1957م..
تنقلب الأشياء في الإسكندرية سريعاً ولا تبقى على حال، لحرارة الطقس أن تقفز في غضون أربعة أشهر من ديسمبر إلى مايو من الصفر المئوي إلى الخامسة والثلاثين،.. يغيب الفتوات فيها ويعودون، يتحدث الخلائق عن ذكرى النيجرو والجعب والغلأ، وينسونهم كما يقول الجبرتي : "ذاكرة العوام ثلاثة أيام.."، وماذا بعد الجعب ونهايته العجيبة؟ والنيجرو وخاتمته المقبضة؟ وكان جلبة حملت على تلك الأسئلة جواباً، وخرجت صابرين متوشحة بالسواد في أربعين فاطمة، خرجت فقيرة الروح رغم هذه النعمة التي هبطت إلى زوجها فأسكنتها جناحاً تخيره لها الأخير في فندق البحر، كان الفتوة أبوجريشة يوزع سرقاته على الأهالي، وبدا الرجل ممثلاً للصورة الجديدة الخجولة للفتوة في أعقاب حركة يوليو، واعترضته الشرطة المصرية فجعل يقول راكضاً عنهم:
- ماذا بينكم وبيني إلا الوفاق؟ إن عبد الناصر رسول الفقراء، وإني حرامي الغلابة ! نعيش زمناً يدفع فيه المرء مبلغ جنيهات خمسة في مقابل بطة..
وضحكت صابرين فتنهدت تنهيدة انفرج معها حزنها على فاطمة، وكان أهل المنطقة ينادونها بـ"الهانم" لاقترانها بمن حاز ملكية الفندق الكبير، وكانت تضيق ذرعاً بالوصف على ما فيه من إطراء لارتيابها المعروف من مصدر ثروة زوجها الذي اشترى بدوره سيارة جديدة من طراز سكودا لقاء ثمنمائة جنيه، أزادت من الشعور العام بثراء الأسرة ورفاه معاشها،.. ويوماً تأخرت مريم وكانت في الثانية عشر مجتازة عتبة الطفولة إلى بوادر المراهقة - تأخرت عن العودة إلى الديار،.. وسألت صابرين هشاماً عنها فأجاب في قلق مماثل :
- لعلها ضلت عن سبيل الإياب !
- كيف تضل عن فندق بهذا الحجم؟!
وكان شغف مريم - المقرون بفترة استكشافها العالم خارج حيز أبويها - قد ساقها إلى الورديان، وكانت تشتري حمص الشام مصحوباً بمستلزماته من الشطة والليمون لأول مرة وقد راقها طبيعته الحمراء ثم كراته الصفراء، واقشعرت لمذاقه، وجعلت تكح وتسعل، هذا حتى جذب أسماعها صوت أطلق عن نفسها عقال السأم، وردها إلى شيء من الاستقرار، كان الصوت ينشد في حزن مخالفاً لطبيعة عرس مقام :
- "إنتِ اللي ليَ يا نور عينيا وغيرك إنتي في الدنيا ماليش..".
واقتربت من العرس بضع خطوات وكان عروسان يرقصان في مشهد المراكب والصيادين، وسألت مريم عن صاحب الصوت الذي أعجبت به شيخاً واسمه عبد الرحمن يتلفع بكوفية ويعتمر قبعة صيادين فأجاب المجيب :
- إنه العربي، ابن عائلة من الصيادين الجعافرة، كانوا يصطادون في الملاحات جنوب الورديان،.. هل أنت غريبة؟!
وأجابته على وجل :
- نشأت في كرموز، وانتقلت مع الأهل إلى السكنى هنا مؤخراً..
وابتسم العجوز كاشفاً عن سنتين خربتين، قال يعينها على خوفها المتولد بسببه :
- أحسن ناس.. (ثم وهو ينادي على العربي..) فلتأتِ إلى هنا أيهذا الشقي ! لديك معجبة !
وجاء العربي - مودعاً مشهداً شعبياً راقصاً وحافلاً - وكان ذا جسد هزيل بعض هزال، ولكن حنجرته نحاسية - متجسدة لدى عنقه في صورة تفاحة آدم كبيرة - تجيد التطويع، وسأل العجوز أول مقدمه سؤلاً يشي بعمق صداقة يقول في سمر :
- لماذا تضع الكوفية رغم أننا في عز (ذروة) الصيف؟
وأجابه العجوز وكان منتشياً على نحو دعاه إلى إفحام محدثه :
- مثلما تغني أنت النغم الحزين في المناسبات السارة !
وضحك الشيخ ضحكة قبيحة متكلفةً صوتاً عالياً انتقلت بالعدوى إلى مريم فاستقرت على وجهها في صورة ألطف، وقال العربي وهو يلتفت إليها لأول مرة :
- لقد جعلت مني مادة للضحك، على وجه الآنسة !
وقال الشيخ ثملاً بانتصار :
- هذا كي تتعلم ألا تنازع عبد الرحمن (يريد نفسه) في ساحة له !
وقالت تسأل العربي :
- هل تعلمت الموسيقى؟
وكتم العربي ابتسامة، قال :
- كل شيء هنا وليد الاستماع والتجربة والحس الشعبي، يقول العجوز عبد الرحمن بأني أنشد غناءً حزيناً، بمقدور الكورد (مقام موسيقي) أن يناسب الحزن والفرح في آن، إنه مقام سهل طيع، وقد تلقنت مفتاحه من الفنانين الشعبيين المجهولين.. انظري كيف بوسعي أن أرد الغناء نفسه إلى السرور!
وأعاد على أسماعها قوله :"إنتِ اللي ليَ يا نور عينيا.. إلخ.." في حال سرور من الزاوية الأخرى للمقام فابتسمت، وقال عبد الرحمن متراجعاً:
- لقد أفحمني العربي في مجاله، ولا ضير فبيننا جولات لن تنتهي !
وهنالك ترامى إلى أسماع الثلاثة نداءات تصدر عن عرس متروك، وهرع العربي يلبي هاتفه على حين جعل يلتفت إلى العجوز بعد مسافة فيقول في شغب من أمن الجواب :
- فلتخلع الكوفية رحمةً بعنقك !
وتطلعت مريم إلى مشهد العرس على حين شرعت تستأنف تناول حمص الشام شاربة منه رشفة أو اثنتين، وقد استمرأت (استطابت) مذاقه هذه المرة،.. كان العربي يقترب من العريس الذي جعل يمسك بيد عروسه فيرفعها عالياً بينما تدور، وتخلل استغراق مريم شعور بالصدمة المباغتة، فجعلت تردد بينما تغشاها سحب ليل مكفهر :"البيت.. لقد نسيت العودة !"، وسألت العجوز قبيل انصرافها الطارئ:
- هل سيحضر المغني غداً؟
- وماذا تخالين غير ذلك من صعلوك بلا عمل؟ ستجدينه في نفس المكان والزمان غداً يلعب الكرة في مهارة كبيليه، إنه بيليه الورديان في الواقع !
- إلهي ! حمداً لله على عودتك ! (ثم ما يفتأ ينتقل بها الشكران إلى صنف من العتاب القاسي متزامناً مع تراخي كفيها وابتعداهما عن الوجه..) وأين كنت طوال هاتيك المدة؟
اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات قصص
- لقد حدا بي انغماسي في السير إلى أن بلغت حي الورديان !
وظل اسم الحي يتردد في أذن الأم تردداً قلقاً، لم يكن الورديان حياً شعبيا قديماً قدم بحري وغيط العنب وكرموز وباكوس، ثم أن الحي كان إلى العشوائية أقرب، وقد نمت على أطرافه مناطق عشوائية كالكرنتينا ونجع العرب، وتدخل هشام عزمي في الحوار متصنعاً انفعالاً فيه توبيخ، وكان في الحق دون صابرين تأثراً أو اهتماماً :
- في الورديان - وكما نسمع - تقترب صورة الفتوة إلى البلطجي،.. الحذر الحذر، ولتأخذي بالحزم في التحفظ من السير هناك.
وقالت :
- لم أرِ في الورديان إلا عرساً سعيداً.
وقالت صابرين متأثرة بتجربتها مع النيجرو والجعب فكأنما تروم أن تجنبها بإظهار وجه حازم ما سبق أن مرت به :
- لن أنتظر حتى تريهم (تريد الفتوات) رأي عين، إلهي.. إن منهم من يكتب فصولاً جديدة من الدم والهدم، ستتوهين يوماً في شوارع المدينة وأزقتها ومن الخطر أن تُترك براءتك نهباً للمخادعين فيها، والحذر من عقار العفاريت برشدي، وعربات الكلور السام بالكورنيش، والحفر التي يهوي فيها السَّابِلَةُ بشارع النابي دانيال..
وأمعنت الأم في ضرب الأمثال، فتساءلت مريم في غضب أخير :
- كيف أتوه فيها وهي المدينة الصغيرة؟ بمقدوري أن أقطع المسافة بين أقصى الشرق فيها وأقصى الغرب في ساعتين !
وضربت صابرين على مريم أسوار عزلة فمنعتها إثر ذاك من الخروج والتنزه في اليوم التالي، وهبطت الشمس وارتفع القمر، حل المساء وغابت الدنيا في دياجير العتمات، ومكثت مريم في جناح الفندق المترع بالنعمة والوفرة تستعيد صوت العجوز الموسوم بالشيخوخة والتهكم :" في مهارة كبيليه، إنه بيليه الورديان في الواقع !" - تستعيده في حزن، كأنما أدركت الفتاة عظم ما فقدته وتفتقده من لقاء ثانٍ كانت تطلع إليه، وبحثت عن سبيل للتسلل وهي ترفع نمرقاً (وسادة) فوق قدميها في يأس، كان أخوها عز - ابن سنوات ثمانية - كثير الشغب وقد صدقت إرادتها على الاتفاق معه، واستعانت به على مأربها فشغل الصبي أمه مقابل الحلوى تأتي له بها ريثما تسللت الصبية في غيبة من رقيب، وتماهت مع حركة نفر من نزلاء الفندق الخارجين كما يتماهى الطير في تكوين أسراب تغيب فيها خصوصية الواحد، وانسلت خلف القوم.. وهرولت لتأخرها تحت جناح المغيب المنبسط واستمسكت بالأمل في اللحاق بالمباراة، وبلغت مبلغاً بلغته في الأمس - كالمرء يتراءى له عين الحلم مرتين في ليلتين مختلفتين - فاستقبلها العجوز يقول :
- إنها مباراة بين فريق الورديان وبين فريق باكوس،.. وقد حمي الوطيس!
كان العربي يرواغ ويناور في براعة وكاد إلى التسجيل قاب قوسين لولا أن لمح على الأرض خيالها فاضطرب وذهبت كرته في عارضة جُعلت من زجاجة فارغة، وارتدت الكرة فوقع أن سجل الفريق الخصم هدفاً من سبيل هجمة مرتدة استقبلها مرمى سامي (صديق العربي ذو الهيئة الجسيمة القوية)، وكان عبد الرحمن يصيح ناقماً :
- من مشارف التسجيل إلى تلقي الهدف،.. تباً لتلك اللعبة المجنونة !
وشخص إليها العربي وكان يجللها ما تسببت فيه من ضياع فرصة التسجيل قبل أن يبتسم لها فتسقط عنها بعض دواعي الحرج، وتعود تجلس رفقة عبد الرحمن الذي كان يهتف باسم الورديان في حماسة الشباب، وألحق العربي إخفاقه في التسجيل بهدف وانتهت المبارة مع ارتفاع أذان المغرب - انتهت بالتعادل، وقالت مريم في أسف :
- كادت المباراة تنتهي لصالحنا لولا حضوري !
وراعى العربي وكان ينشف عنقه بمنشفة ثم يشرب الماء - راعاه أن الفتاة تستخدم الضمير الجامع تشير به إلى الانتماء المشترك، كان العجوز عبد الرحمن أكثر شيء انفعالاً متصفاً بهاته الغوغائية التي تحفل بها نفوس مشجعي كرة القدم في أعقاب وخلال المباريات، وحتى لقد خلع قبعة الصيادين في تبرم، وجعل يقول في حمية المنتمي المسفِّه من خصمه :
- سمعت من أحد الأفندية المتعلمين أن باكوس كان اسم إله الخمر عند الرومان الذين سكنوا الحي غير بعيد،.. كيف نتعادل مع أحفاد المخمورين؟
وضحكت مريم فكأنما انقشع عنها شعور الأسف، وارتسمت على محياها المتورد ابتسامة رائقة دعت العربي إلى سؤالها عن محل إقامتها، وقالت تشير إلى شبح مبنى الفندق البعيد القائم في نهاية سبيل طويل تقوم على جانبيه العقارات الأدنى في مستواها :
- إني أقطن ها هناك، رفقة العائلة !
وبدا الذهول على وجه عبد الرحمن فقال ووجهه يطفح بالانفعال غير مجتهد في إخفائه، فينظر إلى الفتاة ثم إلى الفندق في تواتر :
- إلهي ! أنتِ فتاة ثرية !
واتصل حديث الثلاثة تحت حمرة الغسق، حتى لاح الفتوة أبو جريشة فجعل يوزع بعض غنائمه على مشهد منهم وسط أهالي الورديان المعدمين، وظهر البوليس المصري في أعقاب ظهور أبوجريشة، كالقط يطارد الفأر فلا يهدأ له بال أو تقر له عين إلا حين يعود يمسك به، وضاقت عينا العربي حين رأى الضابط ممسكاً بأبي جريشة من لدن قفاه في مهانة، وأورثه الموقف غضباً طبقياً،.. وقالت مريم في هلع وقد خطر ببالها حديث أمها المحذر من الفتوات كالمنصرفة :
- سأمضي،.. إلى اللقاء !