عواقب عملية رمضان

                    الفصل الثامن: عواقب عملية رمضان

كانت علاقة فؤاد برمزي تمر بمنحى شديد الانحدار من جهة الثقة، وأزاد الطين بللاً ما كان يتردد من أصداء عملية رمضان التي أطلقتها إيران بالقرب من البصرة، وما نجم عنها من توتر عام وخسائر اقتصادية، وقد توفرت (عملية رمضان) على ثلاث هجمات منفصلة استمرت نحو أسابيع ستة، كان فؤاد متحفظاً إذاً في الحديث عن المأساة التي كلفت الطرفين أكلافاً فادحة، وقد ألقت بظلالها على الاقتصاد العراقي حيث جل النشاط التجاري لرمزي، والأخير (رمزي) قال له، والوقت وقت العصاري وهو يتأمل خنجرين معلقين غمدايهما من الفضة المشغولة اتخذها للزينة :

- إني أرى في عينيك شعاعاً من الاستهزاء حري بكَ ألا تخفيه،.. لقد كشف العامان الفائتان عن موهومية الحسم السريع الذي اعتقدته..

وطفق فؤاد يخفف من حدة الحوار يقول :

- يزعمون في الإعلام أنها (أي عملية رمضان) واحدة من أكبر المعارك البرية منذ الحرب العالمية الثانية،.. الحرب لا تجلب المجد لأحد، إنها تجلب الخراب للطرف المغلوب فيما تبقي الآخر في فقاعة النصر الموهوم على أشلاء الإنسانية !

وجلس رمزي على مقعد وثير جعل للضيوف وقد بدا أنه رضي بحديث صاحبه بعض رضاء يقول مشدداً النكير جداً على "خصوم العراق" :

- العراق أقدم بلدان الأرض طراً، إنها حقيقة تلوح على جدران الحضارة السومرية بالكتابة المسمارية وفي غيرها،.. وإنه لبلد أبي غير قابل للإملاءات الإكراهية، ولكنه في محيط لا يريد له أن يقف على قدمين، وحسبك بهذا أسفاً، والأمور تمضي إلى مآل تصير فيه أكثر اشتباكاً واشتباهاً وحراجة.

وأجابه فؤاد على وجل وقد بدا أنه لم يستوعب بعد مغزى المثل :

- إنها متوسطة..

وحاول فؤاد أن يزيغ اهتمام الذي أمامه فيعيده الحوار إلى بادئ سيرته يقول :

-  ثمة مساران يحكمان تصرف الإنسان والمجموعة : مسار عاطفي تحكمه اللوزة المخية، وآخر عقلاني تحكمه قشرة الفص الجبهي، وحين تطغى الأولى على الثانية تشتعل الحروب، يتورط الإنسان في القتل، وهلم جرا.. 

واطلع رمزي على قائمة من الأرقام فهتف يقول كأنما وضح له ما هو دون المتوسط وصفاً وقيمة، عطفاً على حديث فؤاد الأخير :

- وماذا عن السرقة؟

- ....

 

- لقد طفح الأمر وسال سيله،.. ما أنت إلا سارق أو حاسد !

وكان على الطاولة مشروب الدارسين بالزنجبيل فاهتز لحديث الرجل الغاضب، وأجابه فؤاد :

- حاشا لله من أن اجترح سيئة الخداع لكَ ! ثم كيف أحسد المال وهو لي؟

- ألم تسمع عن المثل المصري : لا يحسد المال سوى أصحابه؟

كان رمزي من طينة أرباب العمل الذين يتصرفون وفق مبدأ الباب الدوار، إنهم يأتون بموظفين لتغطية مهام معينة ثم ما يلبثون يعزلونهم ويأتون بغيرهم، والمسوغات في هذا كثيرة،.. وألقى رمزي نظرة أخيرة على القائمة فقال كأنما لا يزداد إلا عزماً :

- إنك لمطرود..

كانت غادة قد أنجبت مولودها الأول عماد، وكانت في بيتها تؤدي مناسبة النون بمناسبة ظهور أولى أسنانه، واستقبلت الأطفال والأقارب والجيران، وفرشت سجادة أمام البيت كما تقضي المراسم التي تلقنتها من أبناء البلد، وقد ذهبت إلى سطح الدار حاملة سلة الحلويات التي راحت تلقيها على الحاضرين، وتوافق هذا الحاصل وعودة فؤاد مغلوب على أمره آسف الوجدان، ورمق الأطفال الذين أسرعوا بدورهم إلى جمع الحلوى النازلة - كأنها زخات المطر الهابطة - في أطراف ثيابهم، ودلف فؤاد إلى بيئة داره التي كانت شبه معتمة تخترقها طائفة من أشعة مذهبة دون أن يستزيد من حر العصر إلى حجرة عماد فلثمه، وكان إلى الجوار منه مجلة العربي على طاولة من خزف، وسمع صوتاً يقول له :

- ماذا يحزنك؟

ووعى أنه صوت زوجه غادة، فاستدار إليها يقول :

- حزن قديم يأتيني دون عمد، أجل، يأتي عرضاً وليس غرضاً..

وقالت في حدس صائب :

- بل ثمة وراء هذا الصوت المثقل علة أشد وطارئ هو غير ما فات من طوارئ..

واختزلت عبارتها مساومته ومناورته، قال كأنه يلقي بحقيبة تثقل يده دون تمهيد :

- طُردت من العمل..

وروى لها الفصول المجحفة التي انتهت به إلى حال اللاعمل مجدداً، لقد سمعت القصة مراراً، بتفاصيلها التي حفظها فؤاد عن ظهر قلب، وقد انطبعت بما آلمه منها في خلده فغدت أشبه إلى صورة جلية واضحة وبيان محفوظ بلا لبس، ونظرت المرأة إلى عماد نظرة محايدة ثم التفتت إليه تقول :

- لماذا لا تبلغ عنه (أي رمزي) سلطة البلد الذي نحن فيه (أي الكويت)؟

 

   اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات

في استوديو التصوير..

أمكن لنور بعد ولادة عطية الله أن تشرع في أداء مشاهد الفيلم الجديد للمخرج مظهر، وكانت الفتاة - التي كانت تؤدي دور الطالبة الشقية في الأسرة الحائجة التي تتأدى بها معاندة الظروف إلى دخول الطب في الخاتمة - على حال من القلق وعدم الإمساك الجيد بالدور، فيما سمعت المخرج يقول :

- إني متفائل بموت ليونيد بريجنيف ومجيء يوري أندروبوف، لقد قوض الأول (بريجنيف) إمكانات الاتحاد السوفيتي، وازداد في عهده نفوذ المافيا..

وقال آخر :

- لا تتعلق بحبال الوهم، سيدي، لقد هيمن الأمريكان على العالم دون رجعة، المشكل في الفكرة الاشتراكية نفسها، والرأسمالية لو أنها جعلت من العالم مكاناً أكثر تنافسية وقسوة، فهي أقرب إلى الواقع الطبيعي من الخيالات المثالية، وحين تتحقق الوفرة الحقيقية بمداد من التقدم التكنولوجي الصاعد المنتظر في القرن القادم - وحتى ما بعده - ستفضي الأمور إلى المجتمع المثالي بصعود طبيعي ليس فيه إرغام لأحد بالتلخي عما له أو متاجرة بشظف آخر عبر إغرائه بالوعود الحالمة..

وقال مظهر :

- إن هذا تصور يقوم على دعامة الافتراض الجيد في نوايا الجميع، ثمة في هذا العالم من يستفيد من إدامة البؤس فيه..

- نظرية المؤامرة) نطقها بالإنجليزية (Conspiracy Theory تفسر كل شيء في وعي العرب : من معارك الحروب وحتى أزمات الوقود..

وقال ثانٍ يعالج "مسألة الهيمنة الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم" :

- كل الحضارات تزدهر وتنتكس، أين الفراعنة اليوم؟ وأين السومرية والصينية والإغريقية؟ لا تنسِ بريطانيا بعد أن تعالج أن انحسارها الأخير، وألمانيا بعد أن تفيق من كابوس التقسيم، وغير هاتين من الدول الصاعدة..

وعاد مظهر يقول :

- لقد قهرت روسيا نابليون وهتلر، أكبر الغزاة عجزوا عن سبر أغوار جبال الأورال، وسيظل الاتحاد السوفيتي صديقاً للدول النامية، مثلنا، وحاملاً للهم الأخلاقي في خلق مجتمع متساوٍ..

وقال الثاني :

- العدالة شيء، والمساواة شيء آخر.

وجعل المصور يقول :

- أنتم سذج ولا نفع فيكم، لا صداقة في السياسة، ومصلحتنا اليوم مع بلاد العم سام، منذ كامب ديفيد ونحن..

وقاطعه مظهر يقول :

- إن اسمها الذي يليق بها هو إسطبل داوود..

وقال المصور :

- لن ننعم بالسلام في الشرق الأوسط حتى ينتهي آخر مزايد..

وكانت نور تشعر بأن الرجال يناقشون أحوالاً عالمية هي فوق طاقتهم، وقد انشغلوا بهذا عن موضوع الفيلم الذي التبس عليها في مسألة طويلة المراس، لقد ضجرت الفتاة بهم إذاً وكان الجميع في الحجرة - إلاها - من مدخني التبغ النهمين به، وأحست أن سحابة الدخان المنعقدة تزيدها توتراً، وجعلت تحدثهم في غضب تقول :

- بربكم.. هل تركنا أشغالنا وصرنا ساسة؟

عاد مظهر إلى العمل والصراخ إذاً، وإنه على ذاك السلم يمسك بالميكرفون يقول : "فلتتحرك في بطء لا عداونية، إننا في محراب فن ولسنا في حلبة مصارعة، وأنت ! يا ذا البيجامة الكاستور المقلمة، أين ذهبت طاقيتك؟!"، وبدأ المشهد فجعلت نور تقول في أداء محكم جيد وكانت تحدث أباها الذي في الفيلم تقول :

- الفقر لا يعني حتمية الضياع والاستسلام، وأمنيتي هي دخول الطب..

وكان الأب ذو البيجامة الكاستور يقول في صوت رخيم شائخ فيه من الوهن بمثل ما له من الحزم :

- الزواج قبل الأمنيات يا بنيتي، وهو رفعة مادية لنا..

- الرفعة الحقيقية في تحصيل العلـ..

ولم تكد تتم عباراتها حتى شعرت بإعياء شديد حملها على التوقف، وعلا صوت مظهر يهتف :STOP! ، هرع الجميع إلى البؤرة المشتعلة إذاً، كان مظهر آخر الواصلين منهم لما هبط من سلمه، واقترب من الفتاة يقول :

- إلهي ! مرة أخرى تسقطين ! ليمون للأستاذة، (ثم وهو يلتفت إلى من تركوا مواقعهم واحتشدوا ها هنا..) إلام تحدقون؟

وجيء لها بما انعشها وفتحت جفنيها واتخذت من مظهر متكأً إلى كرسي من خيزران، كان (الكرسي) يقعد عليه مظهر حين يروم أن يناقش فكرة تدور في رأسه مع طاقم العمل، أو يباشر مهاماً لا تحتاج أهبة الوقوف أو استعداد الحركة أو حتى صعود السلم لتقدير زاوية مشهد أو ما شاكل، وشعر الرجل بحرارة يديه ووهبها (نور) نظرة فألفاها كالحمل الوديع، وطلب من الجميع أن ينصرف عن موقع التصوير ما خلا هو ونور التي كانت لا تزال قاعدة على كرسيها الخيزراني، ووجد مظهر الفرصة سانحة كيما يسرد على أسماعها بعضاً مما يعرفه من تاريخ السينما، وذكر شيئاً عن سينما لومير : أول سينما توغرافي يفتتح بمصر في الإسكندرية يقول :

- افتتحت عام 1897م، واستقرت موضعها بين بورصة طوسون وبين تياترو الهبمرا، كان تصوير ميدان القناصل بالإسكندرية وميدان محمد علي أو تصوير سينمائي في التاريخ المصري، وقد أبصرها أبي في عرضها الأول بلومير، وحكي لي عنها في صباي، عرفت السينمات السكندرية التي تأسست بعد ذاك : كراديو وفلوريدا والحضرة والمعمورة ولاجتيه والكونكورد، وقد هُدم بعضها وبقى بعضها، وحين تهدم سينما فأنت تنزع أصيصاً مثمراً من حقل الفن، ومن سخريات الأقدار أن بعضها (أي السينمات) ممن لم يهدم استحال إلى عقارات سكنية أو صالات أفراح، وأستطيع القول أنني بحثت عن سينما بلومير في كل أولئك،.. وأذكر أن أبي قال لي إن محمد كريم كان أول سينمائي مصري، ولقد أرى نفسي آخر سينمائي محترف وبيننا تعداد طويل كغثاء السيل، يذهب هباءً !

وراح المصور الذي يسمعه يقول :

- لشد ما أنتَ متواضع ، سيدي !

ونظر له مظهر في غضب وقد وعى سخريته المبطنة فقال :

- لماذا لم ترحل مع الراحلين؟

وابتسمت نور وهي ترقب رحيل المصور، وقد بدأت تستعيد كامل طاقتها على كرسي الخيزران، قالت لمظهر :

- أريد مفاتحتك في أمر مهم.. 

 

 اقرأ أيضاً : 

           الفصل الأول:  لقد أعماها الحب

الفصل الثاني: المعنى الغائب

الفصل الثالث : لا أجد ولا أرى غيره

الفصل الرابع : اجتماع عائلي في مسرح سيد درويش

الفصل الخامس : ولتغفر لهم

الفصل السادس: لقد جئت إليَّ رسولاً منجداً

 الفصل السابع: نقاش حول غوته

الفصل التاسع: حول الهيمنة الأمريكية

الفصل العاشر: صراع في كنف الغروب

الفصل الحادي عشر: أوهام في معبد الرأس السوداء

الفصل الثاني عشر: يوم انفجر الأمل

            الفصل الثالث عشر: سأعود كي أسترد حقي ممن تبلَّى عليَّ

الفصل الرابع عشر: قلوب حائرة

الفصل الخامس عشر: أمل الحياة

الفصل السادس عشر: الفردوس في السماء لا في الأرض

الفصل السابع عشر: اعتذار

الفصل الثامن عشر: وجه آخر للحياة

الفصل التاسع عشر : أيام عصيبة في الجنوب

الفصل العشرون : نقاش في ستوديو التصوير

الفصل الواحد والعشرون : أيتها السماء.. فلتتركي السعداء وشأنهم

الفصل الثاني والعشرون : رجاء الحق

الفصل الثالث والعشرون : خطاب من فيفيان