U3F1ZWV6ZTQ2MTMzMDkyMjMyOTgxX0ZyZWUyOTEwNDc0Mzc0ODg0Mg==

الحقيقة المستورة

                                                               الفصل الأول: الحقيقة المستورة





كان منير يلعب في مغطسه الخشبي بمركب صغير دُهن أسفله بالشمع، يطفو على صفحة الماء المضطرب، وإنه لمن عمق الخيال الذي جعله يرى فيها ملاذ آدمي يصارع البحر العباب، حين طرق على بابه طارق، ثم سمع صوت مريم تقول :

- لقد جاء أبوك يسأل عنك..

وسرعان ما استنشف الطفل، وخرج على وجهه، فاستقبله ذهب استقبالاً حاراً، قبله واحتضنه ولكن منيراً لم يكن قط قد وعى ما هنالك، وجلسا في حديقة البيت التي تزخر أشجارها وترف ظلالها وحدهما، وكان ذهب يأخذ يحدث طفله فيقول بينما يمسك بوجنتيه :"لا يمكن أن تكون قد نسيتني،.. لقد خرجت لتوي من محبسي،.. إن في وجهك سمرة هي سمرتي.."، وجاءه نعيم وهو على هذه الحال، فقال له ذهب :

- لشد ما كنت مطمئناً إلى وجوده هنا ! لقد تركته مكرهاً، وقد أحسنتم رعايته، إنني أأسف لكوني قد ألقيت بثقله عليكم، وإني لمدرك أن الأسف دون ما يقتضيه الأمر في هذه الحالة، إن الحياة بالخارج، أعني وراء هاته الأسوار المنبتة، عسيرة متعذرة على نحو أن زيادة ملاليم في أسعار السجائر والأرز والسكر والبنزين - أقول إن زيادة طفيفة على مثال هذه الصورة تخص تلك السلع كادت تشعل فتيل فتنة لا يعلم مداها أحد..

 وأجابه الآخر في ازدراء :

- فلتنهي الأمر وترحل..

وقال ذهب له وهو يتطلع إلى بركة بالحديقة صنعتها أمطار سبتمبر الخفيفة تنعكس عليها زرقة السماء كأنها أحجار الفيروز :

- بت فظاً مثل الجميع..

- الفظاظة التي تليق بمن استأمنته يوماً على داري فخذلني، إن بك نهماً لا يشبع، لا تتكلف صورة الحمل الوديع.

ونهض ذهب الذي عد حديث الشاب له طرداً منمقاً ولكن منيراً ظل متشبثاً بساق نعيم، وأخذ ذهب يستحثه على إنهاء الأمر :

- إنك نجلي ولو تشبثت بساق الغريب.. هلم !

ولكن منيراً لم يطاوع أباه، وخلق تشبثه بنعيم في الجلسة حرجاً عظيماً سرعان ما استحال إلى نقمة في نفس الأب، قصد ذهب - يومئذٍ - إلى عبد القدوس الذي استقبله بوجه فاتر، يقول :

- لا تحاول أن تستميلني إليك ! كلا، وما محاولتك إلا بذل جهد في غير طائل، كطاقة البرق تضرب برج الحديد ولا يُستفاد منها،.. لقد تقطعت بيننا الأسباب..

وقال ذهب ينوء بشعور الفقد :

- خسرت اليوم آخر ما بقى لي في دنياي : محبة نجلي، لقد سرقه نعيم مني، وأهانني في داره،.. القسوة أن تصدني عنك صدوداً إذ الكل بات يكرهني، ألا إني شقي تعس !

وأورثت العبارات عبد القدوس إشفاقاً، فقال في انفعال كأنه يلفظ شيئاً من فيه :

- وماذا تريد؟

- شراكة بيني وبينك..

وعاد إلى عبد القدوس وجهه الجامد فنطق يقول :

- الشراكة الوحيدة بيننا لا يحسن بها أن تزيد عن علاقة بين رئيس ومرؤوس.

وقال ذهب في صوت خفيض :

- فلتقل : خادم وسيد.

- سمها ما شئت.

- فلتجربني عسى أن أنفع.

- ولماذا أطيعك؟

- قل ولمَ ترفضني؟

ونظر عبد القدوس في الأمر ملياً فأطاع سائله بعد مهلة تفكير، وعمل الرجلان في تجارة العملة بالسوق الخفية (السوداء)، واتفقا على استباحة الأمر وتمريره، فالأول (ذهب) ارتأى في نقمته على النظام المالي غير العادل مبرراً لمخادعته، والثاني (عبد القدوس) نزع إلى تكفير النظام المالي الذي يعتمد بزعمه إلى الربا ومصادر الحرام، وانتهت بينهما صفحات من النزاع القديم تحت سقف المصلحة الجديدة، خصوصاً لما أبداه ذهب من مهارة جعلته أشبه إلى العقل في تسيير شؤون التجارة،.. وفي هاته الأثناء كان طه يجالس أسرة نجله - كدأبه - ينقل إليهم دروس الماضي، فيقول :

- كانت الحملة الفرنسية صفعة الحضارة على وجه الجميع، حتى قال الأزهري، الأشم الأسمر، حسن العطار آنذاك : «إنَّ بلادنا يجب أن تتغير أحوالها، ويتجدد فيها من العلوم ما ليس فيها»، ولم يبقَ من قولته اليوم في عقول ما خلفه من رجال الدين إلا ما هو شبيه بالأصداء الخافتة..

وانقطع استرسال الرجل، بغتة، وكان دأبه أن يطيل الحديث إلى ما يناهز أو يجاوز الساعتين، فلما سأله نعيم :"ما خطبك؟"، أجابه بعد أن تكلف ابتسامة :

- عيادتي في جنوة، (وهنا صمت هنيهة هي دون ما يتطلبه استرسال الكلام الطبيعي، كأنما يمهد لما هو آت، أو كأنما خطفه الاستغراق..) لقد شح طلابها ونقص زوارها، وما عادت صحتي تسعفني كيما أنهض بأعبائها، وأزيد أقول بأن خلق الإنسان يتجلى في أن يخفض رأسه لما جد من الأنواء والعواصف لأنه إزاء الطبيعة مسير لا مخير، ثم أن يحاول إذا تبدى له أفق محاولة لأن طاقة عقله تجعله والكمال في صلة، ولكن ما من أفق أمامي..

وبادره نعيم إلى اقتراح برق في خاطره :

- فلنبع الفيلا..

وقال طه وهو يرنو إلى صورة الأسرة الراضية فكأنما هي في سلامها مع محيطها لوحة بارعة الجمال، لا يزري بها قط شيء خلا آدميتها وطبيعتها الزائلة، يهز قدمه في عنف :

- الويل لي إذا أنا بددت شمل أسرتكم وهناءها.

وعاجله نعيم إلى القول، فيما مكثت مريم صامتة :

- بل أنت خير أب ومعلم، وقد جنبتنا آفات الحياة ومكارهها، ولقنتنا أن المتنزهين في مذاهبهم إنما هم من ظعنوا عن طلب المتاع،.. فإذا نحن لم نسعف حاجتك الساعة يكون عين العقوق.  

وهنالك مسح طه على دمعة تحركت من عينيه، فجعل يخلع نظارته ثم يجلو ناظريها..

 

في سموحة..

كادت تهاني تجيب طارق الباب لولا أن مراداً أراد التصدي للأمر نيابة عنها - لمجهول أهاج داعي القلق في نفسه - فأجابته إلى طلبه، وفتح الباب فألفى قبالته أخوتها الأربعة وقد عزموا أمرهم، واستنفروا طاقتهم، وحاول أولهم الدلوف فاعترضه مراد، وقال لما ألفى منه ممانعة :

- دعنا نتحدث إلى أختنا..

وقال ثانيهم :

- ما أنت إلا غريب..

وكان وجه مراد يشيع فيه لون من الازدراء العميق كأنما ينطق :"غريب؟ ويلكم.. ما أنتم إلا منكرو المعروف.."، وهنا نطق أدهم، وكان أصغرهم عمراً وألينهم طبعاً :

- جئناها لأجل الحق والمعروف فلا تحل بيننا وبينها..

وأذن لهم مراد في حال هو بين الارتياب من نواياهم، والرغبة في إنهاء الموقف، ودلفوا إلى حيث أبصروا أختهم فقالوا وقد أخذوا بما رأوا من نعمة :

- أيعقل أن نعيش في تراب الأرض، على حين تتنعمين بزينة الحياة؟

وقالت :

- يقضي الشرع بأن ميراث زوجي زكريا يخصني دونكم.

وقال أقربهم إليها فيما يشبه السخرية :

- الشرع؟ لقد استهنت بالشرع حين تزوجتي بمن لا يوافقك الدين.

وقالت :

- ما أنتم إلا غربان الخراب، لقد أسلم زكريا..

وتقدم مراد فحال بينها وبينهم يقول :

- ماذا تريدون من امرأة تركتكم وحالكم؟

وقالوا على لسان واحد :

- فلتهبنا من لدنها عطاءً يكفينا العناء الذي تظهر معه سوءات الحياة..

وقال مراد وهو يقترب من زهريّة جُعلت من كريستال ذات فصوص زينت قلب الغرفة المشحونة بالجدل :

- تريدون الراحة تأتيكم من سبيل الضيم والجور.. (ثم وهو يوجه حديثه مخصوصاً إلى أدهم..) وأنتَ أما نسيت يوماً كنت أحملك فيه على يدي هاتين؟ آه.. ويل لقوة يحوزها المرء في شبابه فتفسده ! وغرور يجعله والشيطان سواء ! ليتك مكثت حبيس البراءة والوجه الأمرد..

وقال أدهم :

- كفى ما سمعت ! أما ترى أنك تزورها (تهاني) فتأخذ منها على مثال ما نريد أن نأخذ، وتستدين منها كما نروم الاستدانة؟

وقال الذي على يمينه :

- سنذيع الحقيقة المستورة التي تعرفانها على ملأ القوم، إنكما على بينة من أن زواجاً بزكرياً ما كان إلا لغرض الاستيلاء على ميراثه..

وقال مراد :

- ويحكم ! وتفسدون سمعتكم؟  أتخربون بيوتكم بأيديكم؟

وقالوا :

- ماذا تفيد السمعة على معدة فارغة ويدين معفرتين؟ ولو قُدر لنا أن أن نصطفي أي الاثنين سنختار ما يرفع عنا حياة الذل والهوان.

وتساءل مراد بعد أن عدمت جعبته من المناوارت كأنما يلتمس أقصر السبل يفض به نزاعاً أرهقه :

- كم تريدون؟

- نصف الميراث..

وانتفض مراد وهو يأخذ يقبض على زهريّة الكريستال كأنما يعتزم أمراً :

- لشد ما أعماكم الطمع !

وأجابه من الفريق المناوئ الذي أشدهم بأساً، وكانوا كأنما تشاحوا على الحرام، وتزاحموا على الحطام :

- وكأنكما بذلتما فيما حزتماه جهداً..

ووجه مراد زهرية الكريستال فضرب بها صدر الذي أمامه، كأنها طلقة النار التي يبدأ معها الإشهار بمعركة، وهجم عليهم يقول :

- ما أنتم إلا حثالة..

ولزم أدهم الحياد حين رأى تكالب أخوته الثلاثة على الرجل الوحيد، ولعله أشفق على نفسه من أن يشارك أخوته الهجمة على من تكفل برعايتهم زمناً بعد أن توفت أختهم الكبرى نرمين، وقد نزلت كلمات مراد الموبخة له في نفسه نزولاً استجاب له بالامتناع، ولو أنه ظل مصراً بسلبيته ووقفته على مناصرة المعتدين من أخوته في غيهم وبغيهم، وهتف هاتف الصراع في بيئة النعمة والثراء المحدثتين، أصاب مراد منهم وأصابوا منه، حاولت تهاني الفصل بينهم فأصيبت بضربة سقطت معها على الأرض مغشية عليها، هناك توقف الهرج، تعلقت المهج بالصفاء، تشبثت الأنفس بالسلام، وقال الأخوة كأنما يقظوا فزعين مما زينته لهم ذواتهم في لحظات تدنيها فأدركوا فحش ما أتوا :"يا ولينا ! لقد أصبنا أختنا بسوء..".  





 



 اقرأ أيضاً : 

الفصل الثاني: الانتقام ممن لا ذنب له
الفصل الثالث : ليس في حياتي ما أخفيه
الفصل الرابع : قفص من ذهب
الفصل الخامس : ما لا نبوح به
الفصل السادس : فراق بيني وبينكم
الفصل السابع: مشكلة بسبب كتاب قصة الحضارة
الفصل الثامن: كدت أفقد الأمل في لقياك
الفصل التاسع: نوستالجيا الماضي وليالي الأنس في فيينا
الفصل العاشر: 
حوار على مقهى إيليت
الفصل الحادي عشر: ما بعد عهد الصبى
الفصل الثاني عشر : ها قد ذقتُ من كأسك

الفصل الثالث عشر: لقاء على أجراس كنيسة العذراء
الفصل الرابع عشر: في مقابر الجالية اليونانية
الفصل الخامس عشر: نقاش عند حلواني ديليس
الفصل السادس عشر: التهرب من السؤال الصعب
الفصل السابع عشر: لم يعرف جفناها معنى النوم
الفصل الثامن عشر: ملاحظات على أنغام كسارة البندق
الفصل التاسع عشر : صنعت بي خيرا

الفصل العشرون : أخلاق المجتمع
الفصل الواحد والعشرون : قل للذي قد لامني.. دعني وشأني يا عذول
الفصل الثاني والعشرون : الحياة في حي وادي القمر
الفصل الثالث والعشرون : وددت أن أراك حقا

 اقرأ أيضاً : 

الفصل الأول : الحقيقة المستورة
الفصل الثاني: الانتقام ممن لا ذنب له
الفصل الثالث : ليس في حياتي ما أخفيه
الفصل الرابع: قفص من ذهب ! 
الفصل الخامس : ما لا نبوح به
الفصل السادس : فراق بيني وبينكم
 الفصل السابع: مشكلة بسبب كتاب قصة الحضارة
الفصل الثامن: كدت أفقد الأمل في لقياك
الفصل التاسع: نوستالجيا الماضي وليالي الأنس في فيينا
الفصل العاشر: حوار على مقهى إيليت
الفصل الحادي عشر: ما بعد عهد الصبى
الفصل الثاني عشر: ها قد ذقتُ من كأسك
الفصل الثالث عشر: لقاء على أجراس كنيسة العذراء
الفصل الرابع عشر: في مقابر الجالية اليونانية
الفصل السادس عشر: التهرب من السؤال الصعب
الفصل الثامن عشر: ملاحظات على أنغام كسارة البندق
الفصل التاسع عشر : صنعت بي خيرا
الفصل العشرون : أخلاق المجتمع
الفصل الواحد والعشرون : قل للذي قد لامني.. دعني وشأني يا عذول
الفصل الثاني والعشرون : الحياة في حي وادي القمر
الفصل الثالث والعشرون : وددت أن أراك حقا
الفصل الرابع والعشرون : لم تعد الشخص نفسه حين ملكت ابنتي..

 اقرأ أيضاً : 

 الفصل الأول : لقد أعماها الحب
الفصل الثاني : المعنى الغائب
الفصل الثالث : لا أجد ولا أرى غيره
الفصل الرابع : اجتماع عائلي في مسرح سيد درويش

الفصل الخامس : ولتغفر لهم
الفصل السادس : لقد جئت إليَّ رسولاً منجداً
الفصل السابع : نقاش حول غوته
الفصل الثامن : عواقب عملية رمضان
الفصل التاسع : حول الهيمنة الأمريكية
الفصل العاشر : صرع في كنف الغروب
الفصل الحادي عشر : أوهام في معبد الرأس السوداء
الفصل الثاني عشر : يوم انفجر الأمل
الفصل الثالث عشر : سأعود كي أسترد حقي ممن تبلَّى عليَّ

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق