روايات وقصص، استمتع بأفضل روايات الرومانسية وروايات الرعب وروايات التاريخ في موقع واحد.

روايات وقصص، استمتع بأفضل روايات الرومانسية والرعب والتاريخ والخيال العلمي والبوليسية في موقع واحد،

عشرات القصص المثيرة والحكايات في انتظارك.

2024/11/28

كأنك تحكمين عليَّ بالهلاك

       الفصل الثامن عشر: كأنك تحكمين عليَّ بالهلاك 



ألفت بدور شقاءً في رعاية حورية التي لم تكن تكف قط عن البكاء في سلتها الخيزرانية، وتمنت المرأة في خاطرها أن يُعجل القدر بنهاية الصراع الريفي المعلق فتعود الطفلة إلى أحضان أمها فردوس، فيرضى ضميرها (بدور)، ويسكن جزعها، وكانت بدور قد وضعلت طفلها وسمته بمنتصر تيمناً بهذا النصر القريب المأمول لزوجها وأخيها على رضوان، وجعلت له سلة من الخوص، وتجلى منتصر آية في الوداعة والصمت في بيت المرأة - خلافاً لحورية الباكية - وكأنما ورث طباعه الطيعة من الأم، وطفقت بدور تضعه بسلة الخوص في حجرة نومها كيلا يتعلم من حورية عادة البكاء، ولئلا يتشرب آفة الجزع، فينقلب مقامها - بعد التعلم والتشرب - إلى حقيقة من نقمة وجزع موصولين، وإنها لمتخيرة نجلها منتصر للرضاعة دون حورية،.. وجاءتها ثريا - وكانت من أصدقاء أمها تسنيم - تسأل عنها :

- متى نرى أمكِ حرة عزيزة (أي تسنيم)؟

وأجابتها بدور وقد أرضاها اهتمام ثريا :

- أقرب من هذين (تشير إلى ما بين إصبعي البنصر والوسطى)، لقد رضخ فهد لإرادة الريفيين وغداً يلحق به أبيه (أي رضوان)، أجمل بساعة نراه فيها خارجاً من وكره وهو صاغر !

ووجدت بدور الفرصة سانحة كيما تبث لثريا شكواها وعجزها عن التعامل مع الطفلة الوافدة التي كانت أشبه إلى أمانة وجيزة الإقامة في بيت غريب، وهناك نهضت المرأة (ثريا) في حس يتحرى الخبرة تقول لها كأنها تزجرها :

- الويل لكِ ! أنتِ تضعينها في حَرُور الشمس يلفحها أوارها فيبكيها !

وحملت بدور الطفلة بسلتها الخيزرانية فأودعتها في هذا الظل ولكن بكاءها لم ينقطع، وسألتها بدور :

- إنها تعاني الإسهال، أو لعل ألماً باطنياً يضنيها ولا تستطيع التعبير عنه..

- فلتغلِ لها تمر حنة..

ولبت المرأة نصيحة ثريا دون أن يجد جديد، وسألتها :

- هل تهبينها حليباً صناعياً؟

- أجل.

 فاقتربت منها المرأة وهمست في أذنها كأنها توصيها قبل أن ترحل :

- فلترضعيها..

هناك شعرت بدور بالاستخذاء من أن ترضع طفلة هي ليست من نتاج بطنها، ولكنها لم تجد بداً - حين عادت حورية تصرخ وتبكي في سلتها - من مسايرة نصيحة ثريا الأخيرة فألقمت الصغيرة ثديها، وما كادت حورية تكف عن البكاء أو يهبط عزمها عليه، وأيقنت بدور حقيقة أن ثريا إنما تهرف بما لا تعرف، ثم جعلت تلتمس لها عذراً فقد سمعت غير مرة - ومن أفواه المؤيدين لحزب زوجها وأخيها والمعارضين له على السواء - عن حقيقة أن الطفلة لا يهدأ روعها إلا في وجود أبيها بكر، وأما في غيره من الأحايين فنحيبها سوط عذاب دائم، ومكثت متفكرة في هذا الشأن حَيْرَى،.. وهناك دق الباب في شدة فاضطربت بدور اضطراباً شديداً لما كانت على حال غير مهيأ لاستقبال الزوار، وسترت ما كان قد تبدى منها، ونهضت في بشر وقد خالت أن الطارق سينبأها بالنبأ السار الذي أزف ميقاته بعد أن تواترت أسبابه : استسلام رضوان، وفزعت لرؤية الشيخ حمروش يقول لها :

- خبئيني، بنيتي، خبئيني، لقد استسلم سيدي رضوان وغداً يقطع أخاك وزوجك رقبتي.

وتركته يدخل في عجب، وسألته :

- ولماذا تلوذ بزوج من أراد قتلك؟ هل أصابك الجنون؟

وخلع عمامته يقول في شيء من الوداعة :

- لقد انتصرا (بكر وعبد المجيد)، وقد لذت بكِ لأنك أرحم المنتصرين.

وقالت وقد تراجعت خطوة أو خطوتين عن حدتها لما بدا من كياسة محدثها، دون أن تستغني كلية عن شعورها بالقوة الجديدة وكونها قد أصبحت واقعاً : زوج العمدة :

- لا تقلق، أصحاب الحق لا يجنحون للثأر حين تتم لهم الأمور، وإنما العدالة غايتهم الأولى والأخيرة.

وقال في فزع :

- إن أخشى العدالة خشيتي من الثأر، النصر ساعة زهو وخيلاء، وكل مثلبة أصلها في الكِبْر، كما تعلمين، سيدتي.

وأشفقت عليه ملياً على خبرتها بعهد احتياله وتحريضه القديم، ارتفع بكاء حورية مجدداً فأوحى لها (البكاء) بما خلصها من مشكلتين، قالت في نبرة آمرة لا تخلو من تصنع لما كانت غريبة عن شخصيتها الطيعة :

- فلتصنع لي معروفاً أتوسط لكَ به لدى عبد المجيد إذاً، وإلا فبم أبيض وجهك عنده وصفحتك كلها سوداء كقرون الخروب؟! أجل، فلترقها (أي حورية) فإن نجحت في جعلها تنام وهبناك حياة بعد الحياة.

وفزع الرجل ملياً وقد كان عليماً بما يتوارد عن أمر الطفلة من أخبار نحيبها الموصول، قال في انفعال من لاقى حيفاً :

- وكأنك تحكمين عليَّ بالهلاك قبل الاختبار.

  اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات

ونظرت إلى رأسه وقد بدا دون عمامته كأنه حقيقة أخرى، قالت :

- إنني ما كلفتك إلا بما هو في وسعك،.. ألست شيخاً عالماً بالدعاء والرقى؟ ثم أليس الله وكما أخبرنا في كتابه قريب مجيب الدعاء؟

واقترب من سمعيهما صوت هرج كأنه حشد موفور الرجال والمشيعين، وكان الريفيون يحتفلون بمبايعتهم لعبد المجيد عمدة بعد رضوان، ودلف عبد المجيد من الباب المفتوح - يضبط عباءته الصوفية التي تضررت بطول حمله - فيزف البشرى لزوجه، فما كاد الرجل ينطق بما في نفسه من ألق الابتهاج حتى ألفى حمروش ممسكاً بالطفلة يقول :

- إن مسني منكم سوء عصفت بصغيرتكم الباكية..

ولحق بكر بصاحبه عبد المجيد فلما ألفى ابنته على حالها هذا وقف ذاهلاً، وارتد إلى كهف واجم شحيح الضوء، لقد رأى الإسكندرية والريف من كوة المجهول، وهانت في وعيه الأشياء والأصول والجذور، ورأى نفسه يشق جلبابه الريفي ويمضي في سبيل ضبابي حذو الترعة والبحر، محفوف برجال حاملي أفؤس وبنادق،.. وساد صمت نزع بزهوة الانتصار عن خيلائها المنزه وهبط بها إلى أكف الواقع الترابي، فلما عدمت الأسباب بكت حورية بكاءً شديداً حتى لقد اهتزت سلة الخيزان في يد حمروش، ولم يحتمل الرجل مزيداً - وقد ذهل بقدرة الطفلة كأنها نواة ذرة ضئيلة تنشطر فتولد عظيماً من الطاقة - فألقى ما في يده على الأرض وقفز عبر هاته النافذة حتى اختفى ظله، اقترب بكر من صغيرته فما أن مسح على وجنتيها حتى سكنت بيده، وانطوى على رغبة عميقة هي أثر شرخ نفساني غائر، أمسك عبد المجيد بعمة حمروش الباقية من أثره المنتهي يقول في غضب المسؤولية الجديدة :

- سنعثر عليه (أي حمروش) عاجلاً أم آجلاً، لن يكون لمثله دور في ريفنا الجديد.

 

في الولايات المتحدة..

تبدلت طباع مارتن منذ خلع سترته الجيفارية في أعقاب إخفاقه في إقناع رواد محطة القطار بقضيته الحقوقية، وانكفأ - كالنجم الخافت - عن اجتماعات الآدميين بالسبل والنوادي فغدا يشق بها مثلما توقف عن زياراته العابثة إلى الملاهي الليلية في غمرات شعوره بالثمول، وسمعه منير يقول في حس جادٍ :

- "إن كانت المسألة الحقوقية على هذا الوضوح فإنها في غير حاجة إلى تذكرة، وإن تجاهلها الناس على بيان حجتها فجهدي في إقناعهم بها هو ضرب من ضروب الإهدار الذهني والنفساني، أجل، إنها ضابطة منطقية يتجاهلها الحقوقيون..".

وذكر مارتن شيئاً عن قناعته بالفكر التقدمي للحزب الأمريكي الديمقراطي الذي أوكل إليه بمهمة استكمال تحقيق تطلعات شغفه الذي انطفأ، ثم ألصق بالحزب الجمهوري كثيراً من المَثَالِبُ والنقائص مزرياً بغاياته، فيما كان لمنير رأي أكثر اتزاناً - لم يصرح به مخافة أن يزعج صاحبه المكلوم - مفاده أن الدول التي يسود فيها وضع الثنائية الحزبية - كالولايات المتحدة وبريطانيا (العمال والمحافظين) - يكون فيها الاختيار أقرب إلى الوهم نظراً لاتفاق الحزبين في الأساس المشترك لأكثر الحلول التوافقية للمشكلات والقضايا، وتواضعهما على القيم نفسها التي استقرت بعد مخاض التجارب المريرة في الوجدان الأوروبي (يصور منير الجمهوري بالجذع والديمقراطي باللحاء الخارجي لنفس الجذع)..  وقال له مارتن وهو يتطلع إلى كلاشنكوف كان يحتفظ به على جدراية حجرته (يصف السلاح بـ"صاحب الفضل على ثورات العالم الثالث") :

- "لماذا لا تكون حماستي خاطئة زائفة؟ بعض البشر يفكرون على هذا النحو : ما دمت شخصاً جيداً، وإنني متحمس للقضية x، فالقضية  x صحيحة حتماً، أنت نفسك ذكرت لي شيئاً عن الحقوقي المصري مصطفى كامل الذي أفنى عمراً في مناهضة الاحتلال الإنجليزي ودافع - في الوقت عينه - عن تبعية بلاده للخلافة العثمانية ذات الحكم الثيوقراطي، هذه التي ذكرت لي عنها أنها سمحت بانتشار الأمية في مستعمراتها الهامشية،.. لقد دافع الرجل إذاً عن قضية خاطئة وبذل جهده في سبيل ما كان حرياً به أن يعيد التفكر بالأساس في أصله النظري والتاريخي والأخلاقي، كان حقيقاً بكامل أن يطلب لبلاده الاستقلال المنزه من التبعيات..".

وكان الأسف قد انتقل إلى منير لشعوره بضياع فرصته الوشيكة في الحديث إلى أخت عارف الذي يمقته، ولكنه أشفق على حالة صديقه فتنزل عما بخاطره - وقد كانت الحقوقية مشروع حياة صاحبه وأما العاطفة فكلمة عارضة في حياته الحافلة بالتقلبات الغريبة - وقصد إلى حجرة صديقه الموصدة كالمرء يزور صديقاً له اعتوره السقم فيعوده، يسأله وقد هاله رؤيته على حال من الحزن، وقد انتظر دون جواب دعابة مستملحة منه يطلقها على عادته :

- "إلهي ! أين مارتن اللطيف المفعم بالحياة؟".

وأجابه الرجل يقول متأثراً بما جد في نفسيته من تصورات هي أثر صدمته الأخيرة :

- "إن شخصاً صادقاً لا يمكن أن يكون شديد اللطف، لأن اللطف الزائد نفسه مما يضر بالصدق، اللطف المجامل مكر ومخاتلة، والحماسة لاستجداء اهتمام من لا يكترثون هي ترخص وضعف..".

وترك منير صاحبه - وقد تكاثرت عليه أسباب الأكدار - ووقف يبصر هاته الظلمة عبر نافذة زجاجية، وحلت لحظة صامتة كأنها ابنة العدم، قبل أن يضيء مبنى المُربِّية حواء فيظهر منه نعيم وآمال وعارف، ثم مريم وحواء، وكان عارف يرتدي سترة فسفورية - بدت كأنها تضيء في هذا الظلام - وقد رسم على منطقة البطن منها رأس ميكي ماوس (Mickey Mouse) في زاوية يظهر منها ثلاثة أرباع وجهه الكارتوني،  وفي يده كشاف مضيء يمضي البقية في ضوئه المتراقص، وكانت مريم توصي المُربِّية حواء على ابنتها فأجابتها المرأة (حواء) تقول كأنما تنزه نفسها عما لا يجب أن يكون موضع تذكرة :

- "إنني أعنى بها عنايتي بجميع أبنائي هنا، ونبوغها مما يلُفت ويُحتذى به.".

وأحس منير - الذي لم يكن يرى من المشهد إلا صورة غائمة ووجوهاً تنطق بلا صوت - يد صديقه مارتن تربت على كتفه فسر بها، وسمعه يقول:

- "لماذا تكرهه؟".

وسأله منير مأخوذاً :

- "من تقصد؟!".

- "هذا الذي يرفل في سترة فوسفورية، رأيت الانقباض يبتلع أمارات وجهك حين بصرت به في محطة القطار كما تبتلع الظلمة كهفاً مضيئاً..".

وتطلع منير إلى "أخيه" القديم عبر وسيط الزجاج والظلام، فأجاب في صوت واهن :

-"إنها قصة طويلة، ما رأيت في حياتي متعجرفاً هو شر منه..".

وقبض مارتن بيده على كتف صاحبه، قال :

- "أريد أن أسمعها..".

-"حقاً؟".

-"أجل، أعدك أن أهتم بها اهتماماً يزيد عن شغفي بالمسائل الحقوقية، (ثم كالمتراجع..) أعني وقتما كنت شغوفاً بها..".

وروى له منير طرفاً عن أحوال ما وقع له في لوران فاستوحش مارتن موقف صاحبه، سأله مستنكراً :

-"هل تكرهه لأنه أظهرك على حقيقة نسبك؟ بربك.. لقد كان الصادق الوحيد في الأسرة الكاذبة، وقد أدركتك بسبب صراحته الجارحة نعمتا الإدراك والمعرفة..".

- "كنت أؤثر الحياة في فقاعة الوهم بمانارولا، آمال أيضاً ما خدعتني قط إذ هي كانت أصغر من أن تعي ما يحاك حولها.".

ومضى منير عن النافذة فيما بقى مارتن يتطلع إلى آمال التي بقيت بعد انصراف أسرتها والمُربِّية حواء عنها، يقول كأنما اكتسب شغفاً جديداً :

- "لازلت لم أفقد قدرتي على الخطابة، إني جهول بأساليب الإقناع الناجحة، ولكني غدوت عليماً بالفاشل غير الناجع منها، إن تجربة تفشل فيدرك المرء تعلة فشلها لا تكون فاشلة تماماً، وقد محصتني التجربة وكشفت عجزي حتى وعيت به، إن البشر لا يحتاجون إلى كلمات راطنة أو إلى حديث ثقيل، أجل، إن وعيهم يحفل بالأبسط دائماً ويرضى به، ولو كان سخيفاً عابثاً، سأعينك على الظفر بأختك من هذا الباب،.. (ثم كأنما أدرك ما التبس فيه من الخطأ فعدل عنه..) أقصد صديقتك، آمال..".

وابتاع مارتن - عطفاً على ما قد سبق من حديثه - آلة هارمونيكا وكتيباً لقراءة النوتة الموسيقية فجعل يتدرب عليه حتى شق على منير النوم، وكان منير يسأله في خضم الأرق الذي انتابه :

- "بحق عيناي الحمراوتين ثم بحق عزفك الناشز : أيجدي تدربك نفعاً أو هو يصيب تقدماً؟!".

 ويجيبه صاحبه بعد أن يعود فمه الملآن بالهواء إلى طبيعته :

- "سيجذبها (أي آمال) العزف كالفراش ينطلق نحو النور، رأيتها تشفق على العازف في محطة القطار حتى وهبته دولارين.." !

 اقرأ أيضاً : 

الفصل الأول:   رأيت الطمع في عينيه

الفصل الثاني:  عسى أن يكون صدري منشرحاً

الفصل الثالث : صورة المُخلِّص

الفصل الرابع : إلى أين المسير؟

الفصل الخامس : الخواطر المستغرقة

الفصل السادس: نظرة أخيرة

 الفصل السابع: أسطورة شجرة النبق 

 الفصل الثامن: عودة فتاة فيلا لوران

الفصل التاسع: ألكسندرا في غابة بولونيا

الفصل العاشر: مصرع زهران بسبب مراهنات الكرة !

الفصل الحادي عشر: بكر يتحدى سلطة رجال القرية

الفصل الثاني عشر: حوار في مطعم جيوفاني

الفصل الثالث عشر: سلكت سبيل الحب ! 

الفصل الرابع عشر: حفل عرس في حمام شهريار

الفصل الخامس عشر: خطبة مارتن في سكة حديد بالتيمور

الفصل السادس عشر: لقد صفحتُ عنكِ

الفصل السابع عشر: إفناء العمر في الشقاء

الفصل التاسع عشر : انطفاء شمعة لا يعود لهبها

الفصل العشرون : نفسيتي تتحسن حين أروي قصة








ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق