رواية المارد
عاش سكان إحدى القرى الكبيرة في سعادة وهناء، لا يعكر صفو الحياة في هذه القرية أي مخاطر، فقد كانت تقع في قلب وادي كبير، تحفه من كل الأركان جبالا عالية، ترتفع إلى عنان السماء، وتكاد تمس رؤوس السحاب، لذلك أمن سكان القرية من الأعداء، فانصرفوا إلى زراعة أرضهم، وجني محاصيلهم، وتربية حيواناتهم، ورعي أغنامهم، دون أن يخشوا من مجيء غازٍ أو قدوم معتدي، ولكن دوام الحال من المحال.
كانت البداية ذات يوم، فجأة علت صرخة أحد سكان القرية المسالمين في فزع عظيم :
أغيثوني، أدركوني، إن الوحش يوشك على بلوغ القرية، أسرعوا بالهرب والنجاة بحياتكم.
وقبل أن يدرك سكان القرية ما يقصده جارهم، سمعوا زئيرا مفزعا، ثم شاهدا أسدا ضخما، هائل الحجم، وقبل أقبل على القرية من الجبال القرية، وهو يطلق زئيرا مخيفا، تقشعر له الأبدان، وتشل لسماعه الأطراف، اندفع سكان القرية صارخين في كل اتجاه، يريدون الهرب وطلب النجدة، ولكن الأسد الرهيب قفز على أقرب الأشخاص وقتله بضربة واحدة، ثم أجهز عليه بأنيابه الرهيبة، بعد أن التهم الأسد فريسته، انصرف من حيث جاء، ولكن سكان القرية المسالمين بقوا في منازلهم محبوسين لشدة رعبهم وهلعهم، وهم يطلون من بين الشقوق وقبضان النوافذ، ويكتمون أنفاسهم في ارتعاب، قال أحدهم :
إننا لن نقدر بعد الآن على مغادرة مساكننا الآمنة، وإلا التهمنا الأسد الرهيب، إن عاد في أية لحظة.
ولكن شخصا آخر قال :
إن بقينا في بيوتنا فمن سيزرع أرضنا؟ ويجني محصولنا؟ ويرعى ماشيتنا؟
وقال الثالث :
إن الموت جوعا أفضل من الهلاك بين أنياب الوحش المفترس.
وفي اليوم التالي تردد صدى زئير الأسد المفزع، كأنه نذير الشر والموت، فارتعب سكان القرية المسالمون أكثر وأكثر، وأحكموا إغلاق دورهم بالمتاريس، ووضعوا خلف أبوابها كل ما هو ثقيل، لكن الأسد الرهيب، انقض على أحد الأكواخ وحطمه، واصطاد فريسته، وكان شابا قويا من سكان الكوخ، بعد أن أصاب كل الموجودين فيه بجراح وتمزيق، زاد خوف سكان القرية وباتوا لا يغادرون منازلهم أبدا، فبارت زراعتهم وماتت ماشيتهم، وهزلت أبدانهم لشدة جوعهم، ولكنهم بالرغم من ذلك ظلوا محبوسين داخل ديارهم، لا يجرأون على مغادرتها، وذات يوم أقبل من الجبال شخص عملاق، كأنه وحش مخيف، طوله يزيد على المترين، كانت ملامحه تفصح عن شره وخسته ونذالته، حمل في يده عصا ضخمة، صار يحطم بها كل من يلقاه في طريقه، تصايح الناس في فزع قائلين :
إنه المارد الجبار الشرير، أهربوا من وجهه، هيا أهربوا.
ولكن المارد صاح بصوت عظيم كالرعد :
أيها الأغبياء الجبناء، إن أردتم الفوز بحياتكم فعليكم أن تنفذوا كل أوامري، فتزرعوا أرضكم وترعوا ماشيتكم، ثم تمنحوني كل نتاجها، ومن يخالف ذلك يكون الموت نصيبه.
تجمع الناس في ألم وحزن، وهم لا يدرون ما يفعلونه، قال أحدهم :
لم يكن ينقصنا غير مجيء هذا المارد الشرير، كي يضاعف الكارثة التي تحل بنا.
وقال آخر :
إن زرعنا أرضنا ورعينا ما شيتنا فسوف يأتي الأسد المخيف لالتهامنا وقتلنا، وإن لم نفعل واختفينا في بيوتنا حطم المارد الجبار دورنا وهشم رؤوسنا، فما العمل؟ وكيف ننجو من هذا؟
قال الثالث :
لننفذ أوامر المارد الجبار، فلعله يصد عنا الأسد، إذا ما جاء للهجوم علينا فيخلصنا من شره، فالمارد الجبار على أي حال أقل توحش وقسوة من الأسد المخيف.
ولكن عندما خرج الناس من بيوتهم الآمنة للزراعة والرعي، أقبل الأسد الرهيب يسبقه زئيره المخيف فهرب سكان القرية، وهم يدعون المارد الجبار لحمايتهم، ولكن المارد لم يتحرك من مكانه ليذود عنهم، التهم الأسد المخيف فريسة أخرى، وبعد انصرافه تجمع الناس حزانى ليتشاورا فيما يفعلونه، قال أحدهم :
إن المارد الجبار لم يحمنا، وإن استسلمنا له وللأسد الرهيب هلكنا، فما العمل؟
قال الآخر :
لنسأل إلى حكيم الجبل ونسأله المشورة، دون أن يشعر بنا المارد الجبار أو يعرف بما ننوي أن نفعل.
وافق الآخرون في الحال على ذلك الاقتراح، وفي الليل الدامس تسلل عدد من الأهالي من جوار المارد الجبار وهو نائم، صارو في حلكة الليل، قاصدين الجبل القريب، راحوا يتسلقونه بصعوبة حتى وصول إلى قمته، وعلى مقربة منه شاهدوا مغارة حكيم الجبل، فطرقوا بابها، خرج إليهم الحكيم وقد سقط فوقه نور الفجر فأضاء وجهه، والتمعت لحيته البيضاء، بعد أن استمع حكيم الجبل إلى شكاية الأهالي قال لهم :
إنني على استعداد أن أخلصكم من أذى المارد الجبار، بشرط أن تجيئوني أولا بذيل الأسد الرهيب.
سأله الأهالي في دهشة :
كيف نصيد هذا الأسد المخيف ونأتيك بذيله؟
ولكن الحكيم قال لهم :
هذه هي مشكلتكم فحلوها بأنفسكم.
فهبط السكان عن الجبل وهم يتشاورون في حيلة لصيد الأسد المخيف، حتى اهتدوا إليها، وعندما علا زئير الأسد المخيف في الصباح، كمن الأهالي في بيوتهم الآمنة، إلا شابا قوية، أبرز نفسه للأسد الذي وثب تجاهه يبغي قتله والتهامه، ولكن الشاب تدحرج بعيدا، فسقط الأسد داخل حفرة، كانت مغطاة بالأغصان والأعشاب وقد أعدها الأهالي من قبل لصيد الأسد المخيف، رمى الشاب الأسد بحربة داخل الحفرة فقتله، فتهلل سكان القرية في سعادة غامرة، لخلاصهم من ذلك الوحش، جز أهالي القرية ذيل الأسد، وصعد به بعضهم إلى حكيم الجبل، وقالوا له :
ها هو ذيل الأسد المخيف، وقد نفذنا شرطك بقتله، وجلب ذيله، وعليك الآن أن ترشدنا إلى طريقة نتخلص بها من المارد الجبار.
قال الحكيم :
إن أحدا لن يتخلص من المارد غيركم، فما دمتم قد نزعتم الخوف من قلوبكم، وقتلتم الأسد الرهيب، يمكنكم أن تفعلوا الشيء نفسه، بالمارد الجبار، والحيلة دائما يمكن أن تهزم القوة، إن ساندتها العزيمة والحق.
هز الأهالي رؤوسهم قائلين :
أنت على حق أيها الحكيم، وسوف نتخلص من المارد الجبار أيضا، لأننا لم نعد نخشاه.
عاد الأهالي إلى قريتهم بعد أن أعدوا خطتهم، وبعد قليل ظهر المارد الجبار وهو يصيح غاضبا :
أين أنتم أيها الكسالى؟ لماذا لم تزرعوا الأرض وترعوا الماشية لحسابي؟
وهنا ألقى عليه سكان القرية بالشباك من أعالي الأشجار فشلوا حركته، ثم ساقوه إلى سجن عظيم قضبانه من الحديد، وحوائطه من الأسمنت، لكي لا يتمكن المارد الشرير من الهرب أبدا، ولكي يبقى سجينا طوال عمره جزاء لشره، بعدها عادت الطمأنينة والأمان إلى القرية الطيبة، لأن أهلها تعلموا كيف يواجهون أي خطر أو شر دون خشية أو رهبة، أو طلب العون من الغير، ولو كان حكيم الجبل.