روايات وقصص، استمتع بأفضل روايات الرومانسية وروايات الرعب وروايات التاريخ في موقع واحد.

روايات وقصص، استمتع بأفضل روايات الرومانسية والرعب والتاريخ والخيال العلمي والبوليسية في موقع واحد،

عشرات القصص المثيرة والحكايات في انتظارك.

2024/11/24

أسطورة شجرة النبق

              الفصل السابع: أسطورة شجرة النبق



في أبي تيج..

مكث الريف ولبضعة أشهر في هدوء يسبق العواصف، كانت أسطورة شجرة النبق التي بكت حزناً على بكر بالدم قد اكتسبت مزيداً من الطقوس الشعبية المسربلة بالخرافة، وجرت العادة على أن يتسلق الأطفال الشجرة يوم الجمعة - اليوم الذي اختفى فيه بكر- كيما يستخرجون "الدم" بقطعة من القماش من داخل شقوق الشجر، ثم يجري استخدامه في إبراء المرضى، والمأسوف عليهم من أصحاب العلل، وحدث أن نصر الله كان يتابع تسلق أحد الأطفال لشجرة النبق وسط تجمهر محدود لجماعة من الريفين كان من بينهم عجوز يتحرى الدواء من الشجرة العجيبة، ويلتمس الشفاء لأمراضه العضال من مادتها المسحورة، ولم يحتمل الرجل (نصر الله) ذو الخصال العنيفة أن تكون حديقته مزاراً لدهماء الريف فمكث يرمقهم في كبر وجفاء، ثم يتفحص هيئاتهم الذرية بعينين منكرتين، كان الطفل إلى غرضه في هذه المادة الحمراء قاب قوسين، أو هو أدنى، ومد يده الصغيرة ذات الحيلة إلى شق الشجرة المخبوء، وجعل يقول (الطفل) لمشجعيه من الريفيين وعلى رأسهم العجوز المريض :

-  إنني أتلمس لزوجتها (أي المادة) بين أصابعي، تالله إنها قريبة دانية..

ومد يده أكثر في قلب هذا الشق فيما يغمر البِشْر الوجوه لقرب بلوغ المنال، ولاحت الشمس بين طائفتين من السحب مبهجة ذهبية، وفيما هو كذلك حتى وجد الصغير من يمسك به في شدة ويطرحه أرضاً يقول:

- أما كفاكم هذه الجلبة التي تسببونها بجهلكم؟

وكان السائل نصر الله الذي لم يحتمل رؤية المزيد، وشاع تصرفه الأرعن الذي كاد يجهز به على الطفل حتى أزرى بصورة أبيه رضوان، وزادت الأمور سوءاً وحَراجة حين مات العجوز طالب الدواء المسحور في عشية هذا اليوم، ولم تكف جماعة الريفيين عن التبرك بالشجرة ذات الكرامة والهبة والآء، فكانوا يجتمعون حولها ملطخين جباه زوارها الجدد بدمائها، ثم يقدمون لهم أطباق الحمص، ومكث فهد (الأخ الثاني الذي كان دون نصر الله فورة وعنفاً) يتطلع إلى الزوار الجدد إلى الشجرة يقول لأبيه رضوان :

- من عجب كيف جمع المأفون (أي بكر) أنصار الخرافة والثقافة في حزبه..

وسأله الأب في غضب :

- لماذا لا نبتر الشجرة فتُبتر معها الأسطورة؟

- لا نريد أن نستعدي البسطاء بتصرف كهذا، لا تنسَ كيف أضر بنا تصرف أخي (أي نصر الله) حين دفع بالطفل المتسلق.

ومكث رضوان يتطلع مدة إلى زوار الحديقة وكانوا رهطاً يزيد في عدده، ممسكين بأطباق الحمص، وفي جباههم أثر المادة الحمراء، فقال في ندم واضح :

- لو أننا بترناها منذ أول يوم تسلقها أول طفل فيه لكفينا أنفسنا عناءها اليوم، لم أعد أستطيع النوم لشغبهم (أي زوار شجرة النبق) آناء الليل وأطراف النهار، ثم لبكاء الطفلة حورية (بنت فردوس)، ولقد نفذ صبري إزاء الأخيرة، وعزمي يتفق على الخلاص منها..

وجعل فهد يقول :

- لقد أمرت الشيخ حمروش بأن يشدد على حرمانية الانسياق وراء مثلها من الخرافات في خطبته بالمسجد الذي أوقفنا عليه أوقافاً كثيرة، وأنشأنا خلفه مخزناً ودورة مياه..

- إن هذا حسن، ولعله يؤتي ثماره..

ومضى زمن قبعت فيه تسنيم وفردوس وصفوت في قيد الدوار الكبير الذي آل إلى رضوان بعد انقلابه على بكر، وكانت فردوس قد وضعت وليدها الثاني - بعد صفوت - فكانت بنتاً لم تكف عن البكاء حتى ذهبت الظنون في تفسير حالتها كل مذهب، وسمتها فردوس بحورية، وأشفقت الأم على حالها كل إشفاق، والأخيرة (فردوس) جعلت تقول لتسنيم وهي تطلع إلى زوار شجرة النبق :

- لقد  تأخر بكر كثيراً،.. أيعقل أن يكون قد نسينا وسافر إلى الإسكندرية كما يتحدث الناس؟

وتنهدت تسنيم تتذكر كيف حملها سوء الظن بعبد المجيد إلى الانقياد وراء سراب رضوان وحمروش، وكيف بخعت نفسها بتصرفها غير الحكيم، ثم كيف تراءى لها نوح في مناماتها يعاتبها بوجهه المعبر وبحديثه وقد نطق - أي في المنام - لأول مرة، وحملت على نفسها في شدة لم تفصح عنها لفردوس، وتملكتها الملامة واستأثرت بجوارحها اليائسة القانطة، والحال أن فردوس استمعت إلى صوت قريب لآدمي يتسلق شجرة مخروطية كبيرة ذات أوراق إبرية كانت تربض على قرب من بناء الدوار الكبير حتى أن أفرعها الباسقة تمازج وتداخل بعض نوافذه، وسرعان ما ملأ النافذة جسم متوسط التكوين، فتولت عنها الواقفة وذهلت تقول : "بكر؟"، وعانق العائد فردوس وأمه على عجلة من أمره وجعل يسأل :

- آتني بابنتي، لقد حضرت لأجلها..

 وأشارت له الأم إلى موضع الطفلة في زاوية الحجرة التي لم يكن قد رآها قط، وباركها في صمت مفعم بالشعور وإن أخذ ببكائها المستمر، فتساءل :

- أبها سوء؟

وأجابته الأم :

- لا أدري، لم أجد لها دواءً لدى حكيم، وقدمت لها شراب الكراوية دون أن تتحسن حالتها..

ودس بكر كفه بينها وبين الملاءة لدى خدها الساخن فسكن ما بنفسها، ورضيت بيده، وابتسم ابتسامة حملت الأم على التهلل، فيما كانت تسنيم تستشرف الأصوات لدى هذا الباب بسمعها الذي تأثر بالضعف لكهولتها، وما لبث أن تعالى صوت خارجي نم عن قادم فجفلت وراحت تحذر وليدها، وجعل بكر بدوره يهبط - كما تسلق - عبر النافذة هابطاً الشجرة المخروطية، وفتح رضوان الباب فألفى الطفلة على حال من الاستغراق الموادع، فاستدار عنها رفقة نجليه وعاد خارجاً دون أن ينطق ببنت شفة، وكأن رؤية حورية على حال السكون قد استأخر ما بنفسه من نية الخلاص من الصغيرة التي كانت تسبب له أرقاً وإزعاجاً في ليلاته بالدوار الكبير - أقول استأخرت نيته في هذا حتى حين.

وقد تأدى الهبوط العجول لبكر إلى وقوعه من هاته الشجرة الكبيرة وانكشاف لثام وجهه أمام زوار شجرة النبق، ومضى الريفيون الذين عرفوه هناك يقولون :

- ها هو ذا.. لم يمت ولم يهرب إلى الإسكندرية !

ورماه نفر منهم بما كان في يده من الحمص في بشرى عجيبة، ومكثوا يلطخون مواضع خطاه على الأرض بالمادة الحمراء، وفر فرار الزوال والاختباء عنهم، عارفاً بأن وقت التصرف لم يئن بعد، وبأن أوان الحسم لم تفر فورته العاصفة.

 

  اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات

 

في بيت نور بالمعمورة..

صار يوسف وزوجه كثيرا التردد على بيت نور التي أمسك بها أسف الأفول والابتعاد من النجومية بعد إخفاق الفيلم الأخير، وكانت عفاف - التي مرت بتجربة مماثلة في باريس - تروي لها من فصول حياتها ما يشد أزرها إزاء هذا الواقع الجديد، وقد بدا أن ذاكرتها في هذا الشأن نشطة جزلة لم يمسسها سوء، وأما يوسف فيتخير الغريب من الآثار يسردها على أسماع المرأتين فيقول :

- اعتقد العرب في العصور الوسطى بوجود الشادهافر (Shadhavar)، كان مخلوقاً أشبه إلى وحيد القرن، لديه قرن واحد عملاق، واثنتان وأربعين فرعاً مجوفاً ينتشر من القرن الأول..

وكان نبيل - الطفل الأكبر لنور - محباً لحضور اجتماعات شديد الشغف بأحاديث يوسف التي يمزج فيها بين الخرافة والسرد الشيق والأداء التمثيلي (والأخير لم يتخلف على تقدمه في العمر، وإن صارت نبرته موسومة ببعض العجز الذي جعله أبطأ في حديثه وأقل اندفاعاً)، وتسلل إلى اجتماع الثلاثة في خطى خجولة، فيما استأنف يوسف يقول وقد توجه بلغة جسده إلى الطفل فأمال رأسه نحوه فيما أمسك الصغير بطرف فستان أمه :

- زعم القزويني أنه (أي الشادهافر) يعيش في بلاد الريم، وأما حين تمر الرياح عبر قرنه المسحور والأفرع الخارجة عنه فإنه ينتج صوتاً عذباً يدعو الحيوانات إلى الاجتماع حوله !

وهدأ الخوف في باطن الطفل لدى استماعه إلى نهاية القصة فضعفت قبضته على الفستان بارتخاء شعوره، وجعل يساير ما بذهنه من خيال يظهر فيه الشادهافر وسط جملة من الحيوانات المسرورة، وسأله (نبيل) :

- أهو حق أم أسطورة؟

وأجابه يوسف حريصاً على الحفاظ على إضفاء هاته الصبغة المشوقة :

- أحياناً نعبر عن الحقيقة بالأسطورة.

 وطرق الباب فجعلت عفاف تقول مازحة :

- لا جرم أنه الشادهافر !

وضحكوا جميعاً فيما جعلت نور تقول وعلى وجهها أثر الابتسام :

- إنه عز، لا يجيء من عمله إلا متأخراً، ولا يشاركني الحديث إلا لماماً.

ودلف الرجل العائد الذي بدا في مزاج غير مواتٍ البتة، وقد حدس يوسف بالأمر حين استمع إلى غمغمة دارت بينه (عز) وبين زوجه (نور) لدى الباب، وحين عادت صاحبة البيت (نور) نهض عن جلسته يقول :

- وددت لو أحدثكِ عن حوت البَهَمُوت الذي كان يحمل الأرض، ولكن الظرف يبدو غير مناسب..

ونهضت عفاف - في إثره - كالمنصرفة وقد تجهزت نور ملياً لتوديع زائريها وتوصيلهما إلى حيث الباب، هنالك حضر عز في زيه الشرطي يقول :

- معذرة، خالي، أروم الحديث إليك في مسألة مهمة..

وعاد يوسف إلى جلسته يقول :

- حقاً، حسبتك بعد كد العمل أميل إلى طلب الراحة..

وقال عز في نبرة واجمة جادة :

- إن موضوعي وثيق الصلة بعملي..

والتبست الأمور في وعي يوسف فبدا على حال من الارتباك الكامل، والتمس البحث عن الطرف الذي تنفرط به كرة الخيوط، ولكن ارتباكه حمله على الصمت، وكان لشخصيته الطريفة شديد الارتباك أمام المسائل المهمة والأحاديث المسؤولة، نزاع - في أحيان - إلى التهرب منها أو إبداء الصمت حيالها، كأن عقله الخلاق لا يحتمل وجودها في عالمه الخلاب الملون، وبادره عز يقول :

- مسجد رياض الجنة..

وصمت عز ملياً حتى حامت عيناه في فضاء الحجرة كأنما يتقي المواجهة ومصارحة من يحب بما لديه، فجعلت عفاف تسأله عن قصده في ذكر المسجد الذي تمتلكه وزوجها :

- ما به؟

- كانت جريمة قد خططت بين جدرانه من طرف جماعة من المحافظين المتشددين، ولكن مشيئة الأقدار شاءت أن يفضح أمرهم شاب اسمه منير قبيل استهدافهم مديرية الأمن، إن الله يَزَعُ بالسلطان ما لَا يَزَعُ بالقرآن، ولا مناص من العقاب الشديد ينزل بالبغاة كيما ينزجروا عما هم فيه.. 

ابتلع يوسف رضاب فمه غير أنه مكث صامتاً عاجزاً عن النطق كأن في فمه ماء، كانت قدمه قد جعلت تتحرك في عصبية على سجاد مخملي، واعرقوت جبهته حتى مسح الرجل حاجبيه المبتلتين حين عبرت إحدى القطرات المالحة إلى عينه الزرقاء فاحمر بياضها، وسألت عفاف عزاً في نبرة رسمية هدفت بها أن تسقط دواعي المصاهرة والحراجة :

-  وماذا تريد منا، سيادة الضابط؟

وأجابها عز يقول :                                                    

- إنني الضابط المسؤول عن التحقيق في الجريمة التي لم تكتمل، ويؤسفني إبلاغكما باضطراري إلى قيادكما إلى قسم الشرطة !

ومضى يوسف وعفاف وقد آلمهما أن يقترن مقهى الفنانين بصورته التعبدية الجديدة بأحاديث الجريمة وساءهما في كهولتهما أن تسربلهما الأيام بثوب المتهمين - أقول مضيا في أعقاب الضابط وفي نفسيهما هذا الشعور فما لبث أن تبعتهم نور، وقد خلا بيت المعمورة إلا من نبيل وعطية الله، والأول (نبيل) جعل يقول للثاني (عطية الله) معيداً عليه أصداء أسطورة الشادهافر :

- "وأما حين تمر الرياح عبر قرنه المسحور والأفرع الخارجة عنه فإنه ينتج صوتاً عذباً يدعو الحيوانات إلى الاجتماع حوله !".

 اقرأ أيضاً : 

الفصل الأول:   رأيت الطمع في عينيه

الفصل الثاني:  عسى أن يكون صدري منشرحاً

الفصل الثالث : صورة المُخلِّص

الفصل الرابع : إلى أين المسير؟

الفصل الخامس : الخواطر المستغرقة

الفصل السادس: نظرة أخيرة

 الفصل الثامن: عودة فتاة فيلا لوران

الفصل التاسع: ألكسندرا في غابة بولونيا

الفصل العاشر: مصرع زهران بسبب مراهنات الكرة !

الفصل الحادي عشر: بكر يتحدى سلطة رجال القرية

الفصل الثاني عشر: حوار في مطعم جيوفاني

الفصل الثالث عشر: سلكت سبيل الحب ! 

الفصل الرابع عشر: حفل عرس في حمام شهريار

الفصل الخامس عشر: خطبة مارتن في سكة حديد بالتيمور

الفصل السادس عشر: لقد صفحتُ عنكِ

الفصل السابع عشر: إفناء العمر في الشقاء

الفصل الثامن عشر: كأنك تحكمين عليَّ بالهلاك

الفصل التاسع عشر : انطفاء شمعة لا يعود لهبها

الفصل العشرون : نفسيتي تتحسن حين أروي قصة




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق