U3F1ZWV6ZTQ2MTMzMDkyMjMyOTgxX0ZyZWUyOTEwNDc0Mzc0ODg0Mg==

على درب الرحيل

الفصل الأول : على درب الرحيل

1952م..

نهض بهاء الدين من مخدعه - كدأبه في باكر الصباح - فأدار الراديو بعد أن خلت له ساحة البيت من الأبناء، وتعكز على عصاه في غمرة تشوشه حتى أضاء النور، كان ضياء الصبيحة ضعيفاً وانياً حد أن الرجل احتاج لمصدر صناعي بعد المصدر الطبيعي، واستوى في جلسته على السرير في حضور نبت الفل الذي يقترن نموه أو ذبوله بحالة صاحبه، وعلا صياح الديكة فاستبشر لمرور الملائكة،.. وأصاخ السمع فسمع شيئاً عجيباً كل عجب، كان بيان تلاه الضابط المصري أنور السادات - نيابة عن أصحابه - على الأسماع يقول فيه :" وعلى ذلك فقد قمنا بتطهير أنفسنا وتولى أمرنا رجال نثق في قدرتهم وفي خلقهم وفي وطنيتهم، ولابد أن مصر كلها ستتلقى هذا الخبر بالابتهاج والترحيب."..! وطاف في خاطره من فوره خواطر كثر، واجتاحته عاصفة الحماسة والقلق، فهبط من فوره إلى الكورنيش حتى بلغه من طريق محطة مصر فمحطة الرمل مترجلاً، وقد أراد أن يرى للحقيقة ظلها المرئي بعد المسموع، وهناك رأى الدبابات تروح وتجيء على طول الكورنيش والناس يصفقون لها في سعادة حقيقية،.. وكان يوم أربعاء وحضر عبد الغني ومعه ابنه فؤاد محمولاً عل ذراعه ومراد في يوم راحته، فقال بهاء الدين للأول وهو ما يفتأ يفتح حانوته :

- ها قد صدق حدسك،.. لقد قلب الطاولة من يمسك بركائزها، إني أراك قد فزت في يانصيب السياسة !

وبدا عبد الغني جاهلاً بحقيقة ما جرى وإن أبصر عند مقدمه حزمة من الدبابات لم يفسر تعلة انتشارها، وكان قد دأب على رؤية دبابات الجيش الإنجليزي، فأورثه مشهد الدبابات على إطلاقها تذكرة بأحداث جسام كان قد مر بها تتصل بهجرته فوفاة أبيه، ومرت واحدة فجعل يهتف في سرور :

- إنها دبابة مصرية !

وانتقل به السرور إلى أن شارك الضابط المصري مجلسه فيها رافعاً علامة نصر، وكان الضابط من التساهل على نحو أغراه أن يمضي بالمركبة المدرعة رفقته، وساد مناخ من الوئام انبعث من حقيقة استخدام أداة الحرب وسيلة للنقل،.. وأظهره بهاء الدين حين عودته على الأمر الجاري الجديد فأعاد على أسماعه تشبيه الطاولة الصغيرة والأكواب الثلاثة، إنه تشبيه له عمر بضع سنوات ابتعثه بهاء الدين لوجاهة محدثة اكتسبها من تحققه، وبدا احتفاء مراد بالخبر فوق احتفاء عبد الغني وأبيه، وقال عبد الغني لمراد :

- فلتذهب بأميرة إلى الروضة  !

وبدا التذمر على مراد الذي قال في لغة جسد غاضبة :

- ولماذا لا تضطلع الأستاذة هدى بالأمر؟

وكان مراد قد اكتسب بمرور الزمن والتجارب مساحة أمكنته من الإفصاح عما يضجره، وقال عبد الغني وهو ينفض التراب عن قطعة أثاث منجدة بمقاش أحمر مطرز بخيوط ذهبية اللون ثم يسلم فؤاداً لجده وهو ينظر للمشربية الفارغة :

- هل تريد منها أن تترك شغلها بالإبراهيمية لأجل حضانة ؟!

وكان مراد يغمغم :"بل أروم العمل وكسب الرزق في يوم عمل إضافي،.. وغداً تقضي الحركة على الطبقة وتنتصر لنا.."، وسمع بهاء الدين غمغمة مراد فقال ضحوكاً :

- فواعجباً ! صرنا أنا وعبد الغني من أبناء الطبقة،.. طبقة الأشقياء ولا ريب !

ومضى مراد إلى أن دلف بيت هدى فألفى أميرة وحيدة فيه، وكانت من القلق والصغر إلى نحو أن تكاتفت عليها الفكر، وسألته وهما يسيران وسط المركبات المدرعة :

- وما وظيفة الدبابة؟ ولماذا تتنوع بين مصرية وبين إنجليزية؟

وقال :

- إنها سلاح حرب ودفاع،.. هذا لأن بلادنا محتلة منذ زهاء سبعين عاماً !

- وما الداعي إلى نشر الدبابات بالسبل؟

- إنها تردع المعترض،.. وتبسط الأمان، إنكِ لم تبلغي من النضج ما يؤهلكِ لأن تفهمي هاته الأمور !

وواصلت كأنما دفعتها عبارته إلى الاستزادة في عناد :

- ومن المعترضون؟

- في كل تحول ثمة رابحون وخاسرون، وقد جُبل الإنسان عل أن يدافع عن مصالحه فلا يزن الأشياء إلا بمقياس النفع والضرر، وقلة من تتجرد كي ترى الحقيقة !

واعترضت بعض جدائل شعرها عينيها فأزاحتها تقول :

- وما معنى المصلحة؟ إني أريد جواباً كالكبار دون تبسيط.

وابتسم يقول :

- امتداد لبقاء مهدد، وخير يُستجلب، ودعم لموقف قلق..

وقالت وقد اختلط عليها الأمر :

- يبدو أن لديك إجابة عن كل سؤال،.. هل سأكون مثلك حين أكبر؟

وأشار إلى باب الروضة المزين بالبالونات والرسوم :

- بل حين تقصدين إلى هناك بغير تذمر، ثم تسخرين جهدك لما بعدها من مراحل التعليم !

ورنا إليها الفتى بنظرة عطف ثم تذكر أمها هدى وكيف ناصبته العداوة بلا سبب وقال في صوت مسموع كأنما نزعت به نفسه عن المناجاة الصامتة في اليوم الحافل :

- ما أرقها.. (ثم وهو يلتفت عنها حين دخولها..) هذا لأن أولاد العميان يولدون مبصرين !

وعاد بهاء الدين إلى بيته فاستقبلته فاطمة تقول :

- أرأيت ما حدث؟

وقال وهو يجلس، وكانت متابعة الحدث طوال يومه قد أزالت عنه انبهار المفاجأة بالحدث :

- أجل، غداً أو بعد غد ينتهي دور الملك أيضاً !

وقالت على حين تتوقف برهة عن غسل الأطباق :

- أنت تكره الأسرة العلوية كُرهاً جلياً !

وقال بينما يأخذ ينهض من مجلسه :

- أحب الخديوي إسماعيل، وأستطيع أن أمرر شدة محمد علي في بناء الدولة الحديثة، ولكن فاروق كان يجب أن يرحل !

وقالت وهي تأخذ تجلس بعد أن يتولى الرجل عنها غسل الصحون :

- معك حق، لقد سُجن يوسف من أجل مزحة ! وهل سيعهد الملك إلى النحاس بإنقاذ الأوضاع؟

- لا أعرف، إنه رجل (يريد النحاس باشا) شريف نزيه لا يتصرف إلا في حدود الدستور، ولكن الحوادث وطوال أعوام مضت استهلكته، وقد يكبر على فاروق أن يستعين بخصيمه في محنته !

وتألقت المعاني في المساء الخريفي بمعاني الأبدية العميقة والسرور المنزه، وخيل إلى الزوجين أن شطراً غير يسير من مشكلات البلاد قد انزاح عن كاهلها،.. وكان يهاء الدين - بعد أن ترك غسيل الصحون - يطوف على جدران النوافذ حيث ينتشر الفل فيبسط الماء بيديه على النبت المتسلق دائم الخضرة، وكان يتحمس للأمر تحمساً نزع به عن استخدام عصاه فكأنما أورثه رشاقة وخفة حركة، وكانت فاطمة تقول وهي تتبع حركته بعينيها :

- إن الطبيعة تغدق علينا إغداقاً وسيعاً، إنه سحر النبات حين يأخذ ينتشر، والخير - كالنبت - يشق سبيله في أحلك الظروف، تضع القليل وتحصل على الكثير،.. لقد رأيت في منامي اليوم مروجاً من شقائق النعمان وقيل لي : فلتأخذي منها ما يعينك على الروماتيزم، حتى إذا نهضت عدت كصبية الأمس.

 وتشجع لحديثها الذي بدا طلياً على أسماعه، ثم تنهد جالساً على أريكة من خشب - كالذي بذل جهداً فائقاً - يقول :

- انظري إليَّ كم بت أشهق وأزفر لأجل العمل الهين ! إنه العمر يزحف بلا هوادة ولا تؤدة،.. وحق لي أن أستريح في آخر المطاف !

والتفتت إليه فكأن وجهها بات يحمل سؤالاً :"ماذا تقصد؟" فأزادها الرجل من الشعر بيتاً :

- لقد صدقت عزيمتي على أن أبيع حانوت الأخشاب واستبدل بثمنه بضع قراريط، إني أهفو إلى سلام الريف بعد عقود عشناها في صخب المدينة !

- وماذا عن الأبناء؟

- سوف يدبر الأبناء أمرهم بأنفسهم، اليوم أو غداً.

وكانت إشارة إلى الموت وهاتفه الذي يقترب في رحلة العمر وما يتحقق بعده من استقلال الأبناء عن آبائهم، ونشط بهاء الدين إلى تنفيذ مقترحه وإن استأخر ميقات الرحيل حالما يخرج يوسف من محبسه، لقد ابتاع الأب أرضاً بأًصقاع الصعيد في أسيوط حيث محل نشأته، وضرب حولها الأسوار كأنما رام عزلة ينعم فيها بهدوء وسلام، واعترضت هدى وصابرين الفكرة في أسف ووجوم،.. وكانت هدى تقول له :

- عجيب أن تترك الإسكندرية في مثل هذه الظروف !

وكان يقول لها :

- أي عجب في أن تعود الجذور إلى أرضها؟ إنني صعيدي قبل أن تنفتح عيناي على أضواء المدينة، واليوم أنا على درب الرحيل.

وسألته صابرين :

- وماذا عن الملاريا؟ وأشباح الأوبئة التي تطل بعنف بين آن وآن؟

- لقد تقدم الطب كثيراً طوال الأعوام الفائتة مثلما انحسر المرض.

 

ظهر السبت 26 يولية 1952م..

وكانت زيارة الأب إلى يوسف في محبسه تفيض بالحميمية والعطف، أظهره على نيته مغادرة المدينة فاعترض أولاً ثم قال كأنما أراد الإشارة إلى حالته :

- إنني أتفهم رغبتك في هذا، إن الإسكندرية تبدو مخيفة في أحوال وقد تدفع الثمن لأقل هفوة !

وقال الأب :

- ستحفل الأعوام القادمة بتغير اجتماعي وسياسي شامل، ولا أستبعد أن ينقلب الهرم الاجتماعي رأساً على عقب..

وعلا صوت راديو السجن مذيعاً نبأ مغادرة الملك للبلاد بعد نزوله عن عرشه مصداقاً عجولاً لقول الأب، فقال الأب في حماسة على حين سادت الجلبة بين النزلاء في ربوع السجن :

- سيكون من العبث أن تستمر في أداء عقوبتك هنا لأجل مزحة تعرضت لملك راحل،.. في ميدان التحرير ارتفعت قاعدة من الجرانيت دون أن يثبتوا عليها تمثال الخديوي إسماعيل البرونزي الفائز في مسابقة النحت الأخيرة، إن في هذا إشارة إلى أين تسير الأمور.

وقال يوسف مبتهجاً :

- آمل أن أخرج من هنا في أقرب الفرص،.. إني أنتظر وليداً يأتي !

وتضرج وجه الأب بحمرة عجب وسرور، فكأنما يسأله :"وكيف وأنت في السجن؟، وأجابه يوسف :

- جاء ميسرة بخبر اشتداد أعراض الحمل على عفاف في مقهى عبد الكريم، كان المخاض قد أوشك يجيئها آنذاك.. ولكنه لم يجدني لأن ضابطين قبضا عليَّ وساقاني إلى هنا - أقول بأن ضابطين فعلا هذا كانا أسبق منه ( ميسرة) مقدماً إليَّ !

وانتهت الزيارة فجعل يوسف يقول لأبيه :

- فلتقصد إلى أسيوط ولا تنتظرني،.. سأكون عل ما يرام، وسأبعث إليك بالرسائل متى أحتجت أمراً أو اشتد عليَّ هاتف الطلب !

وعمل الأب بنصيحة الابن مثلما أورثه التحول السياسي ثقة بمستقبل نجله، وسمع عن مشهد رحيل فاروق عن مصر على ظهر باخرة المحروسة فسلمه الأمر إلى قناعة مفادها أن خروج الابن مسألة حتمية، وملأته طلقات المدافع المودعة الممزوجة ببكاء الخدم والحاشية قلبه بطمأنينة حيال مستقبل نجله الحائر،.. وكان يجمع بعض مقتنياته الخاصة على ظهر الحنطور استعداداً للسفر رفقة فاطمة، فيجيئه بعض العابرين يسألونه عن وجهته، ويجيبهم :

- إلى قطار يصل بي إلى قلب الصعيد !

وكان يسمعهم يقولون :" هذا لأن الرجال الطيبين لا يعمرون طويلاً في مكان!"، بينما تتحرك العربة محدثة صلصلة فوق ضجة بائع العرقسوس الذي كان يدق أقداحه المعدنية كيما يجذب انتباه العابرين إليه !

 

 اقرأ أيضاً :

 

الفصل الثاني : لا ينبغي أن يكون للحب ميقات

 الفصل الثالث : ما تغيره الأيام

 الفصل الرابع : عبير الحرية

الفصل الخامس : حين بزغت أنوار الفجر

الفصل السادس : القلب يهفو إلى اللقاء الأول

الفصل السابع : خديعة في الميناء الغربي

الفصل الثامن : امرؤ بلا جذور

 الفصل التاسع : حين يجيء المساء

  الفصل العاشر : عرس سعيد في الورديان

 الفصل الحادي عشر: الكأس والوصية

 الفصل الثاني عشر : ميلاد المدينة من حلم

الفصل الثالث عشر : فجر جديد

الفصل السادس عشر : إنما الأيام مثل السحاب

 الفصل السابع عشر : أكاليل من الحب

الفصل الثامن عشر : غريب على باب الرجاء

 الفصل التاسع عشر : حديث السلطة

 الفصل العشرون : موعد عند كلية فيكتوريا

 الفصل الحادي والعشرون: رماة الأحجار في حيَّنا

 الفصل الثاني والعشرون: لقاء الرئيس في الريف

الفصل الثالث والعشرون : مفاجأة على أضواء الألعاب النارية

الفصل الرابع والعشرون : الاتحاد الاشتراكي ومنافذ الحرية

الفصل الخامس والعشرون: سطور عن الحياة في باريس

الفصل السادس والعشرون: أميرة تعود من المساكن الحمراء
  الفصل السابع والعشرون: عضني الاكتئاب ! 
الفصل الثامن والعشرون: رقصة تشارلستون في حفلة لويس
الفصل التاسع والعشرون: أباظة ينتصر لفلاحات الورديان
الفصل الواحد والثلاثون : لويس يشتري لوحة البرج والفنار
الفصل الثاني والثلاثون : خيالات أحلام في حرب اليمن
الفصل الثالث والثلاثون : هل يُنسى الحب في تنورة الدرويش؟
الفصل الرابع والثلاثون : أوديب ومعضلة المصير
الفصل الخامس والثلاثون : شجون مجسدة في عصفور الكوكاتيل !
الفصل السادس والثلاثون : لعنة كحذاء الطنبوري !
الفصل السابع والثلاثون : وجه يتحدى الزمن
الفصل الثامن والثلاثون : تقرير المصير
الفصل التاسع والثلاثون : حمام كليوباترا
الفصل الأربعون : مسيرة الحياة
الفصل الواحد والأربعون : آلهة الجمال
الفصل الثاني والأربعون : مشكلات العرب
الفصل الثالث والأربعون : اجتماع الجبل
الفصل الرابع والأربعون : همس الحب
الفصل الخامس والأربعون : قصة رودوس
الفصل السادس والأربعون : حلم في سيسيل

 اقرأ أيضاً : 

الفصل الأول : على جندول البندقية

الفصل الثاني : حب تحفه القناديل العائمة
الفصل الثالث :  عباءة أثينا سقطت على أكتاف الإسكندرية
الفصل الرابع: نافورة بختشي سراي !
الفصل الخامس : ورأيت رقصك كالجنون
الفصل السادس: حزمة من الذكريات
الفصل السابع: لعنة المدينة
الفصل الثامن: زناد الحب
الفصل التاسع: شيفرة الجمال
الفصل العاشر: مبادرة روجرز
الفصل الحادي عشر: رحلة في فلورنسا
الفصل الثاني عشر : أيام فاترة في البحر الأحمر
الفصل الثالث عشر : ذكرى الثأر
الفصل الرابع عشر : النهضة المصرية
الفصل الخامس عشر : قلب كارمن
الفصل السادس عشر : حديث الغريب
الفصل السابع عشر : لذة الحياة المنعمة
الفصل الثامن عشر : روح التمرد
الفصل التاسع عشر : زواج سري

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق