دأب مراد - بعد أن ألبسه اقترابه من عبد المتعال ثوب النعمة - على أن يعود إلى زوجه حسنية بألواح الأسماك يبتاعها بين آن وآن من مزادات حلقة الأنفوشي في غدوات النهار، وبدت حسنية امرأة طيعة كثيرة البذل، وتوفرت - إلى هذا - على شيء من حسن مستجد تولد من عشرة الأيام وتجلى على صفحة وجهها السمراء حين يتفق لها أن تبتسم أو أن تغني، وقد آنس مراد من مسلكها ما أرضاه.. ويوماً سأله عبد الغني:
- ما أخبار العمل؟
وكان شغف مراد بتجارة الأثاث قد انحسر فقال في فتور يقارب الهزو، وقد بدا محيط الحانوت خالياً إلا من زوابع كرات الهواء :
- أفضل من أي وقت خلا ! (ثم في جدية..) المشكل وكما تعرف أننا لم نعد نجد أثاثاً جيداً بعد قرارات تأميم شركة بونتريمولي، يقولون بأنهم يريدون تصنيع كل شيء من الإبرة وحتى الصاروخ، ولا ضير.. ولكن ما جريرة ملاك شركات الأجانب كبونتريمولي وهانو وجاتينو وغيرهم كيما تأمم ثرواتهم أول عهد الثورة؟!
وفطن عبد الغني لما يقصده، قال وهو يلتفت إلى خلو الشارع :
- اخفض صوتك.. وماذا عن زواجك ؟!
وتنهد وهو يرمي بحجر فتفزع له هرة وتعدو :
- حسنية امرأة مخلصة، لكن الحمل لم يقع بعد،.. أعرف أنك مررت بتجربة مماثلة تمخضت عن انفراجة محمودة !
وخفض عبد الغني رأسه كالمجلل بإثم، قال :
- أجل، تأخر حمل هدى بضعة أشهر ثم جاءت أميرة ففؤاد إلى الوجود.. ولكن يجب أن تقبل بقسمة الأقدار على أي حال.
والتفت إليه الشاب قال في جدية محايدة :
- ماذا تقصد بقسمة الأقدار؟
- ....
- أتعرف شيئاً لا أعرفه؟
وأورث تلجلج عبد الغني مراد غضباً كاسحاً حتى أمسك بقميصه في تطاول غير مسبوق، وقال عبد الغني وهو يأخذ يجلس على كرسي كالمتهالك بينما لا تتركه يدا الشاب الغاضبتين :
- إن حسنية لا تنجب، لقد تزوجت قبلئذٍ وأخفقت في الأمر!
وتولى مراد الذهول فقال على حين ترتخي قبضته :
- ولمَ أخفيت عني حقيقتها؟!
وقال عبد الغني في صوت خفيض كأنما يحدث نفسه وضميره :
- انظر إلى صورتك، لقد امتلأت بالنعمة بعد عهد حاجة وإقامة في بدروم، أخبرني عبد المتعال عن احتمال أن يكون العيب كامناً في زوجها السابق،.. كنت لتتأبى وترفض لو علمت الحقيقة.
واعتصر مراد ألم عميق فطفر دمعة أو دمعتين، قال :
- الأفاقون! متى يكف البشر عن الاختلاق والتلاعب ؟! لستم إلا طغمة من الأوباش..
- فلتهدأ، أردنا بك خيراً.
- أي خير في أن أعيش بلا ذرية؟ ثلاثتكم (يريد حسنية وعبد المتعال وعبد الغني) شركاء في طمس الحقيقة ! سأطلق حسنية..
- .. وتودع عهد النعمة؟ أي جنون هذا؟
وهنالك دلفت أميرة فطلبت من مراد أن يصحبها إلى المدرسة الإبتداية ولاحظت - بحس يقطر طفولية - حالة الوجوم الكامنة غير أنها ما طفقت تعيد مطلبها كرة أخرى، وهرع مراد بعيداً من الحانوت - كالمرء يفزع من أمر مخيف - بينما سألت الطفلة أباها : "ما باله؟"، وتبعت أميرة المنصرف (مراد) تاركة أباها الذي جعل بدوره ينادي عليها بغير طائل، كانت دموع مراد المنهمرة قد خلقت على الأرض أثراً، وسألته عما به حين بلغت مبلغه فقال في هدوء :
- فلتذهبي إلى إبتدائية الأطفال،.. ولتدعي ذاتي المعذبة تتألم في هموم الراشدين..
وخلعت حقيبتها لما سمعت جوابه وجلست فوقها كالمعترضة وسط الطريق، واجتذب مشهدها العابرين فجعلت بائعة المش ترمق مراداً بنظرات الازدراء كأنما تقول له : "متحجر الفؤاد، متعجرف.."، ولحق عبد الغني بابنته فراعاه مشهدها وقال للواقف :
- لقد رزقت محبة الطفلة، ألا يغنيك هذا عن الإنجاب؟
وفزع مراد إلى بعيد من جديد حتى غابوا جميعاً عنه، ونضح البشر والحجر آنئذٍ في عينيه بمعالم أبوكاليبسية (جحيمية)، كانت تعتريه رغبة محمومة في الانفراد بالذات والمراجعة، وعاد إلى حسنية أول الليل وكانت تجهز سمك موسى يقول :
- لقد بلغتني الحقيقة الغائبة !
وبدا على وجهها الاستفهام :" أي حقيقة؟" دون أن تتفوه به، وأخذت تقلب السمك فتلوح عيناه على جانب واحد من جسمه المفلطح، وقال بعيد أن أفصح لها عما سمعه من عبد الغني :
- لا يحسن أن نستمر في حياة أُسست على خداع !
وارتد طرفها مجللاً بالمباغتة،.. قالت كالشاكرة المتأثرة :
- إلهي ! كم كنت أتمنى أن تنكشف الحقيقة، أن تخدع من تحب هو العذاب عينه !
ووقع الطلاق، عاد مراد إلى بيته الصغير ذي الحجرتين وودع أياماً عارضة من الثراء في رحاب عبد المتعال، وعكف عن الحديث مع عبد الغني مدة أيام ثلاثة بلياليهم فهام في صمت أورثه انعزالاً، حتى استدرجه الأخير إلى الحديث بقوله في تهليل :
- ها قد رحل آخر جندي إنجليزي،.. إنه عيد الجلاء ! حري بنا أن نرقص ونهلل، ثم أن نعتز ونفاخر،.. لقد خسر عبد المتعال أصدقاءه الإنجليز بعد أن فقد زوج ابنته،.. هذا لأن المصائب لا تأتي فرادى، لقد جاءني يوم أمس وأظهرني على وسادة بللتها ابنته حسنية بدموع الأسف لفراقك.
وقال مراد :
- لا تحدثني عن نوائب تصيب المحتالين بلغة كهذه، لقد طلب مني عبد المتعال أن أرد إليه كل شيء، حتى هاته البذلة الفرنسية التي سبق أن وهبها لي.
- أعرف أنك تحب حركة يوليو وتتأمل فيها الخير،.. لماذا لا تبتهج بالحدث السار (يريد الجلاء)؟!
اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات قصص
- لقد تراجعت درجات أميرة الدارسية لتغيبها في الأيام الفائتة، إن هدى تشتكي اعتمادنا عليك.
وارتفع ناظريه إلى المشربية حيث تقف هدى، قال كأنما يقصدها بحديثه:
- ستتعلمون أن تعتمدوا على أنفسكم كلية حين أعود أغيب غيبة بلا عودة!
وسأله في سخرية تستحيل إلى جدية تدريجياً :
- حقاً؟ هل ستبتلعك الأرض؟ أتيتني ولم ينبت لك شارب، مغبر الرأس، خامصاً (جائعاً)، وقد أحسنت إليك إحساناً جدير به أن يحملك الساعة على توخي الغفران لي، يعمل الأطفال المشرودن في أسوأ الوظائف بالجمهورية كالعبيد.
وقال في انفعال :
- ليس العمل هنا إلا عبودية جزئية !
ولاحت أميرة وهي تعبر الطريق إلى الحانوت فرق قلبه ولان وبات يصدر عن شعور الرغبة في التملص من وزر، وجعل يشرح لها أصول مادة الرياضيات - التي تعلمها من يوميات تجارته - جالساً معها على الأرض في غير تكلف بينما يرمقه عبد الغني بعين الرضاء، وكان يقول لها كالذي يذكر نفسه :
- ستبرعين في حل المربعات الفارغة (الأعداد المفقودة)، حين ترين المشكلة من كل وجوهها.
وجعل عبد الغني يتساءل : ماذا بين الطفلة وبين مراد إلا رابطة وثيقة متينة؟ ما بالها تهرع إليه كأنما هي ابنته فلا تأنس إلا به ولا ترضى إلا بحضوره ! وهل استوثقت بينهما الأواصر على نحو محتوم مقدور منذ أنقذها من حمى الطفولة، يوم ألفى وجهها في حمرة الزعفران؟ وقد يخال الرائي أن شيئاً بينهما - كالأبوة - قد نبت،.. وحملها (مراد) على ظهره فطاف بها الشارع في لهو بسام، على حين جعلت هدى ترقب مشهدهما من وراء المشربية في خوف ووجل، وهبطت (هدى) إلى السبيل بعد أن ارتدت عباءتها تنتوي أن توبخه، وتضرب على يده، قالت في صوت عالٍ :
- ويحك ! ألا تخشى عليها من السقوط؟!
وقال مراد يغالب ابتسامة باقية على فيه بينما تهبط الطفلة من فوق كتفيه :
- لقد كانت مكافأة إجادة لتفوقها في الحَل،.. إني آسف !
وفزعت هدى إلى عبد الغني تقول له في غضب :
- فلتنظر ماذا يصنع صاحبك !
والتفت إليها يقول :
- إن الطفلة تحمل له وداً، أي ضير في هذا؟
- إنه ربيب حارات المدينة، أتجهل أصله؟ كاد توازنها يختل فوق كتفيه.
- لطيفة أنت إلا حين يتعلق الأمر بمراد !
- لن أنتظر أن يمس أميرةً سوء، إنني أحبها حباً جماً..
- إن من الحب ما قتل.
- لا تردد الأمثال وتتظاهر بعدم الاكتراث كأنك لست أباها.. لماذا لا تطرده؟
وخرج عبد الغني من حانوته كيما يظهر مراداً على بعض من تحفظات امراته على مسلكه المتهور، واستدارت هدى عن زوجها إلى الشاب الذي حملت عليه، فلم يعثر اثناهما على أثر له، وسأل عبد الغني أميرة يتدانى إليها في رفق :
- وأين ذهب صديقك؟
وقالت في خيبة :"لست أعرف !"، وخال عبد الغني أن مساعده سيجيئه في غداة اليوم التالي، وأن خوفه من هدى في ثورتها وشطط غضبها أورثه الفرار إلى حين،.. لكن مراداً لم يظهر، ولم يجيء، وطالت غيبته، ولمَ يعود؟ لقد زوجه عبد الغني بالمرأة العقيم في سبيل المال،.. وأما هدى فلا تتورع عن أن تكشف عن أمارات حنقها عليه في كل مناسبة، إن امرئ - مثله - بلا جذور يتفق أن تكون الأماكن كلها وطناً له، وهتف به (مراد) هاتف إيماني تأثر به تأثراً شديداً، فنأى عن السيئات أشد ما يكون النأى، وتجافى عن الموبقات أشد ما يكون التجافي، ورأى الوجود وحدة واحدة متناسقة رغم هذا النزاع الكامن فيه، وقنع بغياب المسير الأول عن مشهد الحوادث قناعة التسليم، وأحس لطف غيبته عن الحواس، وترطب لسانه باستغفار،.. كان يحرص على أداء الفرض ملحوقاً بالسنن في مساجد المدينة الكبيرة كأبي العباس المرسي وسيدي بشر والقائد إبراهيم، ويقف يتأمل مأذنة الأخير (مسجد القائد إبراهيم) الباسقة الرشيقة، هاته التي تمتاز دون غيرها بوجود الساعة، ويتنسم رائحة البحر وأريج الحدائق القريبة من مبناه، وسمع إمام المسجد ينقل عن الحلاج قولاً في مديح النبي محمد رآه مطابقاً لمقتضى حاله :
هجرت فى حُبِّكم يا سادتى ناسى.. ولامنى فى هواكم كل جلاسي
من بعد ما أبصرونى عند بابكم.. عبداً حبست على سقياكمُ كاسي
وما دروا أنه لولا تفضلكم.. ما أذنتم بقرب الباب إجلاسى
وإن غيرى كثير زار حيّكم.. فحيل عنكم بحجاب وحراس
كم حال دون مسيرى نحوكم حجج.. من الهوى وأكاذيب من الناس
فلم يزل صدقكم يهوي بها كسفاً.. حتى بصرت بعين العجز إفلاسي
لكنه لن يعود إلى القوم الذين لفظوه، وآلمته العبارة الجارحة حين سمعها في يوم النزاع الأخير وترددت في خاطره تردد الأصداء :" إنه ربيب حارات المدينة، أتجهل أصله؟"، وعاد إلى بيته في فجر يوم من أيام استقلاله من شهر حيزيران/يونيو - متجاهلاً إيماءات بائعات الهوى ونداءات التجار - فألفى قارئة كف تسل العابرين، ومكث يتطلع إليها رغم العتمة التي ضربت على الأمداء سدالها حتى عرضت عليه عرضها المألوف، وتدانى منها ولم يكن يجلب معه إليها رغبة ولا نفوراً، وقالت بعد أن أمسكت بكفه بعنف فتستبين رسمه وتجاعيده :
- ستتزوج بابنة من تركت ديارهم !
وقهقه مراد، قال :
- كاذبة أنت، بحق هذا الظلام، والحزن الذي ينزل بي.. صدق المثل : كذب المنجمون ولو صدقوا، (ثم وهو يستدير عنها..) إنها صغيرة جداً، أيتها المخرفة !
وترك الشاب المرأة التي جعلت تصيح به حتى أوشكت أن تنهض عن مستوى الأرض - تركها وهي تقول :