الفصل الثاني والعشرون: لقاء الرئيس في الريف
علم بهاء الدين بنية الرئيس عبد الناصر زيارة مركز أبي تيج بعد انتهاء جولته في مدن الهند كبومباي وبنغالور ومدراس، تزينت البنادر وهُذبت أشجار الكازورينا، وخيل لبهاء الدين أنه سيقف أمام الرئيس فيخطب خطاباً يصدره بالقول :
-"إن عمر الفلاح المصري، وكما تعلمون، من عمر الدهر عاماً بعام، وقد انتصرت الثورة له أخيراً بعد عهد شقاء ولى باعتباره عصب القرية.. وأما أشجار الكازورينا، هذه التي نقف في نعمة ظلالها الوارفة، فصعبة المراس، عنيدة، تزهر في الشمس، تقاوم الحرارة والرطوبة المرتفعة والجفاف والقولية وحتى التيارات البحرية،.. تماماً مثل سيادتكم، تقاومون الاستعمار والرجعية وذيولهما.." !
كان الشيخ ينتوي أن يظهر الرئيس على أمور أخرى من أسباب العسف والجور بعد هذا الاستهلال والإطراء، اطلع بهاء الدين نوحاً على خطبته فاستحسنها غير أنه سرعان ما تحفظ على نيته الثانية (مصارحة الرئيس بأوجه من العسف في دولة له)، يقول بهاء الدين مدافعاً :
- إن كاتم الشهادة شيطان مريد، وقفت أمام فاروق بمجلس الأمة أصارحه بعيوب الملكية ولن أخشى أحداً، إن النفاق ليس من شيمي قط، وغداً يوم كأي يوم!
وكان نوح يسأله :" ولم هُذبت الأشجار وتزينت البنادر إذن إذا هو يوم كأي يوم؟ بل هو يوم قلق خير له أن يمر.."، وقال بهاء الدين له :
- كنت لا أفهم إشارتك في أحوال.. واليوم لا أفهم الغاية من حديثك !
وكانت تسنيم تقول :
- الحق مع نوح.. والعاقل من اتعظ بغيره !
واجتمع بهاء الدين مع نفر من الفلاحين في مندرة بيته، كان الرجل يرتب معهم استقبال الرئيس فيسألهم :
- وماذا ستفعلون حين حضوره؟
وقال قائل منهم :
- سنحمد له جهده، لقد قضى على المصادمات بيننا وبين كبار الملاك، ذلك أنه قضى على كبار الملاك ببساطة، لقد انهارت طبقة باشوات ملاك الأراضي الزراعية في مصر ! سنصطف أمام أشجار الجازورينا نصفق له، ونستمع إلى كلمته..
ورفع الشيخ عينيه في تململ :
- أعني ماذا ستفعلون بعد الحمد والتصفيق؟
وقال ثانٍ :
- ولماذا تحرضنا على أن نفعل؟
- وهل عدمت حياتكم من المشكلات؟
- حياتنا نعيم ورغد قياساً إلى ما قبل الثورة، يعرف الرئيس عمله جيداً، إنه صعيدي من "بني مر" !
- سلوه حاجتكم ولا تبلعوا ألسنتكم ! ألا يشوب جمعيات الإصلاح الزراعي (تتولى استلام الأرض من الملاك بعد ترك النسبة المحددة لهم) شائبة؟
وطال النقاش بين الفريقين حتى حضر نوح فحرص على صرف الحضور، كان من بين المنصرفين من يغمغم :"رجل المدينة يناقش أحوال الريف.. لماذا لم يبقِ في الإسكندرية؟"، وحل شهر رمضان وتأجلت الزيارة المرتقبة إلى ما بعد عيد الفطر، وقال بهاء الدين لنوح وهو يغمس الفول المدمس، في سحوره :
- من عجب كيف يتملص أولاء الفلاحون من مشكلاتهم لدى رؤية المسؤول عن حلها !
ولم يجد جواباً من نوح الذي كان لا يأكل إلا لماماً، ، كان بكر وبدور يلعبان بفانوسين من الجريد على قرب من الجالسين فاستوعب الصمت شغبهما، وأردف بهاء الدين وهو يشخص إلى الحائط المقابل المعلق عليه صورتي سعيد (والد نوح) والرئيس عبد الناصر:
- وقد يلتمس المرء العذر لهم، إذ أن وجود صورته يبعث على القلق والترهب، إنه فارع الطول له وجه أبوي التقسيم.. فما بالك بحقيقته؟ آه! لا أقصد أباك، إنه رجل طيب المعشر حتى يخيل للمرء أن من عرفه لا ينساه يوماً، إنه إذا دخل جسدك لا يفارقه، تماماً كالملاريا، لا.. لا أقصد أن أشبهه بهذا الداء الذي فقد حياته بسببه، من المؤكد أنني لم أقصد هذا.. لماذا لا تأكل؟ إنك إذا لم تملأ بطنك الساعة شقيت في صيامك من نهار الغد إلى مغيبه !
وحضرت تسنيم ومعها قلة ماء ومجلة، قالت :
- فلتنظر إلى هذه.. (تشير إلى المجلة، ثم في لهفة حين يمد الرجل يده نحوها..) ليس قبل أن تشرب من القلة رشفة أو اثنتين !
وكانت صورة عفاف على واجهة المجلة الفرنسية في زي فرعوني، وقالت تسنيم التي لم تنتظر تعليق بهاء الدين الذي بدا بدوره شاحب الوجه :
- اعترض غانم (العمدة القديم) سبيل نوح هذا النهار، وهدده بإفشاء الأمر في ريف أبي تيج المحافظ !
وقال بهاء الدين :
- إن الخطأ خطأ يوسف وزوجه لا غانم،.. فماذا ينتظر المرء من الحية إلا لدغة؟!
وخرج بهاء الدين إلى فضاء أرضه معللاً برغبته في تنسم هواء الفجر الزلال ولم يكمل سحوره، لحق به نوح فقال وهما يجلسان :
- هنا في أبي تيج، وفي الصعيد جملة، تلتمع النجوم وتكثر، تبدو أوضح من نجوم الإسكندرية، أعرف أن النجوم هي النجوم في كل مكان،.. ولكن مهلاً.. هل تعرف أن السماء كاذبة حين ترامقها؟ أنت وأنا لا نرى النجم في حالته الآنية لأن المسافة تستأخر الضوء، ما نراه هو الماضي، ماضي النجوم، السماء تلتقط صورة لماضي الكون وتخدعنا بها،.. أريد أن أكون نجمة كهذه حين أمضي، لا أريد أن يبقى من رفاتي شيء، أعرف أنني سأرحل قريباً، لقد عشت كأن الموت يمهلني، ولعلي أقصد إلى بعض خلود،.. ولكن حتى النجوم، ولو كانت عملاقاً كمنكب الجوزاء.. أقول ولو كانت كذلك أو أكبر تنطفئ، كحيوات الأحياء التي تنتهي، لقد تكونت أجسامنا من غبارها، ولا عجب أن تتشابه نهاياتنا مع نهاياتها.. (ونهض فمد يده يقبض على واحدة..) هل ستغضب إذا غيرت الوصية فجعلتها كلها لك ؟!
وقال نوح ما مؤداه أن تسنيم قد استرقت النظر في منامه إلى الوصية الحالية وقد رضيت - لأجل ذاك - بما هو كائن، مثلما رضي هو دائماً، وقال بهاء الدين :
- سأقبض على غانم، من الخطر أن يُترك الساعة، لقد قتل جعفراً وكان يجب أن يحاسب.
ووافقه نوح حول رؤيته على حين كان المؤذن يلح على المتسحرين بالكف عن الشراب والطعام، ينادي بصوت رخيم على حين يسود الصمت في الربوع، حتى في جلسة بهاء الدين ونوح.. في صبيحة اليوم التالي اتفق بهاء الدين مع المديرية على أن يبعث بالخفراء كي يقبضوا على غانم، وجاء الرجل يقول بينما تسوقه البنادق :
- تقبضون عليَّ كيما لا يفتضح أمر العمدة وزوج ابنه ؟! لقد شحب وجه القانون..
وغاب غانم في غياهب السجون، وثار أعيان أبي تيج لصديقهم المحبوس وضجوا بسياسة بهاء الدين، وانتشر الخبر في الريف رغم محاولات الرجل السيطرة على الأمر وكبح جماحه، كان أحد الأعيان يقف على ربوة عالية يقول محدثاً قرويين على امتداد بصر، يحرضهم :
- كيف يمثلنا رجل المدينة أمام رئيس البلاد إذا كانت فضائح أقربائه ملأ السمع والبصر؟!
وانزوى بهاء الدين فلم يخرج في ثياب جديدة كيما يتلقى التهاني في عيد الفطر كدأب العُمد في هذا الأوان، ولزم بيته يأكل الفايش الصعيدي "الشريك" الذي يحبه ويستمع للقرآن، وقال لنوح :
- خيل لي أن ثمة في الريف غانم واحد تنتهي المشكلات بالقبض عليه، غير أن في ريفنا ألف غانم..
وتطلع إلى حركة الماشيين عبر النافذة يقول :
- يزور الريفيون أهل المتوفي في يومنا هذا إذا لم يمر على رحيله عام، إنها مكرمة تدلك على حسن السجايا هنا، وقد تصل بك إلى ما هو أبعد من هذا من الافتراضات،.. ولكن.. ألا يروم بعضهم الآخر اغتيالي معنوياً؟ إنهم يجولون الربا ويتحدثون أمام المصاطب عن فضيحة العمدة، رجل المدينة،.. ولقد أسألك : أإلى الطيبة ينتسبون أم إلى الأذى؟ يوسف أيضاً طعنني في ظهري، من المؤسف أن تأتيك الطعنة من الأقرباء، إني أشتاق إلى الحضر، وأنشد أن أدفن في رياض الإسكندرية !
وانتوى الاستقالة من منصبه لولا أن نوحاً قد أثناه عن الأمر غير مرة، ونصح له بإرجائه إلى ما بعد زيارة الرئيس، كانت زيارة القبور جزءاً من ثقافة الاحتفال بيوم الفطر في الجنوب، غير أن الرجل (بهاء الدين) لم يجد في نفسه حاجة إلى زيارة قبر زوجه لإحساسه بقرب أمر ما، وقبله نوح وسأله المغفرة عن خطيئة من يتعرضون له ويرجفون ثم انصرف، وخلا الرجل إلى حجرته وأمسك بالقلم والورقة يكتب شيئاً دسه في جيبه، وتوسد نمرقة فغاب في متاهات الرؤى والأحلام، وأبصر فاطمة في صورة نورانية هائمة في فضاء عالٍ، كان هائماً هو الآخر وارتأى أن المرأة تمد يدها له، فسر وانشرح، كان ثمة الغوغاء يلوكون سيرته ويتعرضون له غير بعيد على الأرض، غير أنه لم يلقِ لهم وزناً،.. وسألها:
- أين أنت ؟!
وقالت له (فاطمة) :
- إلى حيث ينتهي الطيبون !
- وكيف حال عظامك؟ أفي السماء عشبة السنفيتون؟
وقالت ترد على ملاطفته بما يشبه المكايدة الطفولية :
- أفضل من عظامك ! (ثم في جدية..) كل شيء هنا نوراني ! لقد تخلصت من متاعب الجسد، لماذا لا تتخلص أنت أيضاً؟!
وقال :
- أريد أن ألتقي بالرئيس أولاً، سأشكوه بغير خوف ولا وجل.
وقالت وهي ترمق من على الأرض في ازدراء بينما يمضون في غيهم :
- لماذا تصر على الدفاع عمن يخوضون في شرفك؟!
وصمت، فقالت تمد إصبعها :
- هلم! لقد طلبت يوم أمس أن تكون نجمة، وأن تعرف حقيقتك الفانية الخلود، والخلود لا يكون إلا هنا !
ومد إصبعه، فقالت كالمرتعبة بعد أن جاءها من يهمس في أذنها، وكان جسماً من النور بغير ملامح :
- ليس قبل أن ترضى عن يوسف وزوجه !
- لقد رضيت عنهما، وأسأل لهما المغفرة.
وحلت الصبيحة وتأخرت يقظة الرجل إلى حدود الظهيرة، كانت تسنيم تقول :
- يالنومك الثقيل ! ثم وهي تهمس :" لابد أنك قد أكثرت من الفايش وقد أسلمتك التخمة لمنام عميق.."، وسرعان ما وعت حقيقة أن ما حسبته نوماً ثقيلاً لم يكن إلا رقاداً بلا قيامة، ولم يملك نوح دموعه حين حضر غرفة المنام فنشج نشيجاً مؤلماً، ثم استخرط في بكاء حتى كاد ينطق معه تأوهاً،.. وطال الحزن بالاثنين حتى استوعبت الأفهام حقيقة ما وقع وتسربت القناعة في مخاض الألم، وهناك تساءلت تسنيم :
- وماذا سنفعل في زيارة الرئيس، اليوم؟!
وقال بلغة إشارة ضعيفة التعبير لفقدانه شغف الحديث :
- "لماذا لا تُلغى الزيارة؟! من المحال أن نحتفل برئيس في يوم وفاة عمدتنا. كيف يتجاور الحزن إلى الفرح؟".
- هل تمزح؟ إن أمره (تريد الرئيس) إذا أراد للأمر تتمة أن يصنع له المستحيل.
وأشار نوح - بعد جدل - بأنه سينوب عن المتوفَى (بهاء الدين) في لقاء الرئيس مرغماً، وأزاد يبرز عزمه على نقل شكايات أبي تيج على نحو ما أراد لها بهاء الدين أن تُنقل، ووقفت تسنيم إلى جوار نوح من أمام هذا الوفد الرئاسي تحيل الإشارة إلى بيان، كان نوح يشرح للرئيس ومن معه المتعذر من أحوال أبي تيج، ، فيسهب الرجل في شرحه، إنه ليعتبر إسهابه وفاءً لمن رحل عنه ويتمثل صورته الباقية في روحه، يتمثله هناك، فوق أشجار الكازورينا، فيما يبكي بين آن وآن حزناً على رجل كان - لولا وفاته - في موقعه، يهز عبد الناصر أنفه الكبير هزة خفيفة، ويرفع عينيه الساهمتين فيما يمسك يده اليمنى باليسرى، كأنما يقبض على انفعال أو حزن غائر ذا شجون، وأما حين يسأل نوحاً عن سبب البكاء فيجيبه الأبكم، في إشارة :
- إني لأبكي من رؤية الرئيس !
72
أُخذت نرمين بمعرفة عبد الغني لاسمها فما أن لاح مراد حتى جعلت تعدو هرباً من الرجلين، وحاول عبد الغني اللحاق بها فمراد من بعده، وأفضى مسارها إلى حائط فتوقفت إثر ذاك توقفاً حمل الرجلين على الأمر نفسه، وسألها مراد :
- ولمَ تفرين منا وقد أنقذناك ممن أراد بكِ السوء؟!
وانفجرت في وجهه تقول :
- ذقت في حانوتِك نظرة الاستصغار والازدراء، دعني أفصح لكَ عن أمر : يختار المرء قناعاته وقد يعزم على هذا الأمر أو ذاك، ولكنه لا يختار أقداره، وقد اشتغلتُ بما أُكرهت عليه من واقع ما تفرضه التصاريف وحدها، إني أعيل أسرتي بعد فقدان والديَّ،.. هل تعلم كم فم ينتظر أن أطعمه ؟!
وتقدم عبد الغني خطوة يقول :
- الذنب ذنب زوجي وابنتي، وقد حل بنفسيهما الندم محل الازرداء، واليوم أجيء لكِ بعرض عمل، يا صاحبة العكازين،.. تعاونين مراداً وتحظين بقسط من نصيب أرباح التجارة، مثله !
وقالت نرمين :
- إني دون المهارة اللازمة..
وقال عبد الغني متحمساً :
- سألقنكِ أصول الحرفة، مثلما تشربها مراد، مني، يوماً، كنت أود أن أفصح لكِ عن حقيقة أن سوء السلوك لا ينبت إلا في جوف المعاناة والضياع، إنهما مباءته.
ولم تبدِ استجابة، قال مراد كأنما يحرضها على القبول من باب الهجوم :
- دعها لما هي فيه، فقد ألفت سفارة الهوى !
وأزعجتها عبارة الشاب، فقالت :
- سأعكف عن الأمر يوماً، ثم أجنح لما هو أنزه وأقدس، كرابعة العدوية، دعني أفصح لكَ عن أمر آخر : إني لا أوذي بفعلتي أحداً (ثم وصوتها يأخذ ينخفض..) إلا نفسي وسمعتي..
اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات قصص
وقالت :
- وهل علمك المسجد أن تكون قاسي القلب واللسان، هكذا، مع المخالفين؟
وطال النقاش بثلاثتهم حتى أبدت نرمين قبولاً مبدئياً، وطفقت تتعلم مبادئ التجارة فأبلت بلاءً مقبولاً، أناط عبد الغني بنرمين قسماً من الحسابات وولاهما ثقته، ثم ترك لها حرية التصرف،.. وأظهرها مراد على الفروق بين أنواع الأخشاب يقول :
- خشب البوبينجا يستخدم في صناعة الأثاث الراقي، وبعض الآلات الموسيقية كالقيثارة، أما خشب Dalbergia فغني بالزيوت العطرية ذو رائحة نفاذة ويستعمل في صناعة الأثاث ذي الجودة الفائقة..
وكانت نرمين تحني الرأس سعيدة سعادة المشتغل بالعمل الشريف، وتسعد سعادة مضافة لمحبة تكنها نحو مراد،.. وفي موقع آخر كانت هدى تمشط شعر ابنتها (أميرة) الوَحْف (غزر وأسود) ثم تعقد هذه الجدائل، فتجد في ابنتها خلاصها من شاغل الجمال الذي ظل يؤرقها في الماضي، وكانت تثني على وجه البنت الخالي من البثور، هذه البثور نفسها التي كانت تقض مضجعها يوماً وتضرب تطلعاتها المثالية - تستوحيها من أفروديتي والميثولوجيا الإغريقية - تضربها في الصميم، إنها لتسعد بمخالفة ابنتها لها سعادة صافية خالصة.. وإنهما كذلك حتى حضر فؤاد - الابن الأصغر - يقول :
- لقد جاء أبي بوافدة جديدة في حانوتيه..
وقالت هدى في تذمر تستشرف السبيل بعينين محققتين وكانت نرمين قد اضطلعت ببعض أعباء المسؤولية الجديدة :
- آه ! مرة أخرى ! عبد الغني لا يكف عن رعاية المجهولين.
ازدحم الحانوتان بخمسة أنفار بعد فراغ وحاجة، على أن الأمور لم تمضِ على النحو المأمول، تحمل النفس البشرية وحدها أسباب سعادتها ونقمتها، في الندرة كانت الحاجة، وفي الكثرة كان البغض والشحناء، وابتدرت الغيرة بذورها ترعاها العدوانية حتى باتت تنمو كشجرة السنديان، تبدأ الحضارة حين ينتهي الاضطراب والقلق، ويحتل الامتثال مرتبة تفوق البطولة المزيفة من زاوية الشرف، ويستشعر العدالة من يرى وجه الحقيقة.. وكان يوماً تغسل فيه نرمين أرض الحانوت وولجت أميرة فتعثرت قدماها في جردل الماء، وأكبت على وجهها، نهضت تقول وكان جرحاً قد أًصاب قصبة ساقها اليمنى :
- ألم يكن يجب أن تأخذي حذرك فلا تضيعه (جردل الماء) لدى أول الحانوت؟
وقالت نرمين :
- وضعته هناك لأني لم أعتقد بحضورك الباكر.
وجلست أميرة تغمغم :"كنا نشتكى ندرة العدد، واليوم نشكو كثرتنا.."، وأوغر صدر نرمين جلوسها دون عرض المساعدة، وطفقت أميرة تراجع حسابات يوم أمس، فقالت مرتاعة بعد وشوشة ذاتية :
- رباّه.. لقد بعتِ الأريكة بعشر ثمنها !
ونهضت نرمين مما هي فيه، فقالت بعد أن اطلعت على الأمر :
- لم أرِ ذاك الصفر، إني آسفة لأجل هذا !
- عذر أقبح من ذنب ! لا مكان لكِ هنا.
- تأمرين وتنهين كالآلهة.. لستِ ربة الحانوت !
- ومن يكون رب الحانوت؟ ولا تقولي بأننا الخمسة..
- رب الحانوت من أنقذتُ ساقيه..
- من أنقذتِ ساقيه حليم إلى حد التهاون !
وسمع مراد طرفاً من نقاشهما المستعر فما أن دلف الرجل حتى عكفت الفتاتان عما كانا فيه، ووأد حضوره الجدال بغتة كالمرء تصيبه سكتة دماغية،.. كان يقول ممسكاً بصحيفة الأهرام :
- الكراهية خريف الأفئدة، على قلوبنا أن تكون نقية وصافية كي نحوز النتائج المرجوة،.. إنها الكارما، الجزاء من جنس العمل ! لابد أنكما لاحظتما كيف لا تسير الأمور على النحو المطلوب في الأيام الأخيرة !
وأبدت الفتاتان انصياعاً ظاهرياً للرجل الثاني وإن احتفظت نفسيهما بأسباب الخصومة، كان مراد متأثراً بالمعنى الآتي : "تثور خصومات النساء بلا أسباب وجيهة ويتعذر السيطرة عليها.."، دلف عبد الغني إلى حيث الثلاثة مبتدراً بالقول :
- إلهي! لقد قضي على الاستيراد في بلادنا، الأمور تسير كالرجل معصوب العينين يمضي ولا يتوقف ! إن بيرواقراطية شديدة تضع العصا في عجلة المال، واعتداداً وطنياً إذا جاوز الحد استحال شيفونية مضرة، كل سلعة إما أن تكون محلية أو عربية وإما فلا، لقد سئمنا هذا الوضع، يقولون أننا نعيش زمن القلاع الصناعية الوطنية، ولكننا - في الحق - نعيش عزلة خانقة..
كان مراد لا يزال ممسكاً بالصحيفة وقرأ خطاب الرئيس في الأمم المتحدة بالدورة الخامسة عشر كاملاً على الأسماع، هذا الخطاب الذي كانت له أصداء إقليمية واسعة، ووقف لدى الفقرة الوسطى :
- «حينما وقفت الأمة العربية ترد العدوان المسلح على مصر فى شهرى أكتوبر ونوفمبر عام 1956م، ولقد كان مما شرف كفاحنا ورفع من قدره أن المجتمع الدولى المتحضر ممثلاً فى هذه الجمعية العامة للأمم المتحدة قد انتصر لدفاعنا عن مبادئنا ووقف ضد محاولة العدوان عليها، ذلك هو إيماننا بعدم الانحياز طريقا إلى السلام» !
والتفت إلى عبد الغني يقول :
- نبدو محليين ومتشرنقين كأننا أبناء صَدفة، ولكننا نحظى بالاحترام العالمي!
وقال عبد الغني :
- احترام لن يدوم طويلاً ! دعني أفصح لكَ عن أمر : إني لا أعتقد في جدارة المصريين الحاليين ولا أعول عليهم كثيراً، لقد انتكست جدارتنا الحضارية، استعدادنا للعمل، تخبو الحضارات وتتوهج ثم تنطفئ، تماماً كما وقع في العراق بعد سقوط بابل.. يرددون ولا يكفون : الفراعنة.. الفراعنة.. أين الفراعنة؟ منذ ولى عهد نختنبو الثانى (آخر ملوك الفراعنة) بتنا مبتوري الصلة إلى الجذور، محتل يورث آخر تركته، جاءتنا لحظة الاسترداد في يوليو بعد قرون وقرون، ولكننا لم نعد كما كان العهد بنا.. أعرف أن من الحمق أن نستدعي صفحات الماضي دائماً، كمن يمسك بجلباب أبيه متى استوحش السبيل، والحق أن السبيل سبيله لا سبيل الأب، المسؤولية تقتضي أن نتعلم ونتعلم ولو قبعنا في آخر مقاعد المتنورين، إن في التعلم إقرار الانهزام وشرف المعالجة،.. إني أخشىى النرجسية خشيتي من الضياع والهزيمة، وما أشد نرجسيتنا هذه الأيام! لقد أصقلتني محنة قدمي، وجدت في الفراغ فرصة القراءة، بت أرى الأمور واضحة جلية.
وضُرب التقشف على الحانوتين وهبت المرأتان - هدى ومريم - تنحيان باللائمة على عبد الغني لرعاية نرمين اللاتي حملنها وزر الركود، وحملا عليها حملة شديدة في خضم الديون التي تكاثرت على الأب، وأرسل عبد الغني مراداً برسالة التخلص من نرمين، وأوعز إليه بالتماس ألطف السبل في نقل الأمر، فلم ينم الشاب حتى مضت دولة الليل،.. يفكر: "ما بال الأقدار تعاقب التائبين، تُمهل المتجبرين، وتهب العصاة؟"، ووجد في السبل جمعاءً قساوة مهما التف، وانتظر يقظة المدينة بعد هجعتها، قصد إلى بيتها بالعجمي في فجر اليوم مستبقاً مجيئها إلى الحانوتين، إن في سبقه قطع السبيل أمام الحرج ودواعيه، واستقبلته في حفاوة في بيتها الفقير، كانت أسرة الفتاة مكونة من أبناء ستة وكانت نرمين أكبرهم، وانتقلت إثر ذاك مسؤولية الإعالة إليها، تتناول الأسرة السحور على ضوء الشموع، وتشتكي نرمين انقطاع تيار الكهرباء، تقول بعدئذٍ :
- لا أريد أن أثقل عليكم،.. ولكن والحال كما ترى،.. هل تفكرون في رفع أجري؟!
كان مراد يأكل البيض المسلوق بالملح مصحوباً بالبنجر فعلق الطعام في حلقه إثر ما سمع، جاءت صغرى البنات له بقلة ماء من الفخار القنائي، وعرضت عليه أن تضرب ظهره كيما تخفف من حدة الأمر فأبى شاكراً، وقال وهو يسعل في لغة موحية بعد أن شرب من ماء القلة البارد :
- جئت لأمر آخر،.. إن القبطان في عباب بحر يلقي ببعض أحمال السفينة إذا اضطربت أو أوشكت على غرق.. لا يَجب أن يُنظر للقبطان على أنه متجبر هنا، ولايخفى عليكِ أن السوق...
ولكن نرمين لم تلتقط المغزى،.. قالت مقاطعة :
- أفهم ما تريد قوله،.. جل السلع لا تزال ثمينة متعذرة، لقد فتحت الاشتراكية أبواباً ولكن جشع النفوس أشد بأساً من مائة اشتراكية، لا تخطئ فهمي : إني لا استوعب مذهباً كالاشتراكية أو سواها من مذاهب الاقتصاد، وقد يتفق لي أن أرى أن طبقة المتأنقين والأثرياء التي تهاوت بسببها قد حل محلها طبقة أخرى متوسطة من المنتفعين لا ترحم، وكأنما قُدر علينا أن نعيش تحت الضغوط الجسام، ولكني أثمن كل ما قد يزيل عن رأسي بعضاً من عناء إطعام هؤلاء، وأكبر كل يد تُمد إلينا عساها أن تخفف عمن يصطلون بلظى الفقر والذل جحيم الحاجة والعوز،.. سمعت الرئيس عبد الناصر يتحدث في أعياد الثروة عنَّا، وعن قومية وسائل الإنتاج، واستبشرت استبشاراً عظيماً حتى لقد حسبت كلماته تخصني وحدي، وخلت أخوتي موضوع خطبته، فإذا قرن حديثه هذا بألغاز على مثال : الرأسمالية الرثة، البرجوازيون الصغار، الإمبريالية العالمية، والأيادي المرتشعة التي لا تقوى على البناء، فلا بأس، لست ناصرية إذاً ولكنني أقف في صف من يقف في صفي،.. لن نأكل «الاتحاد والنظام والعمل» إذاً لكننا سنأكل الخبز،.. هذه القلة مثلاً (تشير إلى القلة القنائي)، يقول البائع بأنها بحاجة إلى طينة معينة جيء بها من جبال متاخمة للصحاري.. ولهذا فهو يرفع ثمنها ويزيد يسل سيفه المسلط على رقابنا، وكأنه من جاء بها بنفسه من قلب الصحراء ! الأسعار في بلادنا متذبذبة بين قمم ووهاد ! (والتفتت إلى أختها تقول..) لماذا لا تأكلين؟!
قالت الأخت الصغرى :
- من أين تأتي الشهية والطعام لأيام قرديحي (بغير لحم) !
وقالت نرمين :
- ويحك ! هل تقصدين إخجالنا أمام الضيف؟!
وأشفق مراد من إظهار نرمين على الحقيقة المؤلمة في خضم ما سمع ورأى، أمسك حنجرته بكف يده كالذي يكتم في جوفه أمراً، وكان قد حمل محبة للأسرة المسكينة على فقرها وجعجعة المصائب بها، نهض بغتة يقول بينما كانت نرمين تزجر الأخت الصغرى في غير عنف، تضربها على طرف أصابعها :
- سأرحل..
ولحقت به تقول :
- ولكنك لم تخبرني عن سبب مجيئكِ !
وتطلع إليها يقول بعد أن هام ببصره حيناً في الفراغ :