها في إجازة لأسبوع أو نحو ذاك، وإما إذا زدت عن هذا فعسير أن تحتفظ بانطباعك الأولي عنها، لأن عيوباً جمة تنضح في ثوبها، وديمومة بها هي على خلاف البدايات،.. ماذا عن الحي السادس عشر حيث يقطن أكثر الفنانين؟
كان حسين دائم البكاء في الأيام الأولى من إقامتهما في المدينة الجديدة، أصابته الحمى وخشيت الأم من عواقب المرض في خضم الطفولة، ولكن الطفل برء في ليلة، وبلا إنذار، تماماً كما أصيب، وأبل من سقمه فبادرته العافية التي ابتهجت بها دون أن تشخص حالته، بدا زهير هادئاً، إنه يرسم اللوحات فيملأها بالأشباح والغموض والمبهمات، وسأله يوسف:
- ماذا تقصد بكل هذا؟! إنها غامضة حتى أن المرء ليتهيب منها.
يروى زهير له شيئاً عن مسدس بيكاسو الفارغ، هذا الذي كان يتظاهر بإطلاق النار به في وجه من يسأله عن معنى لوحاته، لقد قرأ عن الأمر في مكتبة المدرسة، يوماً، حين كان في الإسكندرية، قالت عفاف :
- لقد ورث زهير عنك التقعير والتحذلق، في فن آخر هو الرسم، سنحاول أن يجعله يلتحق بمدرسة الفنون الجميلة École des Beaux-Arts، هنا !
وقال :
- من النزق أن نحسب أن الأمور ستمضي دون معوقات، يجب أن يتعلم زهير الفرنسية أولاً، ثم أن يحوز جنسية البلد الذي هو فيه.
- يقولون بأنها (الفرنسية) لغة يسيرة التعلم، لا مشكل فيما يخص حسين إذ هو لا يزال طفلاً يتشرب لغة المكان الذي ينشأ فيه.
يسهل النوم في الطقس البارد فيغفل يوسف كثيراً، إنه يرى صورة من إسكندرية العهد الغابر، يقف اليوناني جوار الإيطالي، يقف الإنجليزي والفرنسي بعيداً في مفرق الطريق كأنما يحملهما تاريخهما الاستعماري على الانزواء ومفارقة الجميع، يلوح المصري بقطاره الغاضب، يسمع يوسف صوتاً لا يميزه : "دمروا الجميع ! دمروا الجميع !"، يتقدم القطار داهساً وممزقاً فلا عاد يبقى إلا الفلول والأشلاء، لا يصدق الشاب ما رأى فينتفض من منامه معروقاً رغم برودة باريس، تقول عفاف في نشوة غير واعية بمحنته :
- لن تصدق ما حدث اليوم..
وكان يوسف يجيب في هزو وهو المنفعل بحلمه المخيف :
- هل التقيتِ بشارل ديجول (رئيس فرنسا)؟
وقالت وقد تدثرت في ثوب فرعوني :
- أفضل من هذا، جارتنا تعمل في مجال الأزياء والموضة، إنها تتحدث الإنجليزية وقد أمكنني أن أتواصل معها صبيحة اليوم،.. تقول بأن وجهي ذا الصورة الفرعونية التقليدية يؤهلني للتفوق في هذا المجال إذ هو نادر في بيئة الوجوه القوقازية والسمراء المعتادة هنا، تقول أيضاً (جارتها) إن للفرنسيين هذا الشغف الدائم بتاريخ مصر القديم، وآية الأمر ما يلي : تظهر نفرتيتي، زوجة إخناتون، في اللوفر (تريد متحف اللوفر) مجسمة ظاهرة.. لا جرم أن مثل هذا الشغف سينسحب على هيئتي التي ستعيد بدورها إلى أذهان من يرى ملكات من طراز كليوباترا ونفرتاري، لقد أهدتني جارتنا هذا الفستان الأبيض الطويل، انظر إلى ذاك الحزام أيضاً، والرداء ذو الكمين تماماً كما كانت تلبس نفرتاري.. سأحظى بالمجد الذي أستحقه !
قالتها وقد برقت عيناها بلمعة، وقال يوسف يكاد يتجمد عرقه بسبب برودة الطقس :
- إن هذا لمن رابع المستحيلات.. لن يرضى أبي أن تظهر زوج ابنه على مجلات الأجانب، لو علم بالأمر صدفة ستكون ثالثة الأثافي (المصيبة الكبرى)،.. ولن أرتضي أنا بالأمر من قبله.
وقالت :
- بربك.. هل أضيع فرصة العمر لأجل الرجل الصعيدي المخبول؟ انظر إلى أين انتهى هو : أبو تيج، وإلى أين انتهينا نحن : باريس !
- فلتتحدثي عن أبي وما انتهى إليه بقليل من التواضع !
ولم تلقِ المرأة المتحمسة بالاً لاعتراض زوجها، انخرطت في حمية قاسية تصل بها إلى نحافة عارضات الأزياء في باريس، كانت تكتفي بالبيض المخفوق، والخبز المحمص فطوراً، وكذا السلطة الخضراء مع صلصة الزنجبيل، رفقة الدجاج أو اللحم، في الغداء والعشاء، وتعرفت على أرز السوشي فاسمترأت مذاقه واستطابت غيره من أغذية ثقافته الآسيوية اليابانية، إنها تتعلم الفرنسية فتتقن اللغة الرومانسية المنحدرة من الأصل اللاتيني - تتقنها بعد جهد جهيد، وتنذر طاقتها لاقتفاء أثر هذا الأمل الذي لاح لها من نافذة الصدفة في مدينة البرج الحديدي "إيفل"، وكان يوسف يقول منتشياً بصورتها الجديدة المتأنقة :
- إلهي ! تبدين كأول يوم التقيت فيه بكِ !
وكانت تقول على حين تدور حول نفسها في نشوة :
- سأكون وريثة أليس برين.. (تريد عارضة الأزياء الفرنسية Alice Ernestine Prin المتوفاة في 1953م) !
وتعرف يوسف في صبيحة يوم مشمس إلى مفاجأة بدت له سارة، كان يهبط الدرج وسمع غمغمة عربية كزوبعة هواء، فصاح بجاره يقول :
- إلهي ! أنت تتحدث العربية في باريس !
كان هذا جاره الجزائري "حمود" الذي أحسن استقبال يوسف في بيته ومعه جارهم الفرنسي الثالث "مارسيل"، وسأله حمود وقد راعاه أن يوسف يعجز عن فهم مارسيل الذي حياه :
- كيف حال إقامتك هنا ؟! أما زلت تجهل الفرنسية؟
- أبحث عن ذاتي هنا، يتفق للمرء أن يطارد مستقبله ولكنني لازلت أطارد الماضي،.. لا أجد الدافع الفعال يسوقني عن طيب نفس إلى أن أتعلم لغة القوم الذين ارتحلت إليهم،.. وأشعر بالعزلة من جراء هذا، كزهرة نبتت عفواً في أرض رملية، عملت مونولجستاً فترة في الإسكندرية قبل عهد الثورة، وأحب الشعر الحر، وأحياناً الموزون منه، وإن كنت لا أكتب أياً من الاثنين !
وقال حمود في حفاوة وهو يأخذ ينهض :
- إن هذا رائع حقاً.
وجاء حمود لضيفيه بكوبين من الشراب الغازي "كوكاكولا" خليق بإزالة حرارة الطقس، كان كوب يوسف أكبر حجماً علاوة على أن له يداً، وقال مارسيل في شيء من هزو يداري به حنقه، بلغة فرنسية تنساب أحرفها :
- "لا عجب أن تصطفي للضيف المصري الكوب الممتاز، إذ كان عبد الناصر يؤيد بن بلة وثورة التحرير.." !
وقال حمود في شيء من انفعال :
- "وما دخل "الكوكاكولا" بالأمر؟ آه ! يكاد المريب يقول خذوني، الفرنسيون أوائل من يعرفون جرم الاحتلال ولكنهم يكابرون.. (ثم وهو يعود يهدأ..) إن العالم بأسره يقف مع الجزائر لأجل قضية الحق أولاً، ما خلا أصحاب المصلحة في إدامة ذاك العسف !".
-"من العار أن تتهم شعباً بالانتهازية وأنت المقيم في بلادهم !".
- "إني لا أتهم شعباً..".
ولم يفهم يوسف الحوار الذي كان بلغة يجهلها وإن أمكنه أن يميز بعض المفردات، وساد صمت برزت فيه طبيعة باريس الرائعة، وأتاحت فترة الصمت ليوسف أن يفهم دواعي الخلاف بين الرجلين مترجماً على لسان الوسيط "حمود"، وقال يوسف وهو يبدل موضع الكوبين :
- ما أتفه السبب الذي أفضى إلى مثل هذا النقاش ! هاك الكوب الذي تريد..
وقال "حمود" يتخذ تصرف يوسف سبباً لإغاظة ضيفه الفرنسي :
- "انظر كيف يتصرف العربي بدماثة خلق..".
-"المصري والجزائري أبناء عمومة، يتسرب الغرور إلى أنفسهم ويركبهم الخيلاء، الأول يتصور نفسه قد انتصر في أزمة السويس على ثلاث دول، والثاني يعتقد في بلاده إمكانية التفوق الحضاري على القطب الفرنسي العالمي..".
واستحال النقاش إلى فرصة للتنابز، وقيلت بعض عبارات على منوال : "لماذا اختبأ الفرنسيون وراء تحصين خط ماجينو في الحرب الأخيرة؟"، "لولا الحملة الفرنسية لكانت مصر، والشرق بأسره، لايزالان يغطان في جهل العصور الوسطى وتخلفها.."، "فلتسأل خلافة العثمانيين عن السبب وراء تخلف العرب.."، "لماذا يترك العرب العثمانيون يحتلون بلادهم طوال قرون إذا هم على هذا السوء؟"، والتفت "حمود" إلى يوسف حين أفاق من غمرة النقاش العاصف فلم يجده، وهرع إلى خارج الباب كان يوسف يقف جنب أصيص الباب الخاص بشقته يهم بالدخول، وسأله حمود عن سبب انصرافه المباغت :
- إنني أحب بلادنا وفرنسا، وأكره أجواء الخلافات العاصفة !
وودعه حمود بقوله :
- من العصي أن توفق بين هذه المتناقضات في زمن كهذا الزمن !
عاد يوسف إلى بيته فاستقبله زهير يقول :
- Baba.. لقد رسمت هذه..
بدت لوحة زهير تجسيداً للحلم المخيف الذي رآه يوسف، إنه صورة الدمار الذي خلفه القطار الأهوج في ثقافات المدينة، انتفض يوسف عجباً، قال الابن مبادراً :
- لقد أظهرتني أمي على ما قد رأيت في منامك.. ما رأيك؟
وقال :
- سأصدقك القول : لم أكن أود أن أرى ما قد أثار فزعي، مجدداً !
- ستتخلص من المخاوف، هذه الكامنة في اللاوعي حين تبرزها في الواقع،.. إنها متعة الفن !
وقال يوسف بعد صمت، كأنما يتأهب لمونولج طويل :
- سأتخلص من المخاوف حين تعود الإسكندرية إلى ما كانت عليه، يقولون بأن ما جرى في مصر هو عين العدالة،.. إنه عدالة الغوغاء، يخيل إليَّ أن هذا القطار الذي رسمته أنت ورأيته في منامي لم يكن ممثلاً إلا للصلف والغباء والكبر والأنانية، لقد نشرت الأنا جناحيها كرخ أسود كريه فحجبت الضياء عن بلادنا المبتلاة.. أتعرف فيم كنت أفكر حين وقفت أمام برج إيفيل، ذاك المزار العالمي الفريد الذي يتهافت عليه الخلائق من كل حدب وصوب؟ لقد أبصرت فنار الإسكندرية موضع البرج الحديدي، سمني معتوهاً أو مجنوناً لكنني أقسم أنني رأيت البناء الأغريقي محل التحفة الفرنسية، انكشفت لي من الفنار تماثيله النحاسية العجيبة، كان واحدهم ذو جناحين يرمز للإله هرمس، إله النصر لدى اليونانيين، وآخر يشير بيمناه إلى الشمس ويدور معها فإذا غربت نزلت يده، وثالث يشير إلى البحر، إلى الجهة التي يأتي منها العدو،.. أكان هذا وصف المسعودي للفنار انبثق من لاوعيي أم أن الحقيقة جاءتني في لحظة انكشف فيها الحجاب؟ لست أعرف، ومهما يكن من شيء،.. كان الفنار دون البرج ارتفاعاً بنحو الثلث، أعلم هذا من واقع شغفي بالأثرين التليدين، أخذ قلبي يرتجف فقد خلت أن الحديقة من حولي، حديقة البرج، قد استحالت بحراً عباباً، كانت المسافة بيني وبني الفنار تبتعد، لقد صارت أميالاً وأميالاً، لعلها (الأميال) بلغت السبعين من ترتيب الأرقام، كنت مع طول المسافة أرى الضوء، ضوء الفنار، وانياً، شحيحاً، كأنه بريق أمل باقٍ، مثلما وصفه "ابن جبير" (رحالة عربي) يوماً، وبغتة، خفت الضوء، ودون إنذار، عادت الأمور إلى سيرتها الأولى، لقد استردت الحقائق وجودها في وعيي، بزغ هرج الزوار في الحديقة الخضراء، وانسحبت المياه من حولي تدريجياً كأنه لحظة الجذر العظيم،.. أعرف أنك تراني أبالغ حين أقول ما أقول، غير أنني، ولو من أجل الحق وحده، لمصور لك حقيقة شعوري.. أي بنيي : إني ليسعدني أن أراك ترسم على هذا المنوال من الإجادة، ولكن فلتصرف عني لوحتك الكئيبة إذ أن قلبي لا يزال يطفح من الألم جراء ما صورت بها من وقائع !
كان زهير قد أذهله استرسال أبيه وجديته الغريبة عن شخصيته المحببة، لقد عاد زهير إلى حجرته دون أن يفهم السر حقاً وراء انفعال أبيه، لقد مزق الصغير لوحته الأولى كل ممزق في غضب، وشرع يرسم أخرى، كانت لوحته الثانية تصور وصف الأب لشعوره، تخلط بين الفنار وبين البرج، في بناء جمالي واحد !