روايات وقصص، استمتع بأفضل روايات الرومانسية وروايات الرعب وروايات التاريخ في موقع واحد.

روايات وقصص، استمتع بأفضل روايات الرومانسية والرعب والتاريخ والخيال العلمي والبوليسية في موقع واحد،

عشرات القصص المثيرة والحكايات في انتظارك.

2024/11/01

نقاش حول غوته

                   الفصل السابع: نقاش حول غوته


 

في باريس..

طرأ على زهير تحول غير مفهوم السبب أو مسبور القرار تأدى به إلى نبذ الحياة وهجرها، وقصد إلى غابة بولونيا فأقام فيها كوخاً ألحقه بأساسيات الحياة الأولية، كأنما يتغيا الطبيعية، ويتوخى بساطة المعاش، كانت عفاف قد سمعته يقول :"إن التكنولوجيا أمسكت بزمام البشر فصيرتهم إلى عبيد في فلكها البائس أقرب.."، وسمعته يقول أيضاً في تبرم وتسخط :"ما الثورة الصناعية إلا كارثة، وأما القرن العشرين فشر القرون طراً، والرأسمالية أحالت الوجود غابة مقننة، وقد صرنا نعيش فيما يشبه سباق الفئران ((Rat Race.."، وبررت الأم تحوله المريب إلى إخفاقه العاطفي وتحول إيفون عنه، وكانت متأثرة بالمثل الفرنسي الذي يقول :"فتّش عن المرأة.."، كان زهير يعود إلى الأم لدى رأس كل أسبوع في حالة يرثى لها فيقتبس من البيت ما يلهمه القدرة على الاستمرار، وسمعت جارتها تقول لها :

- إن حديقة بولونيا، وفي الليل، تكون أشهر مناطق ممارسة البغاء في باريس، لعله..

واقتطعت الأم تصورها فوصمتها بسوء التفكر، وسوء الحكم، ولكنها ما لبثت أن أدركت أن ثمة ماء أغور مما يبدو على السطح الضحل، أقام الشاب في كوخه إذاً يرسم ويتدبر، كان مخزون طعامه قد بدأ ينفذ فلم يعد في المقام إلا خبز قمين، بدا ينكرح كأنه دنا من الفساد، وقد خرج زهير يبحث عن الطعام كأنما هو العائش عيشة الإنسان الحجري في ثوب بسيط كل بساطة، يجول خضرة رائقة في جو الحديقة اللطيف، حتى إذا بلغ مبلغ هذه البحيرة التي يجتمع حولها العشاق انتابته غيرة بدائية شديدة، وتلمحهم في غيظ مكتوم، وإنه لفي حال من التلصص واستراق النظر، وخطا حتى لاح أمامهم، وعلى صورته المريبة غير الرسمية فقد بدوا (أي العشاق) دون الاهتمام به فلم يعظموا أمره ولم يظهر منهم إزاءه أدنى نكير، كان في يده قلم وبضع أوراق، وجعل يرسم أولاء المتحابين مبدلاً الخطوط والمعالم، لقد أبقى على البحيرة ولكنه حذف البشر فجعل حولها قبوراً وأجداثاً، وجعل يطوف بهم ليريهم ما قد رسم ففزعوا منه وأنكروا عليه تصوره، وقد مر بالجلوس الذين كان قوامهم ثنائي مزودج ما خلا واحدة بصر بها جالسة دون نظير، وقد بدت أنها - وربما لأجل انفرادها - دون تأفف الجميع من لوحته التي ضربت وئامهم العاطفي المصبوغ بأبدية ناعمة في الصميم بسهم قاصد مُثْقَف، وعاد إلى عفاف فقالت له :

- إن أصحابك في المجلة الفنية ينتظرون منك موضوعك الذي لا يكتمل عملهم إلا به..

وقال مشيراً إلى لوحة البحيرة :

- فلتمنحيهم هذه..

وقالت في أسف وهي تهب المرسوم نظرة رثاء :

- تحتاج إلى تغيير مناخ، لقد كان أخوك حسين على حال من الضياع قبل أن يعود إلى الإسكندرية، وما أراك اليوم إلا نسخة منه أشد تردياً وأضل فساداً..

وتولى عنها عائداً إلى داره ومعه مستلزمات جدد، يقول دون أن يعير حديثها أدنى اعتبار :

- الضياع هو ما يعيشه إنسان هذا القرن بعيداً من فطرته..

هبط القمر مجدداً وشاع ضياؤه في بولونيا، وتسلل الشاب إلى عين البحيرة، هذه المرة لم يجد إلا فتاة واحدة، فتاة الأمس، وقالت لما رأته يقترب منها :

- "لقد نفر الجميع من الحضور هنا لما علموا بما اقترفته، شاعت سيرة الأرعن الذي يضايق الجلوس في بولونيا، وقريباً سيطردك الأمن..".

  اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات

 

 

وهاله أن يبقى في الموضع القلق ريثما يجيء من يطرده، ووهب محيطه نظرات جُبلت من ريبة بعينين مرهفتين، ثم اقترح عليها أن تصحبه إلى الكوخ، وتحيرت في أن تطاوعه في خضم الظلمة الشاملة، علاوة على ما كان يبدو لها من أمر الشاب من غرابة الأطوار التي تشفي على الخبل، ولكنها صادقت على اقتراحه، وثارت في إثره طواعية وسماحاً، ووجدت في الكوخ عشرات من اللوحات المرسومة بعناية باهرة فأكبرت ما رأت وقالت :

- "موهبة ضائعة بحق (نطقتها بالإنجليزية : (wasted potential ..".

كان في اللوحات سجل مرسوم لشخصيات كنيوتن ودافنشي ويوهان غوته وغيرهم، وقد بدا أن الرجل وضع شخصياته المفضلة على حائط الكوخ وألصقها مستخدماً الغراء بعد أن بدل بعض ملامحها، فهذا نيوتن بشعر قصير، وذاك دافنشي الأمرد، وأما غوته فيبرز وحوله رموز جمة، هي دلائل لمجالات شتى امتهنها وبرع بها، وقال زهير لها :

- "أصاب غوته سهماً في كل طرف، كان سياسياً، رساماً، لاهوتياً، رجل دولة..".

وانتهى إلى التعداد الطويل لهاته المهن التي قد شغلها الرجل ثم ألحق حديثه المسترسل بالقول :"لعله (أي غوته)، ولموسوعيته هذه كان أزكى البشر طراً،.."، ثم في تأمل وتحقق :"أكثر نباهة حتى من أينشتاين ونيوتن.."، ومضت الفتاة تنطق بأسماء الشخصيات التي كانت على علم ببعضها القليل فيما يخفى عليها بعضها الآخر، حتى استوقفتها صورة الإسكندر التي جهلت بها وإن أخذت ببذلته العسكرية وحصانه الجامح يقاتل به شاه إيران دارا الثالث، وسمعت زهيراً يقول وهو يدقق بعينيه الحساستين وسط الضوء الشحيح الذي يتسرب من مصباح علوي مكشوف السلك، مدعوماً بضياء القمر الحليبي في خضم الظلام المهيمن:

- "إنه الإسكندر، هكذا رأيت لوحته الفسيفسائية في متحف نابولي الوطني للآثار حين زرته قبل أعوام، لقد أشاد الرجل مدينة أبي، وعشرين سواها من مثلها حملت اسمه، قيل عنه كثير، وكثرته الكاثرة خرافات محضة، لم يهزم الإسكندر قط في معركة وأقام إمبراطوريته من سواحل البحر الأيوني غرباً إلى سلسة جبال الهيمالايا شرقاً ! (ثم  وهو يبتسم..) لقد ملك المشارق والمغارب إذاً وانتهى إلى هذا الكوخ في بولونيا..".

وأبدت الفتاة شوقاً إلى مدينة الإسكندر، وقد بدا أن ريبتها من الشاب قد تسربت في خضم ما بصرت به من تصرفه، وما سمعت به من حديثه الطبيعي، وقالت :

- "هلا انتزعتها (أي اللوحة)؟".

ألان زهير الغراء - الذي كان يربط اللوحة بالجدار الخشبي - مستخدماً إسفنجاً مبللاً بالماء والصابون، واستعمل أداة للكشط، فلما انتهى جعل يقول مبتسماً كأنه يحدث من كان في اللوحة وصار في يده :

- "ها قد تحررت من سجنك على هذا الحائط، لقد كان أجمل السجون حيث كنت وسط أقرانك من عباقرة التاريخ وأعاظمه..".

وأمسكت الفتاة باللوحة في رضا تقول :

- "أريد أن أزور مدينة الإسكندر !".

فما كادت تتمها حتى سمعا صوتاً خارجياً لضابط فرنسي يحدث صاحبه الذي آنس ضوء الكوخ من مبعدة دون أن يحدد موقعه على الدقة، وعاجلها زهير يقول :

- "لابد أن أطفئ الأنوار، سأبقى هنا، ولنتقابل غداً لدى البحيرة في عين ميقات اليوم..".

وتركته إلى الباب ولكنه أزاد يسألها :

- "عفواً، وما اسمك؟".

وأجابته وقدمها بالكاد تترك مساحة الكوخ :

- "ألكسندرا، إن اسمي ألكسندرا !". 



 اقرأ أيضاً : 

           الفصل الأول:  لقد أعماها الحب

الفصل الثاني: المعنى الغائب

الفصل الثالث : لا أجد ولا أرى غيره

الفصل الرابع : اجتماع عائلي في مسرح سيد درويش

الفصل الخامس : ولتغفر لهم

الفصل السادس: لقد جئت إليَّ رسولاً منجداً

الفصل الثامن: عواقب عملية رمضان

الفصل التاسع: حول الهيمنة الأمريكية

الفصل العاشر: صراع في كنف الغروب

الفصل الحادي عشر: أوهام في معبد الرأس السوداء

الفصل الثاني عشر: يوم انفجر الأمل

            الفصل الثالث عشر: سأعود كي أسترد حقي ممن تبلَّى عليَّ

الفصل الرابع عشر: قلوب حائرة

الفصل الخامس عشر: أمل الحياة

الفصل السادس عشر: الفردوس في السماء لا في الأرض

الفصل السابع عشر: اعتذار

الفصل الثامن عشر: وجه آخر للحياة

الفصل التاسع عشر : أيام عصيبة في الجنوب

الفصل العشرون : نقاش في ستوديو التصوير

الفصل الواحد والعشرون : أيتها السماء.. فلتتركي السعداء وشأنهم

الفصل الثاني والعشرون : رجاء الحق

الفصل الثالث والعشرون : خطاب من فيفيان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق