الفصل الثالث عشر : فجر جديد
كان عبد الغني في حانوتيه يدبر الأمر وحده بعد رحيل مراد عنه، حين أتاه واحد من أثرياء الحي يطلب إليه شراء أريكة، وسر عبد الغني وتهلل، قال الزبون يتفحصها :
- يالها من قطعة ضخمة !
وقال عبد الغني :
- سآتي برافعة، إني أضن بالحصان أن يجرها.
وكانت الأريكة الفاخرة في وجودها كأنما تزري بالعصر الاشتراكي الذي أحاط المدينة بمعاني أريد بها المساواة وإذابة الفوارق، وجيء بالرافعة التي تحركت بها قليلاً قبل أن أن تهتز قطعة الأثاث وينفرط التماسك، ووقعت (الأريكة) حيث يقف عبد الغني، واحتشد الناس حول الرجل الذي كان كالملاكم المستسلم لضربة قاضية في مباراة - احتشدوا يحوقلون، بينما هرعت هدى إلى حيث زوجها المنطرح على الأرض تستنهضه، كان عبد الغني قد أصيب إصابة بالغة أعجزته عن الوقوف إلا بمساعدة المرأة الملهوفة، وشوهد فؤاد وأميرة يبكيان وهما يمسكان رأس أبيهما وساقيه.. وفي موقع آخر غير بعيد،.. كان مراد يغط في نوم بعد العزلة التي ضربها على نفسه حين طُرق بابه في شدة غير معهودة، كان وجه الصبح الوضاء قد أسلم الأشياء لجمال رقيق يحسن فيه النوم، وقد بدت على وجه الشاب أمارات الوقار من إعفاء اللحية، وخف الشارب،.. وبدا للحلاج ومحيي الدين بن عربي - والتصوف جملة - دور فيما انتهى إليه.. ونهض الشاب وفتح الباب لا يزال وعيه مشوهاً، قال مشدوهاً :
- نرمين !
وقالت وهي تمضغ علكة :
- بحثت عنك كثيراً !
وكانت الفتاة من بقايا مغامرات مراهقته في المدينة وزمان صعلكته فيها، وكان لبائعات الهوى وجود في غرب المدينة من منية البصل، إلى العجمي وأبو تلات، وقد تعرف إلى نرمين في الأخيرة (أبو تلات) فنبت في نفسه نحوها شعور أعمق مما ينبت عادة في نفس الرجل إزاء امرأة "تعيض ببضعها"، وقال بينما يشيح وجهه عنها :
- لقد انقلبت طباعي كثيراً، صرت مستشيخاً، ولا مكان لهفوات الماضي!
قالت وهي تبعد جدائل شعرها عن عينيها :
- لم أجئ لأجل ما يدور في خاطرك !
وتفحصها ملياً ثم أذن لها بالدخول، قالت :
- لقد دلتني عليك صبية اسمها أميرة ! قالت بأنك عملت في حانوت أبيها زمناً قبل أن تفترقا..
وقال يتذكر زواجه بحسنية ثم معاملة هدى السيئة له :
- لا أريد أن أعرف شيئاً يخص عبد الغني أو زوجه وحتى ابنته !
وقالت نرمين في غير تجاوب مع تحذيره :
- أريكة خشبية هائلة التكوين هوت اليوم من رافعة فأصابت الأب (تريد عبد الغني..) إصابة أعجزته عن العمل، كان كل شيء يمضي على خير منوال، وبغتة، بووم ! لقد اضطرت أميرة على حداثتها وأمها إلى العمل في الحانوتين بعد الواقعة ! ألم تسمع بما وقع؟!
وقال وهو يخفض رأسه كأنما يغالب عاطفة قوية :
- إلهي ! أنت تثيرين عاطفتي مجدداً.
وصحبته نرمين إلى المكان الذي نسي الطريق إليه، لم يشأ أن يكشف عن نفسه ولا أن تراه هدى أو ابنتها أميرة فلعلهما ينطقان أو تنطق هدى على الأقل :"ها قد جاء الشامت بنا.."، ووقف على مبعدة من الأم وبنتها، كانت أميرة تقف في الحانوت الأصغر تلبي حاجة الزبائن في صورة أشبه بالرجولية - تزري بصورتها الملائكية المعتادة - من هاته التي يفرضها العمل الصعب على المشتغل به، على حين وقفت هدى في هذا الحانوت الأكبر، من العصيّ أن يطمئن المرء إلى مشهد امرأتين ينهضان ببيع الأثاث وحدهما في حينّا، على أن شيئاً لا يزال من أصول الحارة كان باقياً يضفي الاستنئاس ويسبغ الأمان،.. وولاهما ظهره قالت له نرمين :
- من العار أن تتركهما في هذا الحال ! (ثم وهي تطلع إلى أميرة تتحدث إلى زبون فيعلو صوته ويذهب إلى التعبير بلغة جسد مجاوزة..) انظر كيف يتبجح ذاك الزبون مستغلاً حالة أورثها غياب الرجل.. لقد اندثرت الأخلاق في المجتمع !
وراعاه أن تتحدث بائعة هوى عن الأخلاق فالتفت إليها في ابتسامة خافتة، قال :
- إن مجتمعاً مهما كان لن يعدم من أخلاق، يحتاج أفراد المجتمعات إلى الأخلاق يتبادلون بها الثقافة وينهضون بالتجارة،.. قرأت في مبحث الأخلاق حين التبس عليَّ كل شيء في الأيام الفائتة، إن لدى اليهود الوصايا العشر، ولدينا نحن المسلمين القرآن، حتى البوذيين لديهم المبادئ الخمسة (بالسنسكريتية) : من الامتناع عن قتل الأحياء والسرقة والفاحشة الجنسية والكذب وحتى السُّكر، إن المنطق صورة الطبيعة في العقل، وأما الأخلاق فخضوع العقل للطبيعة.. ومن وراء الأخلاق ثمة القانون، لن تُترك المرأتان نهباً للمجهول، نعيش زمناً اشتراكياً لا جور فيه على الأضعف..
- هل علمك التصوف التخاذل وأورثك الدروشة؟ فلتعد إلى المرأة وبنتها تعينهما على بلاء نزل بهما، إن هذا أولى من الصلاة والسجود والركوع !
اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات قصص
- تحتاجين إلى أن تطهري نفسك من آثام الأمس واليوم كيما تفهمين الدين فهماً سليماً !
ووقفت نرمين تصلي في الجزء الخاص بالنساء بالمسجد الكبير بعد أن توضأت، كانت المرأة تجهل الحركات وتتمتم بغير علم تمتمة أورثت مراداً ضحكاً جهد أن يمنعه في خضم انخراطه في الصلاة، وقالت حين انتهيا من أداء الفرض يجلسان في رحاب المسجد الكبير :
- ولماذا ترفض أن تعود؟
- هدى امرأة سامة الطباع، إنها تكن لي العداوة بغير سبب ولا تبوء بوزر، لعل إصابة زوجها تكون درس تتورع بعده عن صلفها وغرورها!
- يالسخرية ! أهكذا تختزل الأمور والحوادث؟ وماذا عن أميرة؟
وأزعجه حديثها بعض إزعاج، قال :
- ما من سبب إلى سخرية فوق أن تجتمع فتاة مثلك مع شيخ في مسجد!
وقالت وهي تحرك بساط المسجد بإصبعها فيرتد نسيجه ثم يعود يستقيم حين تتركه :
- شيخ؟! أحب مراداً القديم أكثر !
وقال وهو يتطلع إلى نظرات المصلين إليها في ريبة :
- سيتوجب عليك أن تعتادي على مراد الجديد منذ اليوم !
وجاء مساء اليوم وخلت المرأة إليه فلم يكن في نفسه رغبة إزاءها، كأنما أورثه التدين رشداً أضاف إلى عمره عمراً، ورأى امرأة حسناء تتقلب على صفحات من الغواية فزهد عنها زهداً أسلمه إلى التفكير الحزين المطرق، وتذكر حديث قارئة الطالع فتردد صوتها الموسوم بالعجز في أذنه :"ستتزوج بابنة من تركت ديارهم!"، وكانت نرمين تعرفه - لصداقتهما القديمة - حين تأخذه سنة من التفكير أو حين يضطرب في همامة نفس،.. فقالت :
- فيم تفكر؟
وقال :
- أخبرتني قارئة كف بأنني سأتزوج بأميرة !
وبرق قلبها بلهفة فقالت :
- إن هذا سبب آخر للعودة !
- هل تصدقين العرافين؟
- أصدق في أي سبب يحملك على العودة !
وراعاه أن الفتاة تطلب منه العودة على محبة توليها له، قال :
- تحملين في فؤادك قلباً غضاً رغم مهنة وضيعة اشتغلتِ بها زمناً.
وبدا أن الأسباب تجتمع على العودة، ووقف أمام مرآة صالة البيت يحلق ذقنه وشاربه، وقالت له نرمين حين انتهى :
- هكذا تبدو في صورة أفضل!
وكان يغمغم :"أفضل.. في رؤية شيطانة !"، وفي صبيحة الغد عزم على أن يعود إلى حانوت عبد الغني وابتسم لهدى متذكراً قول الشافعي :
وأظهرُ البشر للإنسان أبغضه.. كأنما قد حَشى قلبي محباتِ
الناسُ داءٌ ودواءُ الناس قُرْبُهم.. وفي اعتزالهمُ قطعُ الموداتِ
فاستقبلته المرأة (هدى) تقول كأنما لم تخيب ظنه :
- أجئتنا شامتاً؟!
وخفض رأسه بينما طفقت أميرة تحث أمها على التماس أسباب الكياسة، وقالت تداري بقولها خطأ الأم :
- إنها خطوة عزيزة..
وأورث حضور الشاب شيئاً من المهابة المفقودة منذ غياب عبد الغني في نفوس الزبائن والتجار، قال مراد وقد أمسك بطرف من حديث أميرة وأغفل ما سواه في حماسة :
- يجب أن يعود الحانوتان إلى سابق عهدهما !
وقالت هدى :
- ليس قبل أن يتعافى عبد الغني أولاً !
وكانت المخاوف حول عودة عبد الغني إلى حالته الصحيحة لاتزال قائمة، وألح مراد على أن يزور سيده في فراش المرض قبل أن يستأنف عمله بالحانوتين، وكان قد تخلى عن أجره حالما يعود الماء إلى مجراه،.. كان عبد الغني يتابع خطاب عبد الناصر في مجلس الأمة في يوم وافق الخامس من شباط حول موضوع الوحدة مع سوريا عبر وسيط الراديو، وتساءل مراد وهو يخطو خطوة أو اثنتين إلى حجرة النوم :
- وكيف حال معلمنا الأول؟
وسر عبد الغني لحضور مراد ولكن حزناً أعمق ابتلع السعادة العابرة، قال :
- يفترض بي أن أكون سعيداً، لأسباب قومية ووطنية، ولكن آفة المرض أنه يفرغ الأشياء من معناها ! لقد باتت تخذلني رجلاي لأهون سبب، إن الطبيب يقول بأن حالتي ستستغرق زمناً طويلاً قبل أن تبرأ وتشفى!
وقال مراد يحاول أن يرفع من معنويات محدثه :
- أبصرت أميرة من النهوض بالتجارة في تفانٍ، شأنها شأن الرجال أو قل بمئة منهم، يقولون بأن من أنجب لم يمت !
- ستتزوج بها يوماً حين تكبر !
قالها كمن يلفظ العبارة مع الألم، وتولى مراد الذهول وعاد يساوره خيال العرافة وصوتها الشائخ، على حين تابع عبد الغني :
- كنت أعد للأمر دائماً واستشرف يوم حدوثه، رأيت فيك صبياً دمثاً ولائقاً، ثم شاباً مسؤولاً، ولأجل هذا مقتتك هدى، وقد دفعت بحسنية إلى طريقك حين يأست من أن تبدل قناعتي هذه، كانت هدى تزدري كونك بغير أصل أو جذر، واليوم أمست المرأة بغير سند إلاك. كانت هدى ترى في جمال ابنتها سبباً لأن تتزوج بمن هو خير منك، أرادت أن يرفعها بهاء أميرة إلى مستوى الثراء.. انظر كيف انقلب كل شيء ! أرادت (هدى) لها زوجاً من البشوات أو البكوات قبل يوليو، ثم شاءت أن يكون ضابطاً مرموقاً بعدها، وقد أحصت الأيام حالما تصل الفتاة إلى عمر تصلح معه لتكوين الأسرة، هكذا استشرفت نذر المستقبل قبل الأوان، وأغرتني الأماني،.. ستمضي الأعوام تباعاً وستتحقق الزيجة التي أردتها، ولكن أتمنى أن أحضر اليوم المنتظر في صحة تليق به !
وقبل مراد رأس عبد الغني الذي ابتسم فيما علا صوت الراديو :
"أيها المواطنون أعضاء مجلس الأمة،
إن هذا الجيل من شعب مصر، من تلك الأجيال التي واعدها القدر، لتعيش لحظات الانتقال العظيمة التي تشبه مهرجان الشروق.
لقد عشنا ساعة الفجر ورأينا انتصار النور الطالع، على ظلمات الليل الطويل.
لقد عشنا وشاهدنا فجر الاستقلال.
لقد عشنا وشاهدنا فجر الحرية.
وعشنا ورأينا فجر العزة والكرامة.
وعشنا ورأينا فجر القوة.
وعشنا ورأينا الأمل في بناء مجتمع سعيد.