الفصل الرابع والعشرون: الاتحاد الاشتراكي ومنافذ الحرية
كانت تسنيم تجهز لنوح إفطار الصبيحة فتضع في "القسط" (إناء من الفخار) الفول والماء والملح، وتدخله فرناً بلدياً بعد انتهاء الخبيز فإذا هو يخرج فولاً مدمساً شهياً، واقتربت من زوجها نوح وكان لم يزل في وجوم الفراق، محزوناً على بهاء الدين تقول في صوت خفيض :
- لقد نضج الطعام على الرماد الساخن..
ولم تجد منه تجاوباً خليق بجهدها الصباحي، وكانت تجس مزاجه كيما تقتنص الفرصة تصارحه فيها بأمر مهم أرجأته طويلاً، وقالت :
- سأجهز في الغداء "الصخينة" (فطير بقطع لحم) أيضاً، أعرف أنها مما يثير شهيتهك.
وكانت تغمغم وهي تلحظ إعراضه عن الحياة :"سأتحدث إليه حين يجيء العصر، وحينذاك يتقبل ويطرب، أجل.. هكذا هو الإنسان، ابن أديار متقلبات، وأمزجة متعاقبة كالفصول،.."، ووعى نوح - من طول عشرته بها - أن المرأة تزيد تخلص في عملها المنزلي كي تهيأ المناخ لمصارحته بما قد يزعجه، وأشار بيديه :"هاتِ ما عندك.."، وقالت في لهفة كانت قد دأبت على كتمانها طويلاً :
- الوصية ! لقد كتب بهاء الدين الوصية الأخيرة، كتبها بعد وصية الكأس، لقد جعلها لكَ وحدك دون أبنائه، وجدها من غسَّلوه في جيب بنطاله الأيمن.
وجفل نوح ثم تلقف منها ورقة الوصية وكان قد بدأها بهاء الدين بتوطئة :
- "عزيزي نوح،.. لقد حاز يوسف ثروة الضابط الإنجليزي، فيما هبطت إلى صابرين ملكية الجناح الفندقي، وأما هدى فقد رزقت زوجاً صالحاً معافاً بعد علة وحانوتين،.. وإذا أنت رابعهم عندي فلا تكون دونهم مثابة ولا أقلهم صورة،.. وقد أرتأيت أن أيما قسمة لا تهبك الفدادين الخمسة، وتضعك في مستوى البقية تجافي محبتي لك..".
وكاد نوح يمزق الورقة في غضب غريب غير متوقع لولا أن تسنيم اشتبكت تريد أن تبعد الوصية من بين يديه، وجعلت تردد :
- هل جننت؟! (ثم وهي تخلص الوصية من بين يديه..) لقد قام الرجل بما كان يجب أن يقوم به..
وأشار نوح بيديه إلى المعنى الآتي :" أن وصية مثل هذه ستثير بينه وبين الأبناء الثلاثة ما لا يحصى من الخلافات، وأن مالاً يحوزه في أعقاب صراع هو لعنة ونقمة، وأن زهداً نزل به بعد وفاة الشيخ جعله أقرب إلى نبذ المتاع الزائل، ثم الإعراض عن الزينة والزخرفة.."، وأنكرت تسنيم عليه قوله إنكاراً عظيماً، قالت بعد أن نادت على ابنيها :
- فإذا لم يكن لأجلكِ، فلأجل هذين (تريد بدور وبكر)،.. من أراد أن يعيش زاهداً ناسكاً، فليزم نفسه طريقته في المعاش ولا يفرض قناعته على غيره.
وأشار نوح إلى حقيقة أن إخلاصاً يكنه للشيخ يمنعه من خلق الصراعات بعد وفاته، ثم إلى العدل الذي يقتضي شيئاً من التوزيع المنصف بين أصحاب الحقوق، حتى إذا انتهى من سرد أسبابه سمع من يجهر بالقول :
- أفسحوا المجال، أوسعوا السبيل، لقد عاد العمدة غانم أفندي..
وهرع نوح إلى حيث النافذة والستائر المذهبة فألفى الرجل وقد خرج من محبسه يتبختر في حقول الريف، يمضي في الأرض مرحاً، مصحوباً بالمشيعين، وأدمى المشهد قلبه لما فيه من غياب العدالة واستهانة بها، وكان يناجي نفسه فيقول :
- الشرفاء في القبور، والمحتالون يتبخترون..
ومضى موكب غانم حتى اقترب من بيت الرجل الذي يراقبه، وطرق الباب فأشار نوح إلى زوجه ألا تفتح، غير أن المرأة لم تلقِ بالاً لمطلبه وفتحت مدفوعة بالعناد واللامبالاة، وكان غانم يقول لها :
- سلام عليكم..
وكادت تسنيم تسارع إلى رد التحية بمثلها، لولا أن نوحاً تطوع بإشارته :"لا سلام على الأشرار.."، وقال غانم وقد أوحت له إشارة نوح التي لم يفهمها بتحفظ الرجل على وجوده :
- أريد أن أفتح صفحة جديدة، كلنا أبناء الريف بعد أن غاب عنا غراب الخراب (يريد بهاء الدين) ولو تصارعنا يوماً..
وأوصد نوح الباب في شدة في وجه محدثه، وقالت تسنيم لزوجها حين خلا المشهد إلا منهما :
- لماذ لا نجربه؟ لقد عاد عمدة للريف، لن ندفن رؤوسنا في الرمال كالنعام أمام هاته الحقيقة.
وأشار نوح : "الحكيم لا يجرب صداقة مع الأفاعي، ولا ينتظر من أعتى السباع خيراً، إنه جذع الشجرة الفاسدة، أنى له أن يرتد إلى صديق؟"، كانت تسنيم تزن الأمور بميزان المصلحة البحتة فيما ألزم نوح نفسه ميزان النزاهة والاستقامة، وصدق حدس الرجل فقد بدأ غانم عهده الثاني بخيانة الوعد، أشاع الرجل الخوف في النفوس، وأطلق العنان للعيون، كثر كتاب التقارير، فأمسى يشي الفلاح بجاره مختلقاً الأقاصيص يطلب النفوذ والرضا، واستحكمت قبضة الاتحاد الاشتراكي حتى قُضي على منافذ الحرية، ويوماً كانت تسنيم منشغلة في الخبيز النهاري حين أتتها جاراتها تقول بينما تضع لها قسطاً في قعر الفرن :
- لماذا يصمت نوح على فظائع غانم؟ كان ينبغي أن تؤول إليه العمودية.. إن غانماً لا يفوت فرصة إلا ونصر فيها كبار الملاك على صغارهم،..
وساد الصمت في المناخ الحار، حتى قالت تسنيم :
- ويحك ! لا تذكري هذا أمامه،.. إني لا أحب أن أحرضه على ما فيه خطورة، الرئاسة مسؤولية صعبة، لقد بدا زاهداً حتى أنه غير حريص على إثبات حقه في ميراث فدادين خمسة.
وقالت الجارة في إصرار :
- إنه إذا عارض هذا الإجحاف الذي نشعر به وجد ألف يد تؤيده.
- ...
وخرج الفول "الملذوذ" من الفرن على حين كان نوح قريباً من حديث المرأتين، لقد رفعت عبارة الجارة الإنشائية الأخيرة عن نفسه غشاء الزهد فانقلب شغوفاً طامحاً، واستعد ليوم يصعد فيه ربوة الريف يجمع حوله المتضرريين على كلمة سواء، كانت تسنيم تقول له :
- إن غانم لم يمس حصتنا ولا ملكيتنا بسوء، ولم يتعرض لنا بضرر، من الفدادين الخمسة، مررواً بسلامتنا إلى هذا البيت الكبير، إنه يخطب ودنا في كل مناسبة على حين تصعر له خدك،.. لماذا لا نلزم السلامة؟
وذكرها بمثال الثور الأحمر والأسود، وارتقى ربوة الريف - رغماً عنها - تحت سماء صافية فحقق نجاحاً مقبولاً، وتمخضت مغامرته عن شرعية وليدة في أوساط من رآه، كان الناس، سوادهم الأكبر، لا يفهمون إشارته ولا يرونها فوق الربوة العالية ولكن قلوبهم كانت معه، وغضبت تسنيم من نوح غضباً حملها على إهمال العمل المنزلي، واعتزمت على أن ترفع راية العصيان والتمرد ثم أن تصرح بما تضمره في أعجل الفرص، ويوماً كان نوح يرفع عن الزير الماثل على ذاك الحامل الخشبي غطاءه، وشرب من وعائه فألفى ماءه دافئاً، فبثقه الرجل، ثم أشار يقول لزوجه : "بربك.. لماذا لم تعبئيه (أي الزير) في الليل؟"، وقالت :
- لن أشتغل بعد اليوم في بيت من يروم تدمير نفسه، وتدمير أبنائه، سألتجأ إلى الأهل ريثما تثوب إلى رشدك. سيفضي الأمر بالزاهد إلى الإخفاق الشامل بين آلاف الطالبين، ثمة أمر آخر : لماذا نتطوع نيابة عن القرويين إذا نحن من النعمة في سعة؟ لماذا نرأس احتجاجهم في سذاجة؟
وصحبت طفليها ومعها بعض حواجئها الضرورية، وكادت تفتح الباب، لولا أن سمعت يداً - استبقت يدها - تطرق من الخارج، وفتحت للضيف بعد ارتباك وقالت مشدوهة حين رأته :
- يوسف؟!
أُخبر يوسف بوفاة أبيه فخرّ منهاراً، وأتبع الخبر السيء بآخر مثله، فاستمع إلى الوصية محمولة على فم تسنيم التي كانت تلقها بلهجة متحدية فقال مشدوهاً، والحزن يملؤه :
- كيف يفعل أبي هذا؟ إنكم تكذبون،..
وقالت تسنيم :
- لقد رأى أباكم صورة زوجكم السافرة في باريس، عايره بعض الريفيين هنا، مات مجللاً بالأسى والخزي، وكتب الوصية متأثراً بكل هذا،..
وكاد يوسف يشتبك مع المرأة - لولا أن اعترضه نوح - يقول (يوسف):
- لا جرم أنكم كاذبون، بل قتله إهمالكم، وريفكم التعسِ، سميتموه رجل المدينة وكان أحرص الناس على حقوقكم، إنه رجل المدينة حقاً، إذ هو رجل الإسكندرية، فلم يأنس لمدينة غيرها..
واشتبك الرجل بالمرأة - رغم محاولة نوح الحيلولة بين الطرفين - فهوى الزير الصعيدي وحامله على الأرض، وانكسر - إثر ذاك - الفخار وتناثر، كان جسد يوسف الهزيل والقصير مضارعاً لجسد المرأة فلم يغلب الرجل ولا مالت كفته، التفت نوح إلى زوجه يشير بيديه :" قلت بأن الوصية لعنة ونقمة، وها هي ذي تتكشف أولى الفصول،.. ما أوطأ خصالكما ! تتقاتلان حول إرث محدود لفدادين والريف بأسره يرزح تحت نير الطغيان.. طغيان غانم ومن ورائه.. فلتكفا رحمة بالرجل المائت.."، ولم يجدِ حديثه (المنقول إشارة) فتيلاً في صد الاثنين عن الاشتباك، وقال يوسف يرفض التسليم لما هو حادث في عناد :
- كلا.. لا أريد أرضاً ولا مالاً،.. ما أهون المال والأرض في نظري ! إنني أكرهها لأنها (تسنيم) تكذب..
اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات قصص
1962م..
أمكن للضابط يوسف منصور أن يحتوي هجوم عائلة أبي جريشة في يوم الجنازة، مُنيت الأسرة المنكوبة بوفاة الفتوة بمزيد من المنايا والأرزاء،.. وكدأب الطبيعة تملأ فراغ السلطة، فقد استفرد جاسر - إثر وفاة الفتوة وخلو الساحة له - بفلاحات الورديان، ويوماً كانت هدى تقول لابنتها أميرة تملي عليها مطالب كيما تشتريها :
- أريد الفاكهة أيضاً،.. البرتقال، واليوستفندي، الجيد من الاثنين !
وهبطت الفتاة حتى بلغت مبلغ سوق الورديان، وكانت لا تزال تغمغم :"يقولون عن النساء بأنه جنس خُلق كي لا يعمل،.. فإذا كان ذلك،.. لماذا لا تطلب الأمر من فؤاد إذن؟"، وكان جاسر يعربد قرب السوق وفيه عربدته النهارية، وقالت الفلاحة المتضررة :
- فلتتقِ الله، أنت تفسد النعمة وتعبث بها، كان هذا الحرق الذي تخفيه وراء نظارتك ابتلاءً لم تفهم دواعيه.
وجمح الفتوة جموحاً عظيماً فلم يجد من يردعه، فها هو ذا يتجرأ على العبث بالبضاعة ومزيد منها، يعيث فساداً، ويطلق صراح شيطانه، ووجدت الفلاحة - معبرة عن البقيات - نفسها بلا نصير، واشتاطت أميرة لرؤية وقائع ما جرى، وتقدمت تقول بعدما لم يعد لكتمان الغيظ من موضع :
- فلتكف يا وضيع القلب والفعل..
ولطمها حتى انهارت على الأرض :
- اغربي عن وجهي..
وكان الضابط حسن أباظة عائداً من إجازته في زيه المموه، وما أن اقترب من المشهد حتى ارتد جاسر إلى صورة خائفة، واختفى ظله - وإن بقى سوء عمله - في حين مد أباظة يده لأميرة يقول :
- آسف، صغيرتي.. (ثم وهو يلتفت إلى الفلاحة الجالسة..) سأهبك ما تريدين عوضاً عن خسائرك.
وطفقت الفلاحات يرفعن أيديهن في دعاء قصدن به من أنقذهن، وكن ينادينه بـ "أبو جريشة" الجديد، فأعاد إلى خواطرهن ذكرى العدالة فأقام - دون عناء يُذكر - عمدان معبدها المهيب، قال أباظة وهو يأخذ عنهن ينصرف :
- هناك، أقيم، ما أن يحضر هذا العربيد (يريد جاسراً) لا تتورعن عن دق بابي !
عادت أميرة إلى هدى التي راعاها أن ترى وجهها المتضرج بحمرة (موضع اللطمة) :
- إلهي ! ماذا ألم به؟!
وقصت أميرة على أمها أحداث القصة المثيرة، وجعلت بعد ذاك تغسل موضع اللطمة بماء بارد وكانت تتألم لأجل هذا تألماً فيه شفاء، واقتربت هدى من ابنتها تقول :
- إن مراداً سيتزوج من نرمين !
وقالت الفتاة وكانت تشب كيما تبلغ مستوى ماء الصنبور :
- لا أصدق في هذا، لقد سمعت الأمر منذ مدة ولم يحدث شيء.. قالت العرافة بأننا سنتزوج يوماً !
وقالت هدى في انفعال :
- إنها مخرفة، كيف ينتظرك الشاب لسنوات وسنوات؟! لقد أكد لي أن العرس بات قريباً جداً..
وانصرفت عنها هدى فهرعت أميرة إلى مراد تستوضحه النبأ في الحانوت، فقال (بعد أن سألها عن سبب كدمة الوجه وأجابته بما هو معروف) :
- حملني عبد الغني رغبته في فصل نرمين عن العمل، خشيت من أن تجرها الحاجة إلى ما كانت قد اعتزلته، لقد عرضت عليها الزواج من باب الضرورة وحدها، ألفيت نفسي بين مطرقة وسندان ! أعذريني ! لم أصدق كثيراً في قول العرافة، يجب أن ننتظر - أنا وأنت - لعقد كامل،.. يبدو منالاً مستحيلاً..
وحلت منها كلماته مواضع الخناجر الناشبة في الجسد العاري، وتكشف للفتاة الصغيرة أنها كانت قد تعلقت بقشة منذ البداية، لقد جرفتها خيالات الرومانسية الزائفة بعيداً، وتلقفتها شطآن الواقع بوجهها الذي ينضح صرامة وعقلانية، وانتظرت لحظة الحقيقة التي لن تجيء،.. وفي فحمة الليل انطلقت الزفة الإسكندراني، زفة مراد إلى نرمين، من أزقة كرموز إلى شوارع الثغر المتاخمة للكورنيش، ووضعت سجادة من النشارة الملونة أمام البيت كان قد اشترك شباب الحي في تشكيلها، فما أن اجتازها مراد ونرمين حتى نشط إيقاع الطبلة والطار، وتغنت النفوس بالعريس وبالحي، ووقفت أميرة تتابع بداية المراسم بقلب ملؤه الوجوم، وقالت الأم لأميرة لها وكانت على النقيض من شعورها :
- السعادة هي ما يجب أن تشعري به،.. لقد تخلصتِ من كابوس مراد، وتزوج الشاب من تماثله من جهة المكانة والحسب، تدخر المقادير الأنسب للمرء في جعبتها على الدوام !
ولم تجد جواب الرضاء والقناعة الذي انتظرته من أميرة، فقالت :
- حدثتني اليوم عن معروف أسداه إليكِ ضابط في سوق الورديان،.. شاب هو أم شيخ؟ (وارتبكت فتابعت في نبرة رصينة تتقي الزلل..) الواجب يقتضينا أن نرد له معروفه، وأن نزوره فنحمد له صنيعه ! هل تعرفين أين يقطن؟
وقالت أميرة :
- لا طاقة لي الساعة بزيارة أحد ! لقد لاقى جزاءه دعاءً وشكوراً من الفلاحات هناك.
ولكن الأم ألحت على البنت باصطحابها إلى بيت الضابط إلحاحاً بدا أن وراءه ما هو أعمق من رد المعروف، وامتثلت أميرة للأمر بعد مقاومة، قالت الفتاة حين وصلا إلى السوق :
- لقد أشار أنه يقطن،.. ها هناك !
وابتعدت الفتاة عن الأم كأنما انتظرت فرصة أن تتم إرشادها إلى المكان لتختفي، فسألتها هدى في انفعال غاضب :
- إلى أين؟!
- سأعود إليكِ، بعد نحو ساعة، سنلتقي أنا وأنت في بيت الضابط!
وعادت أميرة إلى الزفة ترقب وترى، وأبصرت من يرقص بالشال والسكين رافلاً في صديري وسروال، وسمعت من يقول عن الراقص منفعلاً فيما يشبه الغوغائية :
- السيد "حلال عليه" قد شعشع اليوم شعشعة سيحفظها كتاب الرقص بين دفتيه ! لقد أدى رقصة السيجار (هنا يضع السيجار معكوساً فى فمه حتى تنتهى، ثم يخرج المنديل فجأة من فمه مصحوباً بعاصفة من الدخان)، ورقصة الستة كراسي (وهنا يضع الرجل الكراسي فوق بعضها ويرفعها بأسنانه فيما يشرع يتراقص بتكوينه غير المتوازن!)
كان مراد محمولاً على كتفي رجل لم تميز هويته، مسروراً كل سرور، فيما بدا خمسة من الأطفال الرافلين في بذلات صغيرة يصفقون، وقد حدست لقربهم من نرمين بقرب صلاتهم إليها، وطالت بها المراقبة فاحترقت جزعاً وألماً كشمعة تقطر من تكوينها حبات منصهرة،.. كانت هدى وفي الوقت عينه قد دلفت بيت الضابط - في يدها بقسماط وعلبة حلوى - تقول:
- لقد أنقذتَ ابنتي الليلة.. (ثم وهي تلتفت إليه) سيماؤهم على وجوههم، حسن الخلق يرفع أصحابه إلى مواضع الذرى والقمم.
وقال أباظة يتلقف منها الهديتين وكان قد استغرق منه الأمر مدة كيما يستوعب حضور الأم :
- لم أقم بغير الواجب، في الحق لم أفعل شيئاً، لقد فر الشقي بمجرد محضري ! أولئك المجرمون جبناء إلى حدود تثير الضحك.
وجلست هدى تقول قولاً تقريرياً تقصد به خطب الود :
- لابد أنكم تشقون شقاءً عظيماً في أشغالكم المتعذرة، كان الله في عونكم!
وقال أباظة ينوء بثقل ما :
- أجل، حرب اليمن ضارية، وجبالها وعرة، إننا نقف مع الجمهورية، وندعم ثورة 26 سبتمبر في مواجهة من يؤيدون المملكة المتوكلية اليمنية! مثلما دعمنا وندعم تحرر إفريقيا، نروم التخلص من الإمام أحمد بن يحيى حميد الدين، أو الطاغية، كما يطلقون عليه، والمشكل أن السعودية في الشمال، والإنجليز في عدن بالجنوب يقفون ضد تطلعنا هذا.
وقالت هدى :
- لا جرم أنكم تقفون مع الحق وأصحابه،... هل حقاً تعج الجبال اليمنية بالأحجار الكريمة، كما نسمع؟
وأجاب بما حاز استحسانها :
- معذرة، لم أرَ في جبال اليمن إلا الواجب والحرب، ولم أعد إلى هنا إلا لتكليف آخر أوكل إليَّ في الحدود الشرقية، سأرحل عن الإسكندرية غداً.
وساد صمت علت فيه دقات عقارب الساعة المصمتة إلا من العقارب، تساءل أباظة :
- وأين الفتاة الصغيرة؟! كنت أود لو أطمئن إلى تعافيها.
وتطلعت هدى إلى ساعة البيت يؤشر عقربها الأقصر إلى التاسعة، وقالت في غضب :
- كان ينبغي لها أن تحضر الآن !
وقال أباظة :
- الغائب حجته معه، (ثم وحين يلحظ توتر المرأة..) صبراً، صبراً، تعلمت في بيئة الجيش الخشنة حقيقة أن الصبر في الأمور بمنزلة الرأس من الجسد، لعل ملازمة البيت أنسب لشفائها.
وقالت هدى على غير قناعة :
- ربما..
وانتهى اللقاء ولم تشأ المرأة أن تفارق الابتسامة وجهها حتى حين نهوضها، كان باب الشقة لم يزل مفتوحاً، وجعلت هدى تغمغم في حين تخرج منه : "ياله من شاب دمث،.. يزن من عينة مراد مائة !".