روايات وقصص، استمتع بأفضل روايات الرومانسية وروايات الرعب وروايات التاريخ في موقع واحد.

روايات وقصص، استمتع بأفضل روايات الرومانسية والرعب والتاريخ والخيال العلمي والبوليسية في موقع واحد،

عشرات القصص المثيرة والحكايات في انتظارك.

2024/11/29

لقد أغراها بالوهم

        الفصل الأول: لقد أغراها بالوهم

في ألمانيا الشرقية..

أقام مظهر في بيت صديقه الألماني أرثر لما شقت عليه الوحدة، وقد تأثرت نفسيته في البلد البارد حين كان يستمع لأصداء الثورات التي أطاحت بالدول الشيوعية في أجزاء من أوروبا الوسطى والشرقية فيما عرف بـ"خريف الدول"، وقال لصاحبه :

- "عجباً لأولاء القوم، يلفظون ما ينفعهم، بولندا فالمجر، واليوم هنا، وغداً في بلغاريا وتشيكوسلافاكيا ورومانيا، وهلم جرا..".

وذكر شيئاً عن حديث أحد أعضاء المكتب السياسي لألمانيا الشرقية الذي قال فيه مسفهاً من دعوات التغيير: «عندما يعلّق جارك خلفية جديدة، فهذا لا يعني أن عليك فعل ذلك أيضًا»، ثم انفعل يقول وهو يضرب بالكأس على سطح طاولة البيت الخشبية :

- "لقد خسرت مهنياً، واليوم أخسر في ميدان الفكر، أحلامي كلها انقض بناؤها.. ماذا بقى لي؟".

وكان أرثر يجيب انفعاله بوجه بارد مريب، قال :

- "عذراً، سيدي، زوجي تشتكي وجودك في هذه الدار، إنها تصفك بالعصابي الذي يضر بمناخ تربية نجلنا أبراهام..".

- "هل تطردني من بيتك، آثر؟".

حزم مظهر حوائجه - رغم محاولة آثر التخفيف من حدة طلبه - من بيت صاحبه في ألم نفسي تتواتر طباقته، وتشتد غصته، كان الرجل لم يكف عن عادة مراسلة مصور الاستوديو السكندري، رغم حقيقة أنه لم يتلقِ منه جواباً، وحين عاد إلى مكتبه ووحدته كتب يقول :

- "عزيزي المصور..

لا أعرف إن كانت رسائلي السابقة قد بلغتك في الإسكندرية، ولكنني بت أستسيغ صمتك وأرضى به، إن في حديثك ما يكشف جهلك، وإن في صمتك لحكمة، وما من خطأ يأتي به المرء وهو صامت،.. لقد انهارت أحلامي جملة، إن ثورات هذا العام 1989 مدبرة من قبل الإمبريالية العالمية، إن أشد البشر سذاجة لا يغفل عن حقيقة أن العدو يدبر لعدوه، ويكيد له، ومادمنا في إطار حرب باردة فالأمور كان يجب أن تمضي على حال الصراع المستور، وإني أسمعك تتساءل :

- ولماذا لا تقوى الشيوعية على حماية نفسها من المكايدين؟

ولعلك تبتسم في سرور منزه وتزيد تقول :

- عزيزي، لقد ماتت الشيوعية بالسكتة القلبية، لا بالضربة القاضية كما يروج بعض الأمريكيين، وإن مآل المحور الأحمر لاحتوائه على أسباب الفشل البنيوي والإفناء الداخلي (ولعلك تصطفي عبارتين أكثر تعقيداً من هاتين لتضفي على زعمك الذي وافقه الواقع شيئاً من عمق المثقف) إلى زوال، بلا، بلا..

وإنه سؤال بائس، مر، ذو وجاهة مع هذا وذاك، وقد حيرني في ليلات أرقي،.. وقد عانيت مشكلات في التنفس عسيرة متعذرة، لقد قصدت إلى الطبيب الذي شخص حالتي يقول في حياد :

- "أنتَ مريض بسرطان الرئة..".

وأشهد أني لم أعجب ولم أخف، إنني احتقر المرض، ربما أزعجتني نبرة الطبيب اللامبالية، وقد قال لي صديقي أرثر أن الجفاف الإنساني آفة الأمور في ألمانيا، وقد طردني الرجل عينه اليوم من منزله - في مفارقة عجيبة - لما كنت مفسداً - بزعمه البائس - لمناخ التربية القويمة الذي يصطنعه لنجله الصغير أبراهام بتوصية من زوجه،.. إنني مدخن شره، وقد أمهلني الله طويلاً، وأقسم أنه قد منحني فوق طاقتي بالحياة واحتمالي لها، وقد آليت على نفسي أن أتعامل مع الداء على أنه نزلة برد، أجل، إنه نزلة برد مزعجة، وحري بالمرء أن يتجاهل ما يحتقره، وأن يعتزل ما يؤذيه،.. لعل هذه تكون آخر رسائلي إليكِ، إن شبح الانتحار يلوح لي حلاً ناجعاً في كل يوم، إن غاية الآدمي أن يتحرر من كل شيء، ولما كان الألم في رأس المقيدات، فالموت في حالتي حرية وخلاص، وسأضرب به عصفورين بحجر واحد، سيعلمون بما قض مضجعي، ستقرع فاجعتي طبول الاهتمام، إنني إن أزعجت الوَرَى أيقظتهم، ولعلهم ينتبهون إلى قضاياي بعد أن ينقموا عليَّ تصرفي، فإذا هم نصروها (قضاياه) بعد مماتي عشت آجلاً طوالاً، وإذا هم ذكروها بعد خاتمتي قدر لي امتداد هو فوق محياي، ولعلي أصنع بموتي ما عجزت عن القيام به في حياتي..".

وحدث أن أوفى مظهر بما قد كتب فأنهى الرجل أجله (حقن الرجل نفسه ببعض الأملاح الطبيعية)، وسرعان ما تصدر خبره صفحات الجرائد المصرية، وقد أوصل المصور برسالته الأخيرة إلى أيدي الصحفيين، قرأت نور رسالة الرجل من هذا السبيل إذاً فلم يحن لها فؤاد، ولم تتحرك لها مهجة، وعدت نهايته الانتقام العادل للسماء، ورأت كفتي الموازين تستوي في شدة صارمة..

 

في العامرية..

كان الشيخ فوزي قد زار صديقه هزاع فاستقبله الآخر في حفاوة عزيزة المثال، أكبر هزاع خطوته وزيارته، وقد كان في ثوبه وبيته أثر نعمة الرجل على منوال صارت معه المجاملة الزائدة إحياءً للاعتراف بالفضل، وإقراراً بالمعروف مقبولاً،.. أجلسه هزاع على الأريكة الصناعية إذاً وقد شُغل بتفسير أسباب حضور الرجل دون جماعته، فسأله وهو يعد لضيفه شاياً بالنعاع البري (ذكر هزاع شيئاً عن فضل هذا الصنف من النعناع بالتحديد في تنحيف الأبدان الممتلئة كبدن الشيخ) :

- وما منعهم أن يحضروا؟

وأجابه :

- حضرت لمناقشتك في مسألة شديدة الخصوصية..

وحدس هزاع بأن الرجل يسأله الزيجة بابنته فحار ملياً، قال وهو يضع يديه على التيل الفاخر من لباسه :

- لقد أغراها (صالحة) شاب الألسن (رؤوف) بالوهم الذي في يده، والقدرة الزائفة التي هي تحت تصرفه، كان يبدو ساحر اللسان حتى لقد يُخفي ببيانه فراغ يديه، وقد أغلقنا بابها بعد أن أنجبت منه "عائشة"، وقد أوشكت أن تضع بعد الأولى "أروى" وليدتها الثانية، الأحفاد نعمة لا يعمل لها المرء حسباناً، ولا يضعها في تقدير أمنياته، إنها تباغته بمتعتها..

  اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات

وتركه فوزي يسرد ما في نفسه كأنه يدخر أمراً ذا أهمية، أشبه إلى لاعب الكوتشينة يحتفظ بالولد في يديه ويستخدمه متى ازدحمت ساحة اللعب بالأوراق، وسأله :

- أنت تقول عنه (أي رؤوف) أنه ساحر اللسان صفر اليدين،.. فهل خبرت بنسبه وأصله؟

وتوقف هزاع عن انشغاله بإعداد المشروب للرجل، وكان في يده - لا يزال - النعاع البري، قال :

- إنه أفندي جامعي، ولأبيه ورشتان.

نهض الشيخ فوزي عن جلسته على الأريكة الصناعية يقول :

- وأسفاً، ما هو بالساحر إذاً بل هو المزور،.. أما خبرت بحقيقة بغاء والدته؟

ثم ألقى فوزي على الرجل المأخوذ السلام ومضى عنه كأنه الجندي يضع لغماً ثم يستتر، فار الشاي ذو النعاع البري إذاً حتى فاضت أبخرته دون أن ينتبه هزاع إليه، كان في بواطنه فورة هي أشد وأنكى، لقد مس حديث الشيخ هذا الطُّهْرُ المتوهم الذي كان يعيش في كنفه، وقد صدقه الرجل لما كان يرى فيه أنموذجاً لسخاء اليد لا يناسبه وضاعة الإفك، وقد انفجر ذاك اللغم في بيته فهانت في وعيه كل الأنعم الوافدة، لم يعد الرجل يحتمل رؤوفاً ولا سيرته، وأفصح لصالحة بما لديه، فسألته :

- هل تصدق الشيخ حقاً؟

وأجابها يقول كأنما حمله تصريحها بشكها في صاحبه على التورط في مفاخرة جوفاء :

- إن فوزي مني مناط الثُّريَّا،.. هل أظهرك زوجك على شيء من حقيقة والدته المتوفاة وعملها؟

وأجابته على سؤاله بسؤال، كأنما هي لم تسمع قط لحديثه :

- لماذا لا يكون الشيخ يفتري عليه الكذب؟

- وما غرضه في أن يسيء إلى شرفه وسمعته؟

- إن غرضه معروف..

وكانت تقصد أن الطعن في نزاهة نسب زوجها سيفتح الباب لطلاقها منه، وحين يقع الطلاق فالمرأة حرة كي تتزوج بالشيخ الذي سيكون بدوره الأصلح عملياً لخطبة يدها، حار هزاع حيرة حسمها سريعاً، قال كأنه ينبذ خيالاً كريهاً :

- لا أحسب أن أخلاقه (أي الشيخ) تسمح له بمثل ذاك الافتراء..

وأزعجها أن ينزه صاحبه عن مثلبة الكذب على حين يستسيغ الطعن في نسب زوجها، قالت في وجه جاد وإن احتوى حديثها على تندر خفيف الوطأة :

- لقد سمحت له أخلاقه بإشعال فتنة العامرية..

وأجابها الأب كأنما يردد أصداء مناجاة باطنية :

- لم نرَ من رؤوف إلا غشاً وزيفاً، ولم أعهد عن فوزي إلا خيراً وجوداً، بربك،.. أأصدق من استباح وأبوه حرمة المسجد فجعل فيه المدروف والطبل وقفصاً لتربية الطيور الملونة أم أصدق من له لحية بطول ذراع، هذا الذي يقصده الجاهل والعالم في مسجد الشرقاوي وغيره بما اختلفوا فيه من المسائل فيردهم إلى الحق؟ إن هاتين لمِسْباران لتقدير صاحب الرواية الصادقة..

وبدا لها هزاع متأثراً - أكثر مما يجب - بمظاهر النعمة التي كان للشيخ فضل فيها عليه، ثم هو يقرن بين فضيلة الصدق - هاته التي يصح أن تنبت في نفسية التقي والعامي - وبين العلم بالدين،.. قصدت المرأة إلى المسجد في مباشرة - وقد ارتأت أن خير السهام ما كان بلا عوج - كيما تسأل زوجها عما اشتبه عليها من الأمر، كان رؤوف يحض المصلين على أن يزنوا بالقسطاس المستقيم، ثم ألا يخفوا من الأمور خافية غير هاته التي تستحق الستر، وتوقفت عند الأخيرة ملياً حتى استغرقتها وشردت فيها عن غيرها، وسألها حين أتم خطبته وهو يأخذ يطعم الببغاء الذي كان يضع قفصه قرب حنفيات الوضوء، قبل أن يشتكي المصلون اشتكاءً حمل الرجل على أن يودعه (الببغاء) قرب الباب عند الأحذية - لما كانت أبعد المناطق من العبادة - بتوصية منهم (المصلون)، لقد كان يغذيه بالفاصولياء النيئة والجزر فيخيريه أيهما أحب إليه وأطيب مذاقاً :

- ماذا جاء بك إلى مجمع الرجال؟ أما كان حري بكِ أن تستريحي في البيت قبل أن تضعي البنت (أروى)؟

وأظهرته على ما لديها، وأجابها يقول وقد أُخذ ملياً حتى توقف عن إطعام الببغاء فأمسك عن إلقاء ما كان في يده من الفاصولياء التي مالت إليها شهية الطائر الملون الأسير فوق الجزر :

- أنى لكِ بهذه؟

وهالها أن الرجل يسألها عن المصدر دون أن ينكر الأمر الجلل من جذوره، ما عادت التهمة شبهة إذاً، وما هي باختلاق في ذهن راغب، ومكثت تضغط عليه كيما تستنطقه، تسأله :

- أكانت أمك امرأة سوء؟

وجعل الببغاء يردد سؤالها حتى شق عليه الأمر فمضى عنها وعن الطائر إلى خارج المسجد، ولحقت به المرأة فقال في لحظة أشبه إلى صفاء البوح :

- امتهنت نرمين بضاعة الجسد كيما تجد ما تطعم به أخوتها، حتى إذا تزوجها مراد أمسكت عن الأمر إمساكاً محموداً..

وغضبت من حديثه، فسألته :

- أتراني من الغفلة حتى تخفي عني أمراً على هاته الأهمية؟ ليت عمري! إن نعجة كانت لتحب أن يستشيرها حاديها حول اتجاه المسير، وقد خيرت الببغاء لتوك في طعامه ونسيتني، وما أنا بمصدقة لكَ.

وأرهقه حديثها، سألها :

- وما صالحه (أي الشيخ) في أن ينبش سيرة امرأة متوفاة؟ ألا يزال يطمع فيك بعد عائشة وهاته (يشير إلى موضع الطفلة أروى من جسدها)؟

وكان أحد المصلين قد خرج لتوه من بوابة المسجد المزخرفة فسمع سؤاليه والتفت إليه ملياً ثم مضى عن الاثنين كأنما انطوى على دهش وعجب لحديث "الإمام"، وأجابته تقول :

- لقد تحدث الشيخ بالحق الذي لا يجب أن يكون له أوان للنطق به.

- هل صرتما صديقين؟

وساءها الأمر فعبست وتجهمت، قالت :

- بماذا سنجيب عائشة - أو أروى إن قُدر بعد ولادتها وكان لها عين الشغف بالاستفهام نفسه - إذا هي سألت عن مهنة جدتها؟

وقال في شيء من استهتار، مما لا يناسب السؤال :

- لن تسأل الصغيرة، إنها أذكى من أن تنشغل بأوزار الماضي،.. (ثم كأنما لمعت بواطنه بألق رقيق نبيل يخفي جرحاً..) ولو أنها سألت - فهبطت بما آمل أن يكون لها من فطنة أبيها - فسأذكر لها شيئاً عن حقيقة المسارات الكريمة التي تجعل للبشر فرصاً أفضل في الحياة، مما كان غير متحقق لجدتها وتوفر لها.

وقالت في عجب :

- وكأنك تبرر لها ! عرفنا مما عرفنا أن الحرة ترضى بأن يهلكها الجوع ولا ترضى أن تأكل بثديها.

واستفحل بينهما الخلاف حتى استحال تداركه، تركته المرأة في غصة وألم، وجمعت عزائمها على أن تقيم في شقة استأجرتها بمنطقة السيوف لما كانت تسمع عن ميدانه الرائع (حديقة دوران السيوف)، وإذ المرأة لا تطيق إذعان أبيها للشيخ المتطلع، فإنها تضيق ذرعاً باستهتار زوجها وتستره، لم تكن طامتها في أن تطلع على وجه الحقيقة المؤلمة، إن الذي حجب من الحقيقة رأسها كالذي تحايل فنطق زوراً، وقد تحايل رؤوف بصمته عن الحقيقة إذاً فكان علمها بتلاعبه ثالثة الأثافي، إن هو إلا هزة عنيفة ضربت بناءً ذا أدوار وطوابق هو من المصداقية والحب، إن بمقدور بناء كهذا أن ينهدم في ضربة، وإن تكلفت إشادته السنون الكثر والمواقف الجمة، إن الثقة هي شعور بالديمومة والأبد، وسلام لا ينازعه ريب السؤال،.. عاد مراد إلى قفص الببغاء وقد كانت حبات الفاصولياء الباردة قد استحالت إلى حقيقة دافئة من طول قبضه عليها وفي خضم النقاش الساخن، الصامت منه والمعلن، كان الببغاء الملون لم يكف عن ترديد العبارة التي تستفهم حول سيرة الأم، وذكر رؤوف شيئاً في زجر الطائر على شاكلة :" أيهذا الصفيق ذو الريش الملون ! أتعس بقريحتك ! لن أطعمك اليوم جزاء سلاطة لسانك، وما نبذك المصلون فساووا بينك وبين الأحذية عبثاً.."، وعاد يقول له كأنما أشفق عليه من شفقته على ذاته، بعد انعدام الآدميين من محيطه بفروغ المسجد من مصلييه وانصراف زوجه عنه :

- بحق منقارك الحاد،.. ما جريرتي فيما اقترفته أمي قبل عقود؟

 وحرك رؤوف رأسه في تندر كأنما تراءت له الحقيقة بناءً هزلياً يحرص عليه البشر مع ذاك حرصاً هو عجب عجاب، إنه يتساءل دون نطق ويجيب بغير لسان :"هل ينتقل دنس الخطيئة عبر الأجيال؟ وإنهم قائلون : فلا يرفع رأساً، ولا يطلب عزّاً، مع أنه لم يرتكب شيئاً، العار كل العار على من رضى بمثل هذا الميزان.."، ورمى بحبات الفاصولياء في غضب فجعلت تدحرج بدورها بين أرجل المارة، منتهية في سعيها المشتت إلى قرب ناصية السبيل، فما كان من الببغاء المكرر إلا أن ردد سؤاله المنطوق الأخير :

- ما جريرتي فيما اقترفته أمي قبل عقود؟! 

 اقرأ أيضاً : 






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق