رقصة تشارلستون في حفلة لويس

  الفصل الثامن والعشرون : 


تعاقبت على يوسف أيام من الحصار في البيت الريفي الكبير، كان الخفراء الخمسة يمنعون عنه الطعام والرسائل، يقصدون إلى كسر عزيمته وإثنائه عن معاونة نوح، كان الشاب في حصاره ينام على سرير بهاء الدين يروم أن يتبرك ويستقوي به في محنته، تأتيه رؤى الأحلام، هذا جثمان أبيه ينقله من مقابر المسلمين في أبي تيج إلى مقابر العَمُود بالإسكندرية فيما تحف المسير ملائكة رافلة في ثياب حريرية خضراء، وينهض مبتسماً، ستكون آخر المهام يؤديها لأبيه بعد أن ينال ثأراً من غانم، وسيكفر عن خطيئته،.. ولكن أنى له بهذا؟ تبلل جبهته موضع النمرقة التي ينام عليها من هول هذا المشهد وجلاله، يعود إلى واقع الأسر، لقد نفذ مخزونه من الطعام فخرج إلى الخفراء يطلب المزيد، وقالوا له :
- جعلت من العمدة أضحوكة، ستموت هنا جوعاً جزاء ما اقترفته !
وقال ثانٍ، يتهكم منه :
- لماذا لا تأكل العشب؟! ألا يبدو حلاً أوفق؟!
وانصرف عنهم يقول :
- سيجيء نوح فيخلصني من وجوهكم الكريهة !
وسمعه منهم واحد فقال :
- لن يجيء نوح لأن يد القانون ستكون أسبق إليه.
- أي قانون؟! قانون الغابة الذي تكرسون له؟ يقضي الناموس بأن ينهزم الفسدة ذلك أنهم يعملون على الضد على إرادة الطبيعة، لا تمضي الأمور جزافاً، سيقف نوح في وجه غانم وقفة داوود في وجه جالوت، إني امرؤ سريع التعلق ساذج الحدس لكن قناعتي هذه لا تحركها السذاجة ولا العجلة.
- فلتكف عن التبرم والثرثرة.
ودلف يوسف إلى البيت الكبير فجعل يستشرف خمستهم عبر النافذة ذات الأطر والستائر المذهبة، تتألم عيناه الحساستان للضوء النهاري القوي ولكنه يقاوم، يبحث عن سبيل للهرب، وعن أين تكمن مواطن الضعف والقصور؟ إنهم لحمقى متسكعون ولكنهم مسلحون بالبنادق والغدارات، وأبصرهم يمسكون بأوراق - هي رسائل عفاف التي لم تصله - عابثين، يقول الواحد منهم للآخر فيتراقعون : "عزيزي يوسف،.. إنك محتجز، وستموت من الجوع.."، يضحك الأربعة الباقون في جلجلة تصل أصداؤها إليه، ويثور الشاب ثورة غضب عارمة، يفتح هذا الدرج، هناك تقبع طبنجة الأب، وعصاه، سيقتل الخمسة المزعجين ! سيذوق الأغبياء الندم، وخرج للقياهم مجازفاً، كان الخفير يقول :" لقد عاد بعد أن عمل بنصيحتي، أكل العشب، ويبدو ممتلئاً.."، وأما صاحبه فيجيبه :"البِطْنَةُ تَأفِنُ الفِطْنَةَ، كما يقال في الأمثال، لعله يتورط في نزال خاسر.."، ولم يُلتفت قط إلى حديث الثاني الذي بدا لمحة جادة وسط موجات مستهترة، وذرع يوسف مساحة صغيرة في خطوات كثر فما أن بلغ مبلغ خصومه حتى أشهر في وجه أولهم طبنجة أبيه، وامتلأ وجه الخفير بالرعب بعد الهزل.
ارتفعت البنادق الأربعة إذاً، كان المشهد متحفزاً كل تحفز، وخال يوسف أنها ستكون نهايته فهمس بالشهادتين، ومضت ثوان مشحونة بالاحتمالات، حتى لاح وراء الستة - الخفراء ويوسف - غبار عظيم، وانجلى الغبار فعلا صهيل أحصنة، وبرز غاضبون في انفعال فوار، وأبصر يوسف نوحاً يتقدم الهجوم، لقد حشد الشاب جمهوراً عظيماً من الريفيين بعد أن جيش الشعور العام في صفه، واقشعر بدن يوسف إزاء ما يدور فها قد أثمرت مشاغباته أخيراً، وتقهقر الخفراء الخمسة أمام القوة الزاحفة فانهزموا في غير مقاومة، ولى خمستهم مدبرين أمام طوفان من البشر، انتقل الهجمة - ككرة اللهيب المتقافذة - إلى مكتب العمدة غانم، حققت الجموع هناك نصراً مبيناً وضعت بعده المعركة أوزارها، تقلد نوح العمودية بعد غانم الذي فر يومذاك دون ظهور، وبزغ الأمل في لحظة استواء الميزان، أفصح يوسف للعمدة الجديد عن رغبته في نقل جثمان أبيه إلى الإسكندرية فأبى، واعترض يوسف فقال :
- كانت هذه رغبته..
وأشار نوح يقول :"إكرام الميت دفنه.. لماذا تريد نبش القبور وإزعاج الموتى؟ سيتكلف الأمر جهداً ومالاً.."، وكان نوح - في الحق - متعلقاً ببهاء الدين فلا يريد تفريطاً في جثمانه، والتفت يوسف إلى تسنيم يقول:
- فلتقنعي زوجك، إنك إن أقنعتيه تنازلتُ عن حقي في الفدادين ورضيت بالوصية المجحفة.
وبذلت تسنيم جهداً عظيماً حتى أقنعت زوجها بنقل الجثمان، وظفر يوسف بما أراد، وتحققت رؤياه.. فهل رأى الملائكة في ثيابهم الحريرية الخضراء؟ قبّل الشاب رأس أبيه قبل أن يسلمه لمثواه، وكان دود الأرض لم يضر بجثة الأب وعُد الأمر دليلاً على صلاح الرجل، وشاع نبأ الوفاة فبكت صابرين وهدى أباهما بعد عامين من وفاته، وأقيمت للرجل جنازة في الإسكندرية بعد أبي تيج، خرج فيها عدد من أبناء كرموز ممن لا يزالون يذكرونه، واستقر جثمانه في مقابر عمود السواري بأبوابها الكثيرة ومساحتها الشاسعة، وبارتفاعها - أشبه إلى التل الكبير - عن سطح الأرض.

1963م..
عاد يوسف إلى باريس وقد فطن في أيامه الأولى إلى حقيقة انسحاب الأضواء حول زوجه عفاف، أساء حادث القتل إلى سمعتها وأورثها فقدان التعاطف، وعكفت المجلات الفرنسية ووسائل الإعلام - بعد الانفضاض الجماهيري عنها - عن التعرض لها فانصرفت إلى غيرها، وقالت له :
- أشعر أنني منبوذة تعسة، كالمنديل يستخدم لغرض ثم يلقى به في غير تقدير !
وكان يوسف يقول لها، وكان سعيداً بعودة الحياة إلى سابق مجراها :
- لستِ منديلاً أبداً، إن هذا ديدن الشهرة تأتيكي سريعاً وتنسحب عنك بنفس السرعة.
وكانت المرأة تبحث عن لويس (عازف الجاز) الذي اختفى، فسألها يوسف :
- وكيف ستفيدين من هذا؟
- لا أعرف، أروم أن أندمج في موسيقى صاخبة كالجاز، لويس كان أمهر من سمعته في هذا الصدد، في الموسيقى ينسى المرء همومه ولو كانت - كما هي في حالتي - في حجم الجبال.
اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات قصص

وأشفعت المرأة هاتيك الجملة الأخيرة بزفرة، كان يوسف يحمل حسيناً على ركبتيه فجعل يقول له :" تروم والدتك الاندماج في أجواء صاخبة باخوسية على أنغام الجاز؟ ما رأيك؟"، وكانت المرأة تحثه على نبذ هذا الشغب والنظر إلى محنتها بعين الجدية أكثر، وإن لم تفقد الأمل في إيحاد العازف الأسمر، وقصد يوسف إلى جاره حمود الذي استقبله يقول:
- لقد استقلت الجزائر أخيراً.
كان مارسيل حاضراً، والتفت حمود إليه فابتسم كأنما يروم إغاظته، قال مارسيل ليوسف :
- "يذكرني بالأمر في كل يوم، بربك.. كم مرة استقلّت الجزائر؟!".
وقال حمود في تؤدة أريد بها الإمعان في إغاظة جاره الفرنسي :
- "يتحتم على الأشرار الخسارة وإلا قضي على الاجتماع الإنساني بالفناء، يقع الاحتلال على رأس الشرور في قناعتي.".
ولاحظ حمود انشغال يوسف عنه فسأله عما هنالك، قال :
- "تبحث عفاف عن عازف الجاز المغمور ولا تكف، إنها لا تعلل للأمر بما يقنعني، يتطلع المرء إلى الشيء حتى إذا بلغه أعتقد أنه له، وكذلك الشهرة، بالأمس لمحت المرأة شعرة بيضاء فما كان إلا أن أورثها الأمر حزناً فوق حزنها الأصيل، لقد استعانت بالحناء على البياض ووارت فعل الزمان بنشاط، ولكن الحقيقة هي الحقيقة، ولا محيص عنها قيد أنملة،..".
ووجد يوسف بنفسه رغبة لشرب نبيذ Chivas Regal، الاسكتلندي، وآثرها على هاته الأصناف الفرنسية الأخرى، واطئة الثمن عالية الجودة، التي كان يحفل بها بيت حمود، أردف يقول، وكانت الأحزان قد تضافرت وتلابست في مخيلته :
"عدت إلى الإسكندرية حين نقلت جثمان أبي، لكن المدينة لم تعد كما كانت، إنها مدينة أخرى، لازلنا نحتفظ بملكية مقهى الفنانين ولكنه مغلق منذ سنوات، غسلت وجهي بماء البحر المالح ولكنه لم يطهر ما بي من أحزان، ولا أذابها أقل ذوبان، أرجأت عفاف زيارتنا السنوية إلى المدينة ريثما تتحسن أوضاعنا في باريس، ولكنني لا أريد أن أكرر التجربة، الأمر أشبه برؤية عزيز لك وهو يحتضر.. ذهبت أرثي أبي ووجدتني أرثي المدينة الأسطورية ذات الأرض والبناء المرمري الأبيض، هذه اللامعة التي كان يتناقض بياضها مع سواد واحمرار ثياب قاطنيها، وضعوا الغطاء يوماً يستر النواظر من بهر الطلاء وبهاء المرمر، وتعذر السير فيها بالليل بسبب ضوء القمر على الرخام الأبيض الذي كان يجعلها تضيء، وحتى لقد أمكن للحائك أن يضع الخيط بالإبرة دون استعانة بمصباح، هكذا زعموا، واليوم،.. اليوم رأيتها خافتة باهتة..".
أدار حمود التلفاز يريد أن يبدد ما في نفس يوسف من أسباب الأسى، كان ثمة شاب أسمر يقول :
- "يقولون إن عصراً لموسيقى الجاز قد انتهى في العشرينيات من القرن الحالي، وأقول بأن كل العصور تستقبل الموسيقى الجيدة، الجاز موسيقى أمريكية كلاسيكية باقية من جذور منحدرة من البلوز والراجتايم..".
كان المتحدث لويس، الذي قفز إلى الشهرة في الأيام الأخيرة، وسألته المحاورة :
- "ما الذي يضايقك في باريس؟ أنت ترى الأمور هنا من الخارج كونك أمريكي بالأساس.".
- "تضايقني العنصرية والافتراءات، سأضرب لكِ مثلاً، قابلت سيدة أّذكر أن اسمها عفاف في إحدى حفلاتي هنا قبل الشهرة، كانت مصرية نقية، واليوم يرمونها بأبشع التهم لأنها دافعت عن حقها في الدفاع عن نفسها وأسرتها، يبدو لي الأمر حملة منظمة يدبرها أصحاب الأغراض.".
وتشعب الحديث في موضوعات أخرى تتعلق بالصعوبات التي يلقاها المهاجرون في مهجرهم، حتى قاطعت المحاورة استرسال لويس تقول :
-"لن تصدق هذا، إنها السيدة عفاف، هذه التي تعرضت لها منذ قليل، على خط الهاتف، تروم الحديث إليك..".
كان يوسف يستمع لحديث العازف وقد جذب اهتمامه شيئاً فشيئاً، حتى إذا اتصلت عفاف اعتدل في جلسته وأسلم زجاجة النبيذ، تزامناً مع استقامة قناته، لطاولة خشبية صغيرة بين كرسيه وكرسي حمود، وقالت عفاف في شيء من الانفعال الودود :
- "لقد أضناني البحث عن لويس، قلبت باريس شبراً شبراً، لا يمكن أن أصف سعادتي بهذا الحديث، أزيد أشير إلى ذاك الفارق بين الأفق السامق الذي يعتقده المرء ببعض المشتغلين بالصحافة الإعلام، وبين الواقع الترابي الذي يتبينه المرء عنهم من سبيل التحقق والتجربة..".
وفي مساء يوم من تشرين حضرت عفاف أمسية غنائية بدعوة من لويس، حضرت رفقة يوسف الذي كان يراقصها في توتر، وسألته :
- ما بكِ؟ تبدو غريب الأطوار.
وقال بينما تتشنج ساقه :
- آه ! إلهي ! أعرف تماماً كيف أرقص، إنه أمر أجيده منذ الصغر من طريق السليقة، ولكنني لا أرتاح لوجودي هنا، وفي هذه الأجواء.. (ونظر إلى زوجه بارتياب يقول) ماذا تفعلين؟
وكانت عفاف تقول :
- تشارلستون ! تنطوي (الرقصة) على تحريك القدمين إلى الداخل والخارج، مع استقامة وثني الركبتين، تنقل وزنك من قدم إلى أخرى، هكذا،.. وكل قدم ينقص وزنه، ينطلق بزاوية مائلة !
وجلس يوسف خائباً يقول :
- تبدو رقصة فوضوية.
وفي أعقاب انتهاء الحفل جلس الثلاثة على طاولة مشتركة، وسألت المرأة لويس :
- وأين اختفيت طوال الأشهر الماضية؟
وقال في رضاء تجلى في لمعة بياض عينيه الحالكتين :
- "جهزت ذاك الشريط الغنائي (ألبوم) الذي قفز بي إلى الشهرة، وكنت قد اعتزلت الجميع حتى أنهيته.".
كان المعجبون يتهافتون على لويس فوق تهافتهم على المرأة التي جعل يخبو بريقها، كأنما انقلب ميزان الشهرة، ذكر لويس شيئاً عن رقص كيك ووك، قال وهو يكتب أوتوجراف :
- "كان راقصوها يصطفون ويتقدمون في خط مستقيم وكأنهم يسخرون من الأرستقراطيين الأثرياء والأساتذة الذين خدموا تحتهم.".
وأسهب لويس يثني على براعة المرأة - لإجادتها رقصة الجاز القديمة تشارلستون - التي شكرته بدورها، فيما كان يوسف غاضباً صامتاً، تقول :
- "لقد أعدت إليَّ الأمل بحديثك على الشاشة الحوارية الفرنسية، يحتاج المرء إلى شرفاء ينطقون نيابة عنه إذ هو يتحرج أن يدافع عن نفسه، إنه ليتهاون في حق له بسبب نزاهته التي تجره إلى صنف من الزهد والترفع، كان الأمر، أعني حديثك الذي أنصفتني فيه، أشبه بنسمة نقية في مناخ كريه الرائحة، يجب أن تزور الإسكندرية، لا تقلق، لا نعرف عنصرية اللون هناك !".
وقال لويس :

- "أود ذلك حقاً،.. هل تركبون فيها الجمال؟!".