رواية الحسناء
كان هناك رجل أحدب يعمل خياطا في محل يقابل دار المالك الذي استأجره منه، وهو يعرف عرف بسرعة الغضب وقوة البأس، وله مطحنة إلى جانب الخياط يعمل فيها بين حين وآخر، بينما كان الخياط يعمل في محله يوما وقع نظره على صبية ممشوقة القد، جميلة العينين، تقف على شرفة الدار المقابلة له فأدهشه حسنها، وأذهله عن عمله، وقضى يومه وهو ينتظر الفرصة لرؤيتها كلما أطلت على الشارع، فيجلس قليلا أمام الباب حتى يسرع نحو النافذة ثم يعود إلى مقعده في صدر الحانوت، ثم ينهض فيغير مكان جلوسه، وهي تنظر إليه متعجبة من أمره، فيحسب أنها قد أعجبت به، وتعلقت بحبه، لم يستطع ذلك الخياط الأحدب النوم هذه الليلة، لكثرة تفكيره، وظنه أنها تعلقت به مثلما تعلق هو بها، وفي اليوم التالي، حضر إلى دكانه باكرا على غير عادته، ولكنه لم يبدأ عمله كما كان يفعل في كل يوم، وإنما وقف أمام الباب ينتظر رؤية الحسناء التي أحبته، فإذا بها تطل من شرفتها فتنظر يمينا ويسارا، ثم تستقر نظراتها على جارها الخياط فيزداد عجبها من أمره، وتشتد دهشتها عندما تراه قد ترك عمله، وجلس أمام الباب ينظر إلى شرفتها، فتبتسم ساخرة منه، فيبادلها الابتسام، وقد توهم أنها ابتسمت له، ثم يشير إليها إشارات لا تفهم لها معنى، فتدخل إلى غرفتها غاضبة مضطربة.
مضت أيام أهمل فيها الخياط الأحدب عمله، وانصرف إلى مغازلة جارته الحسناء، وكانت المرأة تكتفي قبل ذلك بإلقاء نظرة سريعة إلى الشارع، ثم جعلت تطيل النظر إلى محل الخياط وكأنها قد اعتزمت أمراً، لم تعد تتردد في الإجابة على إشارات الرجل المضحكة بالتحية الرقيقة، وأما هو فلم يعد يرى في الدنيا غير جارته الحسناء.
وبينما هو يراقب الشرفة ذات يوم وقد تعلقت بها عواطفه، إذ أطلت فتاته الحسناء وأشارت إليه إشارة فهم منها أنها سترسل إليه جاريتها، فسر كثيرا، وراح ينتظر الجارية بشوق، فإذا بها تحضر بعد قليل، وبين يديها ثياب كثيرة، وتقول له :
إن سيدتي تبلغك التحية وترجو أن تصلح لها ثيابها هذه.
ففرح الرجل بهذه المهمة، وانكب على عمله لا يرفع رأسه عنها إلا ليسرق نظرة نحو الشرفة، بقي على هذا الحال ثلاثة أيام متواصلة حتى أصلح الثياب التي أرسلتها المرأة إليه، ثم بعث بها إلى الجارية، فإذا بالفتاة الحسناء تطل عليه من الشرفة مبتسمة ثم تعود الجارية إليه وقد حملت أقمشة جديدة وتقول له :
إن سيدتي تبلغك التحية، وترجو منك أن تصلح لها ثيابها هذه.
فرح الرجل مرة أخرى بهذه المهمة، وانكب كذلك على عمله لا يرفعه رأسه عنه إلا ليرفه رأسه إلى الشرفة ليسترق نظرة سريعة، بقي على هذا الحال ثلاثة أيام كاملة حتى أنجز فيها الثياب التي أرسلتها المرأة إليها، وبعث بها مع الجارية فإذا بالفتاة الحسناء تطل عن الشرفة، وعلى ثغرها ابتسامة الشكر، ثم تعود الجارية وقد حلمت أقمشة جديدة، وتقول له :
إن سيدتي تشكر لك صنيعك، وترجو أن تخيط لها هذه الأقمشة.
ثم تطلعه على النماذج والأشكال التي تريد المرأة أن تصنع الأقمشة على طرازها فيأخذها فرحا ويبدأ العمل فيها فورا، كان الرجل فقيرا، لا مورد له غير ربحه من عمله اليومي، فانقطع بذلك مورده، وساءت حاله، وأخذ يبيع الأشياء القليلة التي يملكها ليأكل بثمنها القليل، حين أنهى ثياب المرأة أرسلها إليها مع الجارية وأرفقها بعواطفه الحارة، وتمنياته الصادقة، وفي الغد جاءته الجارية باكراً، وقالت له إن مولاي يدعوك إلى المنزل، فاضطرب وخاف خوفا شديدا، ولكن الجارية هونت عليه قائلة :
لا بأس عليك فإن سيدتي قد حدثت سيدي عنك وأخبرته بصداقتك لنا، وما تبديه نحونا من كرم ولطف، فأراد أن يقوي الصداقة بينك وبينه.
سار معها إلى المنزل، وإذا بالرجل يرحب به ويكرمه، ثم أحضر له ثيابه وطلب منه إصلاحها، فذهب الخياط إلى محله مستبشرا بالصداقة التي انعقدت بينه وبين زوج المرأة التي يحب، أخذ يصلح الثياب بكل ما عنده من جهد ومهارة، وما هي إلا أيام حتى انتهى منها، وحملها بنفسه إلى بيت جاره، فاستقبله هذا استقبالا حسنا، وسأله عن الأجر الذي يريده فأشارت إليه المرأة من بعيد ألا يأخذ منه شيئا، فقال له الخياط :
والله لا آخذ منك شيء..
فألح عليه الرجل ورفض وعاد إلى دكانه، جلست المرأة وزوجها تلك الليلة يتحدثان عن غباوة الخياط وغفلته ثم اتفقا على أمر ضحكا له طويلا، لم يكد الخياط يصل إلى دكانه في اليوم التالي حتى جاءته الجارية وقالت له:
إن سيدتي تريد الاجتماع بك هذه الليلة في المطحنة فأدخل إليها وانتظرها فيها.
فخفق قلب الخياط الأحدب لسماع هذه الدعوة، ودخل المطحنة فلما أقبل الليل فتح الباب ودخلت المرأة واقتربت منه وحيته همسا، ولكنها ما كادت تفعل ذلك حتى فتح باب المطحنة ثانية ودخل زوج المرأة واقترب منها قائلا بغضب :
ماذا تفعلين هنا؟
فأجابت وقد تصنعت الخوف والاضطراب :
إنني أطعم الثور.
فقال زوجها لها :
هيا ابتعدي من هنا، فقد جاءني رجلاً بكيس من القمح، يريد أن أطحنه له هذه الليلة، ليتسلمه في الصباح، لقد قلت لي إن الثور هنا، أين هو؟ ويحك أيها الثور اللعين لقد أمسكت بك أخيرا.
قال ذلك وهو يقبض على عنق الخياط، ثم جره وهو صامت خوفا من شعره ثم ربطه مكان الشعر، وأخذ يضربه بسوطه وهو يصرخ به :
هيا أيها الثور اللعين، أسرع، أسرع، يجب أن تنتهي من طحن كيس القمح هذا قبل الصباح.
وحين اقترب الفجر غادر الطحان المطحنة تاركا الخياط مربوطا على حجر الرحى، لا يستطيع الخلاص، ثم جاءت الجارية مسرعة وحلت وثاقه، وأخذت بيده إلى محله وقالت له :
إن سيدتي تعتذر منك، لما حدث بسببها، وهي ترى في سكوتك وتحملك والألم إخلاصا لها وصدقا في حبك لها، إن سيدتي تدعوك إلى زيارتها في منزلها لأن سيدتي مسافر إلى الخارج منذ مدة.
فخفق قلبه وذهب مسرعا فاستقبلته بالترحاب، ودعته بالجلوس، ولكنه ما كاد يستقر في مجلسه حتى دخل زوج المرأة مع اثنين من رجاله وصرخ به :
ويحك أيها الرجل الفاسق، أمثلك يدخل بيوت الرجال في غيابهم، ويتطاول على نسائهم، والله لن أدعك إلا عند صاحب الشرطة.
ثم أخذوا يضربونه وجروه إلى مقر الوالي فجلده وأركبه جملا، وأمر بأن يطاف به في المدينة فيشهر وينادى في الناس :
هذا جزاء الخائن الفاسق.