اهتزت الأواصر بين هشام عزمي وبين الخواجة رجب بعد وقوع حركة يوليو على نحو لم يسبق إلى مثله، ألف هشام عزمي أن ميزان القوة في البلاد بات يميل إلى كفته، وأوعز إليه شيطان الطمع بأن يتكلف المشكلات مع الخواجة حول مسائل واهية تخص مسار العمل، والتقط الإشارة ومعها نذر المستقبل الوشيك.. وكان الخواجة يقول :
- الأجانب أولاً، إنهم يدفعون ولا يبخلون !
وجعل هشام عزمي يغمغم وهو يجول في الأرجاء :
- الأجانب، الأجانب، الأجانب،.. هل عدم معجمك من كلمة غيرها؟!
وكان الخواجة يقول في لكنة عربية متكلفة :
- أنت تفتعل المشكلات بلا سبب.
هذا وكثيراً ما ينتقل بهما النقاش من إدارة العمل إلى صنف من الجدال حول الجذور الحضارية والتاريخية فيقول الخواجة :
- لقد شارك الفرنسيون والإنجليز في صناعة مجد هذا البلد في عصره الحديث،.. لقد فك الفرنسي جان فرانسوا شامبليون شيفرة تاريخ بلادكم وقتما كنتم تجهلون به ولولاه ما كانت المصريات (يريد علم المصريات)، وأما الإنجليزي روبرت ستيفنسون فأشرف على إشادة أول سكة حديد مصرية !
وقال محدثه :
- سوف تنتصر الحركة الجديدة للمصريين المقموعين، ولا أستبعد أن تطرد المستكبرين منكم ! لم نعد بعد اليوم قيثارة تبكي لتطرب سيد القصر أو زيتاً تستضيء به قناديل السادة.
وقال الخواجة في صوت جهير :
- سأكون آخر من يرحل من جاليات الأجانب،.. ألم تسمع خاتمة البيان :"وإني أطمئن إخواننا الأجانب على مصالحهم وأرواحهم وأموالهم، ويعتبر الجيش نفسه مسؤولاً عنهم!".
وقال :
- سينحاز جيش عرابي إلى المصريين.. لقد ضربت عليك أسوار الظنون والاستيهام !
ويقف الخواجة في سخرية فيقول منفعلاً :
- هل تعرف شيئاً عن سليمان باشا الفرنساوي الذي أشرف على تدريب النواة الأولى للجيش المصري؟ إني أراك تنعم في جرأة الجهل.
ولكن سحائب الانفعال تنقشع - كالغبار بعد معركة - ويرتضي الاثنان حقيقة أن مكاناً واحداً يجمعهما في ظل الحال الانتقالي المعلق، وتبزغ مساحات هامشية من الالتقاء تحت ضرورة المصلحة مع أول ظهور لزبون جديد، ويتوارى جدال الحضارة والتاريخ مع أول قدم غريبة تطأ الحانوت ذا الملكية المتنازعة،.. ولكن ألا تبقى جذوة الجمر في استتار وكمون تحت الرماد؟ وشرع هشام عزمي - في رحلة عودته إلى دياره -يقلب أوجه العواقب بشأن قضية الحركة الناشئة وما يمكن أن تجر عليه من أسباب الاستحواذ، وعاد يستذكر التواريخ فيقول :"لقد انسحبت القوات البريطانية من الإسكندرية والوجه البحري عام 1946م، وتمركزت بجل عددها وعتادها بمدن القناة.."، وارتأى في رحيلها الكامل - أو إجبارها على الرحيل - فرودساً مفقوداً، أجل، أزعجته كلمات الخواجة.. ولكن أليس هذه غضبة الخاسرين أو المقبلين على خسارة؟! وما حاجة الواثق في أن يصرخ أو أن ينفعل؟.. وخلص إلى أن مركباً واحداً لن يتفق له أن يسير طويلاً بربانين،.. وكانت أولى سنوات مريم بالتعليم الإبتدائي فقالت له صابرين حين حضوره :
- لقد قصدت مريم إلى المدرسة في صبيحة هذا اليوم..
وتابعت :
- ولقد اشتريت لها في سبيل ترضيتها فستاناً مزركشاً جُعل لمن هن في مثل عمرها، اشتريته من "بنزايون"، لقد استدارت مريم حول نفسها ابتهاجاً فانتفخ ذيل الثوب وغدا كالكرة الضخمة، وكنت أرنو إليها منداحة الشفتين،.. ولكنها عادت ناقمة حين وعت حقيقة أن عليها تكرار الذهاب الى المكان الذي تبغضه !
ولم يبدُ أن الرجل تأثر في كثير أو قليل، غير أنها (صابرين) تابعت :
- وقد وقع في طريق عودتي ما يصح أن ينسب إلى العجب العجاب، لقد رأيت الخواجة رجب عند ناصية الطريق،..
وبدا أن صمتها في غير ميقاته كأن خشية العواقب قوضت لسانها، فسألها زوجها الذي لم يلتقط حالتها القلقة :
- وما العجب في رؤية الرجل السمين؟
وقالت في وجل :
- لقد جمعني إليه حوار قال فيه : إن امرأة حصيفة تخشى على بيتها لابد لها ألا تسلم لرجل مثلك، وقد قال - مما قال - إن من يقدم على لون من ألوان الخيانة مرة لا جرم أن يتبعها بثانية حين تعود تواتي له الفرصة، وأسهب في وصف زبائن المصبنة الذين يتنوعون بين الرجال والنساء، وقد أوغل في دروب الاستيهام حين بدا عارضاً لهذا الصنف الثاني (النساء)، وما يمكن أن يجره وجوده المتواتر بالمصبنة من احتمالات.. إنني لم أعر للأمر اهتماماً لمعرفتي بنزاعكما،.. ولكنني لم أتصور أن يصل الخلاف بينكما إلى هذا الحد !
وكان غضب الرجل يتنامى مع كل جملة تنطق بها امرأته، وكانت صابرين - خلافاً لما تبديه من ثقة تدعي أنها ولدت منذ يوم صلح كامب شيزار - قلقة كل القلق حيال مسلك زوجها، فجعلت كلمات الخواجة توقد نيران الشكوك والارتياب فكأنما ارتأت أن تفصح عنها في هيئة المنكرة لها قبل أن تحترق بها.. وفي صبيحة اليوم التالي قصد هشام إلى المصبنة فأمسك برقبة الخواجة يقول :
- كيف سولت لك نفسك؟ أيها الرعديد؟ أتروم إفساد حياتي؟
اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات قصص
- لم أنطق بغير الحقيقة،.. ستجر على نفسك أسباب الوبال إذا أنت قتلت عجوزاً إنجليزياً !
وطاف في خاطر المعتدي طيف مريم فعدل عن رغبته الانتقامية، وألجمه خوفه على عز من التمادي،.. وبدا الخواجة على حافة الاختناق فجلس يسترد أنفاسه اللاهثة،.. وجعل يغمغم من الكتاب المقدس قوله، متمثلاً على صدره صليباً وكان كأن عينيه قد أسبلتا من أثر الاختناق :
-"من يد الهاوية أفديهم، من الموت أخلصهم..!" .
في نفس هشام عزمي غصة، ورمقه بازدراء ثم تولى عنه مغمغماً كأنما يقول :"فإذا لم يخطفك الموت، فلتضربك أسبابه.."، وقال حين سماعه للقول الديني :
- كف عن التمسح بالأنبياء والقديسين تبرر بها سوء عملك، إنها دموع التماسيح.. ما أتعس شذاذ الآفاق في حيّنا !
وقال الخواجة وقد انتقل غضبه من محدثه إلى السخط على المصريين جملة :
- وماذا يفعل المصريون بالنذور والأضرحة والموالد، ليل نهار، إلا التعلق بعالم آخر على حساب دنياهم التعسة؟
- ألا يمكنك الحديث ببعض الاحترام عن عادات قوم أنت ضيف في ديارهم؟
- ثلاثون عاماً في بلادكم، وتعدني ضيفاً؟ لقد خبرت أزقة هذه المدينة وشوارعها شبراً شبراً، وعاشرت أهل التقوى فيها والمجون.
- ثلاثون عاماً من الاحتقار لنا ونظرة الفوقية.
- احتقر المخادعين والجشعين !
ثم يعود يطفو حديث الجذور الحضارية فوق صفحة الخلاف المستعر، يقول الخواجة :
- يالعقولكم الصدأة المتخشبة،.. انغمس المصريون طويلاً في الجهل والخرافة حتى آذانهم، أيقظتكم مدافع نابليون من غفلة العصور الوسطى التي كنتم تغطون فيها، وتعلمتم من الإنجليز كيف تقيمون النظام وتنهضون بالفن والحضارة، حاولت الأسرة العلوية بناء دولتكم وها أنتم ذا تطردون آخر ملوكها،.. بمقدور المصريين اليوم وقد آل إليهم حكم بلادهم أن يطردوا كل أوروبي، أن يخاصموا كل طرائق الغربيين، أن يكتفوا بقوقعة يضربونها على أنفسهم تمنع عنهم كل فكر غريب، ولكن فلينظروا ماذا ستجني أيديهم مستقبلاً من الثمار العاطبة، جراء هذا !
وابتعد هشام عزمي منه خطوتين ثم ولاه ظهره يقول :
- أنت رجل معجون بداء الكبر والكراهية،.. ولا نفع فيك !
وجعل الشاب يفكر فيما جره عليه حديث الخواجة من الشك النابت في قلب امرأته، وفي حقيقة أن المرء لا يمكن أن ينطق بحديث - ولو على سبيل الإنكار والهزو - إلا إذا هو فكر فيه مرة، ولا يتسنى لحديث أن يرد على لسان ناطقه قبل أن يرد على خاطره.. وجمع بينه وبين صابرين اجتماع المساء فقال وهو يضرب جبهته في تكلف، وكان يروم أن يخمد في فؤادها نيران الجزع من طريق مبتكر :
- لقد نسينا الاحتفال بعيد الحب !
وواصلت صابرين مضع الطعام فلما انتهت تساءلت وقد استهواها التركيب الرائق للاسم وإن جهلت بماهيته :
- وماذا يفعلون في "عيد الحب"؟
وقال بعلها :
- إنه يوم يوافق ذكرى القديس فالنتين ويحتفل فيه الناس بالحب والعاطفة،.. من أسف أنه يوافق السادس من يوليو وفقاً للكنيسة الشرقية وقد فات ميعاده منذ نحو أسبوعين !
وكان الرجل يعرف أن حديثه لن يمر وتحقق حدسه فما لبث أن أنكرت عليه صابرين قولته :
- لا ينبغي أن يكون للحب يوم وميقات في العام إذا كان حقيقياً مخلصاً، وفي نقاء البلور !
وكانت عبارتها إيذاناً بالاحتفال المتأخر بالعيد الغريب الجديد على الأسماع، عُلقت الزينات والبالونات في يوم استأخرته شواغل الزوجين بضع أشهر، واشترى هشام عزمي لزوجه الزهور من حانوت "أوبافيون دي فلوريل" العتيق بشارع فؤاد، وأنستها مظاهر الاحتفال به ذكرى الظنون والجزع، فقنعت بموجات الصعود والهبوط في علاقتها به قناعة التسليم، كانت مريم ترتع وتلعب بالبالون - في قرب منها - وقد اعتادت الطفلة أخيراً حياة المدرسة، وانفجر البالون حين لامست نجفة الكريستال من صنف عصفور كأنه قنديل البحر الهائم في سماء الحجرة، فجعلت مريم تبكي واحتوتها صابرين بين ذراعيها احتواء الأمومة، كانت الإذاعة تبث أغنية فريد الأطرش من فيلمه الأخير لحن الخلود فاستبدلتها بأغاني أم كلثوم نظراً لمديحها للملك المغضوب عليه سياسياً، وأدمعت صابرين لدفء اليوم السار متأثرة بكلمات الأغنية :
- "وحب قلبي لقلبك، حب الربيع للزهور، وعشق روحي لحسنك عشق النشيد للطيور..".
وفي الغد كان هشام عزمي في غمرة الانشغال وقد شمر طرفي بنطاله وقميصه، حين سمع الخواجة يقول له :
- ثمة امرأة تطلبك (ثم وهو يهمس في أذنه..) إنها جميلة إلى حد أنك لا تستحق سؤالها !
وفزع إلى الخارج حيث تنتظره المرأة فقال كالمشدوه :
- سوسن؟!
وكانت تبكي بين ذراعيه - على ما جره عليه العمل من رثاثة مظهر واضطراب هيئة - وفطن الرجل في خضم بكائها إلى وجود الخواجة رجب الذي كان يرقبهما من وراء الزجاج الشفاف بعينين صقريتين فانتفض عنها جزعاً يقول :
- لماذا لا نذهب إلى مكان آخر؟
وكان ميدان المنشية على مقربة من النصب التذكاري للخديوي إسماعيل المصنوع من الرخام الأبيض، بمحاجر كرارة بإيطاليا، وقالت وهي لا تزال تجود عيناها بالدموع الغزار، كأنما تجتر شيئاً يدعوها إلى يقين :
- كان فجر القانون في بابل، وفجر الكتابة في لبنان، وفجر الديمقراطية في إثينا، وفجر القانون بروما، وفجر الضمير في مصر.. آه.. إلهي.. أين ولَّى الضمير في بلادنا كي يُطرد منها مليكها؟
ورمق هشام عزمي تمثال الخديوي إسماعيل - جد الملك الموصوف برثاء المطرودين - فألفيه (التمثال) يفيض بالسلطوية والجمود، وكان في معماره منسوباً إلى الحقبة الإيطالية الفاشية، قال :
- تلك كانت مقدمة عظيمة، عزيزتي،.. ولكن كل بداية لابد لها من نهاية.
وشرع يزيد يطمئنها بقوله :
- لعل الأمير أحمد فؤاد الثاني يكون قادراً على النهوض بالمسؤولية !
والتفتت إليه لأول مرة بغير انفعال أو بكاء تقول :
- أنى له بهذا وهو طفل تحت لجنة وصاية يرأسها الأمير محمد عبد المنعم، هذا الذي كان جديراً بالملك لولا أن حرمته إنجلترا وألاعيب السياسة؟
- لا أعرف، ربما حين يكبر،.. علينا أن نفكر بإيجابية.