U3F1ZWV6ZTQ2MTMzMDkyMjMyOTgxX0ZyZWUyOTEwNDc0Mzc0ODg0Mg==

نشوة على سور الكورنيش

                                                       الفصل السابع والثلاثون:

 نشوة على سور البحر




وظل بكر على حاله من التفكر والتقلب حتى  غلب صوته المحرض الأثيم على ذاك المعاتب النزيه، وفكر في حيلة يتوقف معها القطار قبل توقفه المعتاد في المحطة التالية، كان قد تعرف على أشباهه من المتهربين من دفع التذكرة، المسطحين من أمثاله فوق سطح القطار، هؤلاء الذين طفقوا يتغنون، ويهذرون، ويتلاسنون، فيما خلد فريق منهم إلى النوم، فسألهم يقول :

- إني أروم التوقف ههنا.. (فلما لم يجد منهم استجابة طفق يصيح أكثر..) بطني تؤلمني، افعلوا شيئاً، سأموت، هلموا !

وأشفق المتهربون على صاحبهم المتأوه ففعلوا له - صنيعهم الذي دأبوا على الإتيان به متى راموا إيقاف القطار -  إذ فرّغوا فرامله من الهواء، فلما توقفت المركبة - التي بدا أنها كأنما كانت تمضي في سبيل بلا نهاية - هبط بكر إلى الأرض التي تشربت حرارة النهار ومعه بؤجة الطعام يمضي بها، وذرع نطاقاً معشوشباً ثم فزع إلى بناية مهجورة اختفى فيها، وسمع لصفير القطار الذي كان قد استأنف المسير، كانت البؤجة - المكونة من قطعة من الحرير مربعة الشكل رُدت أطرافها الأربعة وعُقدت - تحمل إناءً معدنياً، كبير الحجم، وأزال غطاءه فكشف عن بط وأرز، وانبرى الشاب يأكل في ذاك البيت المهجور من الصنفين ما ملأ به بطنه، وقد عدم من ملعقة، وحتى لقد كان يستخدم أصابعه الثلاثة في القبض على كتل الأرز، وجعل يتلَمَّظ الأكل تلمُّظ الجائع.

 

وبعد أن امتلأ بالطاقة تعينه على ما تبقى من أسفاره، أصابه لون من الخمول الذي حبب إليه النوم، كانت عيناه تنعسان دون أدنى قدرة على المقاومة، وأيقظه صاحب البيت المهجور بعد ساعة أو اثنتين بعصاه يضرب بها قدمه، فآلمه الأمر الذي تنبه به وأخرجه عن دائرة غفلته، ومضى هرباً من الرجل فلما خلا إلى نفسه تذكر أمر البؤجة، فكأنما صب عليه ضميره سوط عذاب، ولقد تمحَّل في سبيل مأربه، وبئس ما يبدأ به الإنسان عهده أن يحتال ويتمحل ! وتذكر أباه نوحاً يوم كان يلقنه في حوش البيت آداب السلوك والحياة  :

- "يخبرنا النبي العدنان محمد بأن البِر لا يَبلى، والذنب لا يُنسى, والديان لا يموت..".

فأصابه الخزي والخذلان من نفسه،.. وتنقل عبر أكثر من وسيلة حتى نزل بمحطة مصر، وهناك حدس بأن بما لاقاه من وعثاء السفر وصراع الملائمة لم يكن إلا البوابة المسحورة لحياة أفضل كتصادم نجمين تتناثر - بسببه - أطنان الذهب في الفضاء، ستغفر له تسنيم رعونته في تركها ليلة العرس، مثلما ستمرر المرأة المختمرة خطيئته في سرقة طعامها، أجل، لشد ما هو مسكين، متطلع، مستحق للغفران ! وعاد يستحضر حديث عز له على محمل الجد والإمكانية هذه المرة :

- "ستجيئني يوماً، سأستضيفك بالإسكندرية، في كبائن الفردوس، أو مكسيم، لدي رغبة في السكنى هناك، وحين تحضر ستكون رغبتي هذه قد تحققت، سيكون الخاتم علامة كيما أذكرك، لا تضيعه.".

وقصد إلى ذاك الوصف الذي حدده له عز يوم التقى به، وصعد الشاب الدرج إلى الطابق الثالث راقص القلب طرباً، بعد أن استرشد بسؤال الجيران، كان النهار قد انقضى، أوت الشمس إلى خدرها، وألفى بعد أن طرق الباب وجه الرجل (عز) الذي يعرفه - ألفاه مختلفاً في غمرة من الحزن، وبادره عز إلى تحية خافتة، سأله بعدها عن مراده، وقال بكر كالمرء يروم تذكير صديق قديم له بهويته التي التبست عليه بعد أن انقطعت الأسباب بين الاثنين حين من الدهر، بقلب خفاق، وصوت مُشبع بالمسرة :

- إنني بكر، التقيت بك صدفة في يوم عرسك بأطفيح، لقد أنقذتك يومئذٍ من التيه !

كان عز على حال من تواشج الهموم حتى أنه لم يعر قولته اهتماماً، فعده صبياً لاهياً عابثاً، كأولئك الذين يدقون على أبواب الجيران ثم يهرعون في خوف، مغتبطين بما يحدثونه من فوضى وارتباك، وكانت صورة الفتى قد تبدلت قليلاً لما خَمَصَ الْجُوعُ بدنه فصيرته لياليه التي لم يذق فيها ذواقاً دون ما هو عليه حقاً، وضعف ضعفاً شديداً فغدا كالمهزول.. وقال عز بينما يغلق الباب كأنما برم منه :"معذرة، لقد اخطأت العنوان.."، ولم يفقد بكر أمله في اللقيا - رغم ما ألفاه من عزوف وصدوف - فعاد يطرق الباب في شدة هذه المرة، وفتح له عز وقد استحال الحزن غضباً، فبادره بكر يقول، يرفع يمناه ومعها الخاتم الفضي :

- معذرة، فلتنظر إلى ذاك، أهديتني إليه في عين اليوم الموصوف، علامة استرشد بها إليك، وعدتني باستقبال في مدينتك !

وهنالك استحضره عز فأدخله إلى بيته وقد اتسعت حدقتاه، الحياة تأبى إلا أن تفاجئه، بين تقلبات السرور والأحزان رغبة الطبيعة الأعمق قي التغير والتبديل، وسُرت به نور كل سرور لما كان عليه من فرط الطاقة، ولما أبداه من الشغف، لقد بدا بكر مولعاً بأن يزور كل موقع في الإسكندرية، أن تطأ خطاه كل رقعة فيها، ثم أن يلج في كل زقاق ودهليز وحارة، وقد وقع في محبة المدينة حباً لازمه من أول نظرة، لقد كان على هذه الحال حتى أنه آنس الفتاة (نور) في محنة الجمود التي نزلت بها بعد أن كُسرت ساقها، صحبه عز يومذاك إلى الكورنيش بغية أن يحقق أمله الحبيس، ونزولاً لدى طلبه الكظيم، ووقف بكر على هذا السور الذي يحجب البحر عن العمران فاراداً ذراعيه، واندفع رذاذ الموج في هبة جاز فورانها هذا الحائل القديم فبللت وجهه المتحفز، وأصابت خصلات شعره الأصهب، انتشى بكر مبتسماً، يوصيه عز بالتزام السلامة والحذر، بغيرهما في مدن الحضر لا يقوم الأمر لفرد ولا يدوم،.. ولكنه (بكر) يهرع فوق السور بعيداً منه يتفادى الجلوس مترعاً بالبهجة الخالصة. 


 

 

 

 اقرأ أيضاً : 

الفصل الأول : على جندول البندقية 
الفصل الثاني : حب تحفه القناديل العائمة
الفصل الثالث :  عباءة أثينا سقطت على أكتاف الإسكندرية
الفصل الرابع: نافورة بختشي سراي !
الفصل الخامس: ورأيت رقصك كالجنون
الفصل السادس: حزمة من الذكريات
الفصل السابع: لعنة المدينة
الفصل الثامن: زناد الحب
الفصل التاسع: شيفرة الجمال
الفصل العاشر: مبادرة روجرز
الفصل الحادي عشر : رحلة في فلورنسا
الفصل الثاني عشر : أيام فاترة في البحر الأحمر
الفصل الثالث عشر : ذكرى الثأر
الفصل الرابع عشر : النهضة المصرية
الفصل الخامس عشر : قلب كارمن
الفصل السادس عشر : حديث الغريب
الفصل السابع عشر : لذة الحياة المنعمة
الفصل الثامن عشر : روح التمرد
الفصل التاسع عشر : زواج سري
الفصل العشرون : وصية الفراق
الفصل الواحد والعشرون : على مقهى الشابندر
الفصل الثاني والعشرون : صاعقة الحب
الفصل الثالث والعشرون : زيارة إلى كفافيس
الفصل الرابع والعشرون : مشتت بين البلدان
الفصل الخامس والعشرون : الوفاء لمن رحل
الفصل السادس والعشرون : قلبي يحدثني بأمر
الفصل السابع والعشرون : يوم أغلقت منافذ الحرية
الفصل الثامن والعشرون : يوم صدق الوعد
الفصل التاسع والعشرون : لحن حزين
الفصل الثلاثون: شبح الموت
الفصل الواحد والثلاثون: الأحلام الكاذبة
الفصل الثاني والثلاثون: ترجمان الأشواق : لقد صار قلبي قابلاً كل صورة
الفصل الثالث والثلاثون: موعد في أقدم مطاعم باريس La Petite Chaiset
الفصل الرابع والثلاثون: محاولة لسبر أغوار الإيمان في مسجد العمري!
الفصل الخامس والثلاثون: الحياة لتي تستمر
الفصل السادس والثلاثون: السفر إلى الحياة الجديدة
الفصل الثامن والثلاثون: الحب ولوعة الندم
الفصل التاسع والثلاثون: غضب في المكس
الفصل الأربعون: لابد للحياة من مخاطرين
الفصل الواحد والأربعون:  كوخ رائع في قلب البحر
الفصل الثاني والأربعون: علموني عينيكي
الفصل الثالث والأربعون: الثالاسوفوبيا
الفصل الرابع والأربعون: مشاق الاغتراب في الكويت
الفصل الخامس والأربعون: سعداء لكونهم من هم

 اقرأ أيضاً : 

الفصل الأول : الحقيقة المستورة
الفصل الثاني: الانتقام ممن لا ذنب له
الفصل الثالث : ليس في حياتي ما أخفيه
الفصل الرابع: قفص من ذهب ! 
الفصل الخامس : ما لا نبوح به
الفصل السادس : فراق بيني وبينكم
 الفصل السابع: مشكلة بسبب كتاب قصة الحضارة
الفصل الثامن: كدت أفقد الأمل في لقياك
الفصل التاسع: نوستالجيا الماضي وليالي الأنس في فيينا
الفصل العاشر: حوار على مقهى إيليت
الفصل الحادي عشر: ما بعد عهد الصبى
الفصل الثاني عشر: ها قد ذقتُ من كأسك
الفصل الثالث عشر: لقاء على أجراس كنيسة العذراء
الفصل الرابع عشر: في مقابر الجالية اليونانية
الفصل السادس عشر: التهرب من السؤال الصعب
الفصل الثامن عشر: ملاحظات على أنغام كسارة البندق
الفصل التاسع عشر : صنعت بي خيرا
الفصل العشرون : أخلاق المجتمع
الفصل الواحد والعشرون : قل للذي قد لامني.. دعني وشأني يا عذول
الفصل الثاني والعشرون : الحياة في حي وادي القمر
الفصل الثالث والعشرون : وددت أن أراك حقا
الفصل الرابع والعشرون : لم تعد الشخص نفسه حين ملكت ابنتي..

 اقرأ أيضاً : 

 الفصل الأول : لقد أعماها الحب
الفصل الثاني : المعنى الغائب
الفصل الثالث : لا أجد ولا أرى غيره
الفصل الرابع : اجتماع عائلي في مسرح سيد درويش

الفصل الخامس : ولتغفر لهم
الفصل السادس : لقد جئت إليَّ رسولاً منجداً
الفصل السابع : نقاش حول غوته
الفصل الثامن : عواقب عملية رمضان
الفصل التاسع : حول الهيمنة الأمريكية
الفصل العاشر : صرع في كنف الغروب
الفصل الحادي عشر : أوهام في معبد الرأس السوداء
الفصل الثاني عشر : يوم انفجر الأمل
الفصل الثالث عشر : سأعود كي أسترد حقي ممن تبلَّى عليَّ








تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق