غريب على باب الرجاء

    الفصل الثامن عشر : غريب على باب الرجاء




كان مراد بعدما توطدت أركان وجوده في حانوت عبد الغني يجالس نرمين، فتقول له الثانية كأنما تريد أن تنزه نفسها وصحباتها من طريق قرن أشغالهن المتدنية بقضية وطنية :

- في حي الهماميل كان يأتي الضباط الإنجليز يريدون أن يمارسوا الحب، وقد شاع نصب المصائد لهم هناك، ولأجل ذاك أقامت شرطة الإنجليز نقطة قرب الحي، كانت الهماميل مقراً لاجتماع جمعية التضامن الأخوي التي كانت تغتالهم، إذ كان الهماميل قطعة القماش الحمراء ينخدع بها ثور الاحتلال،.. علاوة على محاولتها (جمعية التضامن) اغتيال السلطان حسين كامل لأنه قبل الحكم منصاعاً للإنجليز، بعد ابن أخيه الخديوي عباس حلمي، وألقوا بقنبلة على سيارة السلطان حسين كامل أمام ضريح سيدي يوسف الجعراني في شارع رأس التين، والرجل (السلطان حسين) ذاهب لصلاة الجمعة، لكن القنبلة لم تنفجر قط، وقع هذا قبل أقل من نصف قرن، وقد سمعته منقولاً على ألسنة من عايشنه من زميلات الكار نفسه !

ويجيبها مراد في لغة جسد متراخية، يضع قدماً فوق قدم :

- لا تحاولي تجميل وجه قبيح، إن كل محاولاتك ستذهب سدى، الأولى أن تتركي الأمر غير مأسوف عليه !

وكانت أميرة تضيق ذرعاً بحضور نرمين وتزدريها، فقالت وهي ما تفتأ تدلف إلى أرض الحانوت :

- إلهي ! أتتناجيان على حين تتركان التجارة؟ (ثم وهي توجه حديثها إلى مراد..) ماذا أصابك إلا أن يكون داء الخذلان؟

وقال وهو يعيد قدميه إلى حالة الاستواء :

- غاب الزبائن، وألفيته وقت خلوة من العمل، لقد ربحنا من وراء الأثاث الدمياطي شيئاً مرضياً خليق بأن يبعد منا العجلة، وأن يجلب لنا بعض استرخاء.

وكادت أميرة تقول:"ولم تجد إلا المرأة اللعوب تحدثها في خلوتك؟" لولا أنها وعت حقيقة وجود الفتاة، كأنما أدركت الأمر المتحقق دائماً في لحظة اتصال بعد انقطاع بمحيط، فالتفتت إليها، ثم أشارت إليه تريد أن تحدثه وحده فنهض، وقالت له :

- إن وجودك معها (نرمين) مما يسيء إلى سمعة الحانوت وسمعتك !

وقال :

- إن أحداً لن يجرؤ على اختلاق الفرى بعد ما جرى لخليل من تشنيع، لقد انفضح أمره بعد وقفة حسنية، يستهزئ به الصغار قبل الكبار !

- في حينا ألف لسان وناثر شائعات كأنهم رؤوس الهيدرا تتجدد، كان يجب أن تتعظ مما جرى.. هل يقبل أبي (عبد الغني) أن تجلس امرأة لعوب في حانوته؟! هل يعلم الرجل الذي تدين له بالكثير، وربما بنفسك، هل يعلم بهذا الأمر في مرضه؟

واضطرب مراد، قال، يريد نرمين :

- لن أطردها، لقد كانت سبباً في عودتي إليكم !

- كانت أمي (هدى) محقة حين وقفت منك موقف المشككة.

وعاد مراد إلى الحانوت، انقلبت حالته من الانفعال إلى التراخي، وسأل نرمين :

- وماذا تعني الهماميل؟

-....

على أن الفتاة كانت قد انصرفت دون أن تجيبه بالجواب الذي يفترض بها أن تعرفه : قواديس السواقي التي كانت تصنع في ورش الحي، وعاد مراد يجلس جلسته المترايخة وقد أسلم ساقيه لسطح كرسي من خشب، وأغمض عينيه حتى بات على حافة النوم وقد أثمله نعاس لولا أن سمع الأيادي تصفق، ثم الألسنة تزغرد، ونهض من فوره كيما يستشرف حقيقة ما يدور فألفى عبد الغني يعبر هذا السبيل بعكازين من خشب وسط حفاوة التجار والأهالي، ثم العجلاتية ومبيضي المحارة والمكارية، وهرع إليه مخافة أن يفقد توازنه فتنقلب المناسبة، وينتكس الحدث، ومد مراد يده يعرض عليه المساعدة على أن الأول أصر على أن يمضي دون عون من أحد، قال :

- أخبرني الطبيب أنني عدت صالحاً للمشي دون معين أو سند !

وتركه مراد وإن لم يستبشر كثيراً بسبب حركته المضطربة، كانت هدى تزغرد مع المزغردين زغردة صاحبت كل خطوة جديدة فيما كانت أميرة ترقب حركة أبيها بقلب ملؤه الترقب، وبلغ الرجل قرب الطوار الذي بدا تحدياً يقول :

- سأعبره، بإذن الله..

وأشارت عليه هدى أن يبسمل فيما حفه المبخراتي - حفه بحركة يده الدائرية تقيه من أعين الحاسدين، ورفع عبد الغني قدمه اليمنى فاجتازت الرصيف وجمحت النفوس في تصفيقها وصفيرها، وتفاعل عبد الغني بابتسامة، على أنه لما أتبع قدمه اليمنى باليسرى اختل التوازن ووقع الرجل فيما تكسر إحدى العكازين، هرع مراد إلى معلمه يقول :

- سأحملك..

وحمله مراد إلى حجرته فلما استوى عبد الغني على سريره، قال :

- لقد استعجلت الشفاء واستبقت زمنه..

- من لازم المرض طويلاً اشتاق إلى الحياة !

- ..ليس بهذه الطريقة، كان يجب أن تقبل يدي الممدودة إليكِ !

وقال كأنما يستعيد واقعاً عايشه لتوه :

- أسكرني صفير التجار وسرتني زغردة النساء، رأيت جمهرة منهم، أبصرت أميرة مسرورة، هدى أيضاً، خلت أن الأحصنة في ذهابها ومجيئها كانت لتسعد لو اجتزت الطوار،.. هل رأيت ما رأيت؟ سأعود أمشي لأجلهم..!

وغلب على مراد تأثر فتحركت عيناه بدمعة، وأخذ يعالج تأُثره بانغماسه في التفكير في التجارة،.. دمياط ! هناك يجد الشاب نفسه ويتباع الأثاث، تلوح إشراقة المستقبل كبسمة حوراء وراء حجاب، وتذكر مواويل يسمعها هناك، وكاد يترك الحجرة لولا أن طاقته تبخرت بغتة متذكراً حقيقة أنه حمل لتوه رجلاً يزن زهاء مائة وثمانين رطلاً صاعداً به الدرج في ظروق مباغتة صادمة، وحضرت أميرة تطمئن على أبيها، ووجد مراد الفرصة سانحة ليستعيد موال سمعه في دمياط في خلال تجوله بالمديرية التي استحالت إلى محافظة أخيراً (بعد صدور القرار الجمهوري رقم 1755 للعام الحالي) :


- "دمياط جنة، جنينة حوليها صخر وأنهار..

صليت ركعتين لله، وقريت سورة الفتح..

وشويتين جيه البنيه، فاتحه قلوعها فتح..

ملت وشالت وقلب العاشقين شال معها..

دبيت على الباب، قالي عبدها مالك؟".

اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات قصص


وقاطعته أميرة بقولها :

- ومن تكون صاحبة الحسن؟

وأجاب مراد في ابتسامة فلا يضغط على كلماته :

- عليكِ أن تسألي صاحب الموال.

- لماذا لا تسأله أنت؟

وقال في جدية بينما يبتسم :

- إلهي ! أهي الغيرة؟ بعد نرمين تغارين من المجهولة موضوع الموال الشعبي ؟!

وقالت :

- أضيق بسوء السلوك، ولا أغار لأنني صغيرة السن.

ودلفت هدى فاطمأنت إلى سلامة زوجها، تقول وكانت قد استمعت لطرف من الحديث الدائر :

- كيف وممن تغار أميرة وهي الغادة الحسناء؟!

تطرب أميرة لثناء أمها حتى يتورد وجهها،.. ويترك مراد الحجرة وهو يجعل يتفكر في حقيقة أن الطاوويس بالكاد تقدر على الطيران، إذ هي تعيش في التراب فتلتقط الحشرات من الوحل وتواسي نفسها بجمالها الشديد مما يوافق - أو حتى يزيد عن - رؤية هدى لابنتها كطاووسة مذهلة الجمال فابتسم،.. يضع عبد الغني أكواباً ساخنة على ركبتيه لسحب الألم عاملاً بنصحية جارتهم - هذه التي تتخذ حلقاً في أنفها كبير - بالقيام بالحجامة سنة عن النبي محمد، ويستعمل الرجل زيت الزيتون بعد الحجامة يدلك به مواضع الانتكاس والألم،.. في مساء اليوم نفسه تحضر نرمين ومعها عكازين جديدين قالت:

- سمعت بما وقع فأحزنني،.. لا تخبر أحداً بأنني صاحبة العكاز !

تبدو نرمين خجولة وديعة هذه الليلة،.. وتساءل : هل تظهر أمارات الخجل على وجوه بائعات الهوى أيضاً؟ يقصد مراد إلى دمياط فيعود إلى الإسكندرية بالأثاث جنباً إلى جنب مع علب الجبنة والسردين والمشبك، يحب فؤاد - الابن الأصغر - المشبك والجبنة الدمياطي، ويهرع إلى مراد حين يجيء طلباً لهديته في شغب لا يتوقف، يسأله عن المدينة فيجيب :

- البحر والنهر، الخصوبة والطمي، الطباع الهادئة، ونخيل يُصدّر إلى الصين واليونان، ثمة الحاج مندوه الدمياطي شريكي في التجارة أيضاً ! إن هذه دمياط التي رأيت !

يتسلى مراد عن نفسه بنفسه وينشغل بهاتيك النافذة الجديدة التي فتحت له، تتحسن حالة عبد الغني في بطء كالربيع يتسلل بعد الزمهرير، تتوطد صلات الشاب مع الحاج مندوه الدمياطي هذ الذي تلوح على جبينه زبيبة التقوى في زمن المادية، ويسود جبينه بسبب التينيا، وسمعه مراد يقول وهو يتنفس دخان حجر النارجيلة، يشير إلى جمرتها :

- القابض على دينه في أيامنه هاته،.. كالقابض على هذه الجمرة !

يبدو مراد شاباً غض التجربة فيطمئن إلى ورعه الظاهر، يشاركه الأنفاس الحارة في المدينة الصغيرة، أنفاس النارجيلة في زفرات الأنس والسلوى.. ويسلم له مقابل الصفقة الكبيرة، يطمئن الأسرة باقتراب التحول الكبير الذي سيرفع الحانوتين إلى عهد الرواج الكبير، وقال له الحاج عيسى :

- إن ظروفي لمتعذرة،.. فلتأتِ في وقت آخر !

وتافف مراد قال :

- ولكنها المرة الثالثة آتيك فيها؟! لم أعهد عنكم (يريد أهل دمياط) نفاقاً أو احتيالاً !

وقال الحاج في صوت ثقيل الوقع كريه :

- ولكنني عهدت عنكم (أهل الإسكندرية) مياهاً مالحة ووجوهاً كالحـ..

- من العيب أن تتفوه بالمنكر وزبيبة العبادة تزين جبهتك !

ودفعه يقول :

- لا تلح كثيراً فتنقلب خاسئاً، ولا تتسول حاجتك !

- كيف أتسولها وهي لي..؟! ملعونة طباعك الكريهة !

وأرتد مراد مهزوماً مقهوراً، وجلس يومئذٍ في مقهى شاهين في المدينة التي خُدع فيها يفكر في الثأر ويترقب أن يضع خنجره في قلب المحتال الأثيم، وصادف أن سمع قصيدة "غريب على باب الرجاء" يرددها مثقفو المكان بعد صاحبها طاهر أبو فاشا ومغنيتها أم كلثوم فهدأت نفسه لسامعها بعض هدوء، إنهم يقولون :

غريب على باب الرجاء طريح يناديك موصول الجوى وينوح

فيتمثل في المسموع الموصوف نفسه، غير أنه ولما أبصر ماسح الأحذية يمارس مهنته غضب لتذكره عبارة عدوه : لا تتسول حاجتك - غضب غضباً جديداً كأنما استشعر أن الأقدار تعرض به.. وعاد إلى الإسكندرية وعبد الغني الذي كان يقول :

- ما أروع هذين العكازين ! لقد تحسنت صحتي بسببهما، لعلها الحجامة أيضاً، ولكن هدى تقول بأن الطب الحديث يوصمها (أي الحجامة) بالضرر قبل الفائدة، إنهما العكازين إذن السبب في تحسن حالتي.. فلتنظر إلى هذا..

وجعل عبد الغني يتحرك من سريره إلى هذه الخزانة الخشبية متكئاً على العكازين على حين يتابعه مراد في سرور ظاهر وقلب معلق أسيف، وفكر في مشهد الرجل وكيف أنه لا يعرف أن وراء العكازين بائعة هوى تتعلق بالخيرية، فأشفق عليه من إشفاقه على نفسه الواقعة في سراب الاحتيال، وانتظر حتى بلغ الرجل مبلغه فقال :

- الحاج مندوه الدمياطي، لقد حدثتك عنه يوماً حديثاً فيه ثناء، واليوم تبين لي أن الرجل ليس إلا تمساحاً يتخفى بشروره وراء صفحة نهر مستقر !

ورفع عبد الغني عكازه دون أن تضطرب قناته يشير إلى موضع محدثه المهزوم :


- سأسافر إلى دمياط، ولو بعكازين، سألقنه درساً وأعطيك آخر !