روايات وقصص، استمتع بأفضل روايات الرومانسية وروايات الرعب وروايات التاريخ في موقع واحد.

روايات وقصص، استمتع بأفضل روايات الرومانسية والرعب والتاريخ والخيال العلمي والبوليسية في موقع واحد،

عشرات القصص المثيرة والحكايات في انتظارك.

2024/11/27

لقد صفحتُ عنكِ

     الفصل السادس عشر: لقد صفحتُ عنكِ






في باريس..

كانت ألكسندرا قد أفصحت لصديقها زهير عن رؤيتها للضابط الفرنسي الذي تسبب ضربه بالأنبوب الحديدي في رحيلهما عن باريس قبل أعوام، وقالت في اشمئزاز كأنه ستتقيأ :

- رأيته يقضي حاجته متخفياً بين الشجر، وأحسبه على خفة عقلية يسهل معها إقناعه بالتنازل عن حقوقه في القضية القديمة..

وصدق حدس الفتاة فاجتمع ثلاثتهم قرب الكوخ، كان للضابط فم كبير يتسع ليصل إلى قرب شحمتي أذنيه، وكانت عيناه واسعتان تمضيان في محيطه دون رزانة أو حكمة، وأما جبهته فأصغر مما يجب، وقال الرجل وهو يمس أثر جرحه القديم الذي اندمل، وإن بقى له لا يزال بعض أثر - قال لألكسندرا :

- "لقد صفحتُ عنكِ، أيتها الرعناء..".

وعلا البِشر هذه الوجوه المرتقبة حتى تملص زهير من تنكره في ثوب العجوز، ولكن الضابط عاد يقول وهو يهب المستبشرين ابتسامة بلهاء:

- "ولكن.. لكل صفح ثمن..".

وسأله زهير في لهجة حازمة :

- "اطلب ما تريد لنفسك ولا تتزيد..".

وأجاب الضابط في زهو لا مبرر له :

- "أصبت يومذاك بالارتجاج الذي كاد عمري يُقصَف معه، ولن أرضى بأقل من إحدى عشرة لوحة يرسمها لي صديقك الموهوب..".

وعلى ذاك قضى زهير أسبوعاً ثقيلاً - تناسى فيه مضطراً مشكلاته مع الحداثة والمعاصرة - يرسم مراد الرجل، وقد عنونه (الأسبوع) في صفحات مذكراته :"أسبوع من التأمل في الوجه الأبله.."، وحتى لقد حفظ الرجل تفاصيل وجهه وإن تغاضى - بناء على طلب الضابط نفسه - عن تصوير جرح الأنبوب الحديدي الذي أحاله إلى حمرة صحية، وقد رفعه (وجه الضابط) - بتدبيلات بسيطة وعلى نحو يشفي على تأثير معجزة - إلى مستوى الوجوه المشرقة الملائكية الطوباوية، وذيل صفحات مذكراته يقول :

- "وقد خلصت عبر هاته التجربة إلى قناعة مفادها أن 99% من الوجوه هي رائعة ناضرة لو أنك غيرت فيها شيئاً أو بدلت اثنين، إن أنفاً ضخماً كأنف المهرجين أو أذناً هي ذات شحمة هائلة لهو مما يُفسد بناءً كاملاً من الجمال المقبول، لقد كان الضابط أقرب إلى جزار لحم خنزير أخرق ومعتز بنفسه، وقد استحال بعد كثير من العمل إلى شيء مما كان يُنقل في أوصاف القديس زكريا الراهب..".

 وضعت لوحات الضابط الحادية عشرة في محاذاة لوحات ألكسندرا، وحضَّر منظمو المعرض إحدى الأمسيات موعداً لـ"ظهور الفنان الذي عرف في باريس بفنه دون أن يُستدل على هويته أو تُسبر ملامح شخصيته.."، وتقدم زهير إلى هذا الحشد يقول :

- "لقد اضطررت إلى الهجرة من هذا البلد، وإلى التنكر في ثوب عجوز، ولكن رسالتي الفنية - مع هذا وذاك - وصلت إلى مستقبليها في الوقت الذي لم أقدر لها أن تصل فيه لأحد، ولا غرو، لقد حاز شكسبير شهرته الحقيقية في القرنين السابع والثامن عشر، أعزائي، لقد حاز أكبر الشعراء المسرحيين في تاريخ الأدب الإنجليزي مثابته التي استحقها دائماً في الوجدان العالمي بعد وفاته في أوائل القرن السابع عشر،.. سادتي، لا تفقدوا الأمل في أن يصل كل كريم وصادق وأصيل إلى وعي البشر، وأما محنة الوصول وإن أرهقت أصحابها فهي دون قيمة الرسالة، وإن صحة الفن من صحة الحضارة..".

وأشار الرجل إلى ألكسندرا كي تتقدم فمرت في مسار لوحاتها حتى وقفت إلى جواره، وقال :

- " لقد كرهت التكنولوجيا في هذا العصر المضطرب، وقناعتي هذه لا تستقيم مع إقامتي في قلب واحدة من أكبر الحواضر العالمية، ولن أشعر بالسلام في حياة هي في جوف ناطحة سحاب وسط آلاف المستعدين لإهدار أعمارهم في سبيل التنافسية، لقد جئت أحدثكم بقلب صافٍ وضمير لا كيد فيه، وقد أقنعتُ ألكسندرا بالزواج في هذا الكوخ البسيط، ستنقل اللوحات إلى معرض مستقل وسأخصص بدوري ريعه إلى الحكومة الباريسية لقاء تركي هنا، في كوخ بولونيا، ولتباركوا هذا الزواج في نفوسكم، وقلوبكم.. All's well that ends well (العبرة بالخواتيم)، هكذا قال شاعر آفون الملحمي نفسه (أي شكسبير)" !

 

في زيزينيا..

توثقت الصلات بين حسين وبين زوجه ابتهال بعد وفاة زهران، وانتفى داعي الخلاف بين المتحابين بعد أن قدرت المقادير إيلاج نصلها المميت في جسد الأب المتطلع، وقالت له الفتاة عن أبيها الراحل :

- الأيام تتواتر دون أن أنسى ذكراه أو تنساني، كان سنداً متيناً لي ولأخي داوود، ونجدة للملهوف والحائج كأنه نبات الْعَوْسِجِ يَلُوذ به الطير خوفا من الجوارح، يطيب المجروح إذا أتاه ويخشاه الوحش إن مر به، ثم هو خير الرجال..

وتطلع إليها حسين في عجب وقد حسبها تتحدث عن شخص غير الذي قد عرف وعاشر، وكان يلاعب إياد ومليكة على سجاد مخملي بأجسام بلاستيكية لقصر وعرائس أطفال ماريونيت يحركها بالخيوط (يسمي دمية الرجل بإياد، والبنت بمليكة)، فاستأنف قصته - وقد ارتأى في الجواب على امرأته إفساداً لاسترسال ما قد بدأه وأشفى على النهاية - يقول في صوت حالم :

- وهكذا ملك أياد القصر، وساد رعيته بالحب والإخلاص..

وصفقت مليكة في لطف وبراءة، فيما بدا أن إياداً لم يعجب ملياً بالقصة الطفولية، ونهض حتى أشار إلى قصر الصفا الحقيقي عبر شرفة البيت، يقول :

- أبتِ : إنني أقدر نهايتك السعيدة التي اصطفيتها للقصة المتأرجحة وجهدك في جعل الأمور تبدو رائعة، ولكن قصرك صغير ضئيل، إنه بالأحرى خيال زائف،.. أنى لي بمثل هذا (يريد قصر الصفا)؟

وقالت ابتهال وقد تهللت وعجبت :

- أغريته بالقصر الصغير حتى استحل الكبير.

وقال لها زوجها وهو يأخذ ينهض عن السجاد المخملي :

- لإياد أن يستحل ما يشاء.

وذكرت له شيئاً عن مساوئ التربية المدللة التي تفرز شخوصاً نرجسية، وتوجه إليها ملياً يقول كأنما يعيد فتح الموضوع الذي أرجأه :

- إن خير الرجال ما كان له أن يتهالك على جمع الأموال وزيادتها عبر المقامرة، وقد كان لديه من المكر ما يكفيه وغيره..

وخفضت رأسها تقول :

- أجل، لقد قصف الْمَيْسِرِ عمره في مقهى سبورتينج على يد ثُلَّة من الأوغاد المقامرين، إن خنازير تستحم في وحلة من طين لهي أشرف سريرة منهم وأنبل باطناً، (وخفضت رأسها أمام نسمة هواء تقول..) لقد دفع جزاءً فادحاً لقاء إصراره على ما كنت أحذره من الإيغال فيه دائماً !

وكان في البيت المترف كراكيب زائدة ومتعلقات بلا جدوى عملية راهنة، وكان من بين هاته صندوق احتوى على بعض وثائق قديمة متربة، وجعل حسين يقلب ما فيها يقول :

- هذا بيان إخلاء لبعض البيوت مخافة غارات الألمان، وقد تأبى جدي التوقيع عليه معللاً - في روح دينية قدرية - بقدرة الموت على إدراك البشر في البروج المشيدة، وهو (البيان) بلا أهمية بعد انقضاء هذه الحرب القديمة المجنونة (يريد الحرب العالمية الثانية)،.. وتلك نتائج الانتخابات النيابية لمنطقة كرموز وغيط العنب في العام 1944م، وقد فاز فيها جدي، المرشح المستقل وسط حيتان الحزبيين آنئذٍ، وهي أيضاً بلا قيمة بعد أكثر من عقود أربعة، وقد ماتت الحياة السياسية فعلياً..

  اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات

وكانت ابتهال تقول لزوجها كأنما ترد له قدحه في أبيها زهران من بوابة خجولة :

- إنه صندوق أبيك يوسف، وهبه لكَ لما كان زائداً في سكناه، وقد رأيته (أي الصندوق) يقبع في ظل سلم بيته الخشبي اللولبي وقرب طاولة البليارد في زيارتي الأخيرة لمقامه، لقد تخلص من أوراقه الزائدة على حسابك..

وقال لها فيما يقبض (يكرمش) على ورقة في يده :

- معذرة، سيدتي المتحاملة،.. أخطاء يوسف لا تقارن مع خطايا زهران!

وذكرت له شيئاً عن ذكر محاسن الموتى فيما نهضت المرأة تحمل مليكة التي استخفها النوم على البساط المخملي - أقول نهضت تحملها إلى حجرتها، ومكث حسين وحده - فيما يبدو - في عزم يقصي هذه الأوراق غير المهمة فيما يحتفظ بذات الأهمية، وقد كونت الأولى (غير المهمة) كومة أشبه إلى تل كبير، فيما صغرت كومة الثانية (المهمة)، وجعل يتمتم قاصداً أباه يوسف : "لقد أرهقتنا حقاً بكل هذه الأوراق.."، ولاحظ في خضم استغراقه في هذا الفرز والفحص والتمتمة أن نجله إياد ما لبث يفتش في الكومة الكبيرة عن ورقة ما، وقد أخفت الكومة بتكوينها الكبير تكوينه الصغير وإن بقى له - لا يزال - صوت مسموع، ونهض حسين ثم استدار عن الكومة إلى طفله يسأله :

- عم تبحث،.. أيهذا الشقي؟!

وأجاب الطفل في خجل من انكشف أمره :

- الورقة الثانية..

- ورقة الانتخابات النيابية؟

وأجاب الابن وقد ظهرت أسنانه التي كانت على غير اكتمال وعلى غير استواء، ما جعله بضع تقويماً للأسنان خزفياً :

- أجل، هل يملك النائب قصراً حقيقياً؟

وأجابه الأب أن كلَّا، ثم أردف يقول :

- ولكنه ينوب عن دائرته ناهضاً بالتشريع والرقابة..

- أهما فوق امتلاك القصر أهمية؟

واهتز رأس الأب كأنما لا يعزم على أمر إلا ويعود يرتد إلى ما كان عليه من الحال الأول، ولكنه اهتدى إلى الجواب الذي وجد فيها صرفاً لتطلع نجله عن المستحيل الذي يبتغيه : امتلاك قصر الصفا، فاستقر عزمه على كلمة سواء يقول :

- ربما،.. القصور مقامات باقية لشخوص عابرين، وأما التشريع والرقابة فيؤثران على مصائر جيل بأكمله، إنهما - في الحق - من يشيدان القصر ولو من سبيل غير مباشر في الأنظمة الحديثة !

ونزع حسين الورقة الثانية - ورقة نتائج الانتخابات النيابية 1944م - من بناء الكومة الكبيرة كأنما يروم أن يحتفظ بها لنفسه فاختل تماسكه (البناء) وانهار قوامه حتى تداخلت أوراقه مع أوراق هاته الكومة الأصغر، هناك قال له الأب في نبرة هي بين الودية وبين الزجر :

- أرأيت ماذا صنعنا؟ لقد عدنا إلى الصفر..

وأجابه الابن الذي بدا متحمساً بعد خجل يقول :

- سأصير نائباً كجدي بهاء الدين..

وقال الأب وهو ينظر إلى فوضى الحجرة، وحركة الأوراق بتأثير الهواء الآتي من باب الشرفة المفتوحة :

- ليس قبل أن تعينني على الفرز، مجدداً..

 وتساءل إياد يقول :

- سأفعل لقاء أن تحدثني أكثر عن الأمر،.. سيرة جدي التي انطمرت ولم يبقِ منها إلا الأوراق البالية،.. وما معنى الرقابة؟

- بربك،.. إنك طفل.. (ثم والآخر يلح عليه..) إنها (أي الرقابة) أشبه إلى تقويمك الخزفي الذي تضعه على أسنانك فيرد عوجها.

وحضرت ابتهال - بعد أن انتهت من طمأنة ابنتها من عدم وجود الوحوش وقد كان للخزانة الخشبية الكبيرة في حجرتها رأس مزخرف مخيف، وغنت لها أغنية من تأليفها تستهين فيها من قدرة الوحوش - لو أنها وجدت - على المساس بالآدميين ثم قبلَّت جبينها - تقول بعد عودتها إلى حجرة المعيشة مستخفة وغاضبة :

- يا لسعادتي،.. بتنا نعيش في مكب قمامة، وكأن ما من رب يرعى شؤون هذا البيت !

ووجه الأب حديثه إلى الأم يقول منتشياً في غير سبب :

- لقد صرفته (أي إياد) عن وهم امتلاك القصر، والساعة يريد أن يصبح نائباً في مجلس تشريعي.

وأجابته في خيبة تقول :

- أراك صرفته عن كارثة إلى أخرى مثلها أو أشد..

وقال وهو يشير إلى أول الكتب المصفوفة في مكتبة من خشب البامبو:

- فلتقرئي له من هذا المجلد الضخم، لا يهم إن هو فهم أو أدرك مما سمع شيئاً، فتجربتي تدلني على أن من كان يقصقص الجرائد في صغره يحتمل أن ينتهي إلى مآل الاشتغال بالصحافة، والشغف مما يُكتسب باختمار الذكريات وتوالي الأيام..

ومكثت تقرأ له من موسوعة سياسية تقول :

- "وأما الطيف السياسي اليميني- اليساري فكانت تشير في الأصل إلى ترتيبات الجلوس في مختلف الهيئات التشريعية في فرنسا في مرحلة مبكرة من الثورة، وعلى هذا تخير أصحاب اليمين (ترفع يمناها) نصرة الملك وعرشه بجلوسهم ذات اليمين، فيما اجتبى أصحاب الشمال (ترفع اليد الأخرى) لأنفسهم سبيل المعارضة بجلوسهم ذات الشمال..".

وما تزال الأم كذلك حتى أغراه (إياد) النوم على البساط المخملي وقد أرهقت المادة المقروءة عقله الصغير وحملته أمه - كمليكة - إلى حجرته. 

 اقرأ أيضاً : 

الفصل الأول:   رأيت الطمع في عينيه

الفصل الثاني:  عسى أن يكون صدري منشرحاً

الفصل الثالث : صورة المُخلِّص

الفصل الرابع : إلى أين المسير؟

الفصل الخامس : الخواطر المستغرقة

الفصل السادس: نظرة أخيرة

 الفصل السابع: أسطورة شجرة النبق 

 الفصل الثامن: عودة فتاة فيلا لوران

الفصل التاسع: ألكسندرا في غابة بولونيا

الفصل العاشر: مصرع زهران بسبب مراهنات الكرة !

الفصل الحادي عشر: بكر يتحدى سلطة رجال القرية

الفصل الثاني عشر: حوار في مطعم جيوفاني

الفصل الثالث عشر: سلكت سبيل الحب ! 

الفصل الرابع عشر: حفل عرس في حمام شهريار

الفصل الخامس عشر: خطبة مارتن في سكة حديد بالتيمور

الفصل السابع عشر: إفناء العمر في الشقاء

الفصل الثامن عشر: كأنك تحكمين عليَّ بالهلاك

الفصل التاسع عشر : انطفاء شمعة لا يعود لهبها

الفصل العشرون : نفسيتي تتحسن حين أروي قصة




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق