مفاجأة على أضواء الألعاب النارية

        الفصل الثالث والعشرون: مفاجأة على أضواء الألعاب النارية







 


1961م..

جهز عز لمريم لقاءها الثاني بشاب حي لوران لقاء قطعة حلوى وبضع قروش، وقد دلها (عز) على فيلته في موعد تحدد مسبقاً وتلون فيه الأفق بحمرة الغسق، ثم توارى بغير ظهور، والحق أنه وقف يسترق السمع والرؤية، كان قلب الفتاة يهفو خوفاً ووجلاً إذ لا تزال تذكر العربي ونهايته، وقد اختمرت بذاتها قناعة بملازمة سوء الحظ لها في شأن الحب، ولاح الشاب فهبط درجاً في خطى سريعة كاد يتعثر معها لولا أن استرد توازنه، ومضى مهرولاً وفي ابتسام حتى بلغ مبلغها تسبقه رائحة عطره الذي كان أشبه إلى عطر الليلج النفاذ، ثم جعلت تسأله عن اسمه فيجيب :

- نعيم،.. إن اسمي نعيم !

وقالت في شدة لا تناسب موعداً :

- أعذرني، ثمة شيء في صدره ودون أن أستوضحه لا يستقيم الأمر، رأيتك حين خروجك من فيكتوريا تبتسم و..

وقاطعها يقول :

- كانت هذه أختي.. ألم تلحظي الشبه؟!

وخجلت من عدوانية السؤال وإن انتشت لسماع الأمر، قالت تداري ارتباكها بين الخجل والنشوة :

- يخبرني أخي الأصغر بأن كلية فيكتوريا هي إيتون الشرق، لاريب أنك تقضي وقتاً سعيداً هناك !

وقال في انفعال :

- آه ! كان يجب أن تدرسي هناك كيما تعي أنها محض مبالغة، فمؤسسات التعليم هي هي، والمشكل الجوهري هو الفارق بين أن تتعلم to learn وبين أن تدرس to study،.. فالأولى تكون عن طيب نفس يدفعك فيها الفضول والشغف إلى تجشم العناء، عناء التعلم، في رضا، والثانية تُدفع لأجلها دفعاً لأجل اختبار توفق فيه أو لا توفق،.. (وعاد إلى المقارنة يقول في تواضع..) يقولون إن سبعة عشر أو نحو ذاك من رؤساء وزراء إنجلترا قد تخرجوا في كلية إيتون، ينتهي سلسالهم بالسيد Harold Macmillan رئيس وزراء بريطانيا الحالي،.. وعلى ما تقدم فالكفة تميل إلى جانب المدرسة البريطانية الداخلية، إذ لم يشتهر عنا تخريج هذا العدد الضخم من رؤساء الوزارات ! إنني أرثي للتعليم الحكومي في بلادنا، إن جزءًا غير يسير، أو هو الأكبر، من الزمن خلال الفترة الأشد تأثيراً في حياة المرء باتت تقضى في مؤسسات تمولها الدولة وتشرف عليها، لم يكن هدفها الأساس من البداية هو تنشئة جيل مستنير، بل تدريب «جنود جيدين» و«موظفين مدنيين جيدين»، إنه إن خوصص وصار لامركزياً ارتقى وتحسن، وأنت.. أين تقيمين؟

وقالت في شيء من مباهاة، تريد أن تزن الكفة الاجتماعية :

- في جناح بفندق يطل على البحر !

واستدارا عن السبيل الرئيس الذي كان يسيران فيه إلى هذا الشارع الفرعي، فاستدارت بعده، سألها :

- هل بمقدوري أن أزوركم؟

وتعثرت قدم عز الذي كان يتبع حركتهما متخفياً، وتبدى لمريم الأمر فرمقته بنظرة معاتبة مغتاظة، ولمح نعيم وجهها لمحة تسببت في تعجبه، فسألها :

- ما بكِ؟

وأجابت مضطربة بأن لا شيء، عادت الفتاة إلى ديارها وقد ظفرت بوعد بزيارة في مساء يوم الخميس، وطفقت - لأجل ذاك - ترتب حجرتها وحجرة الاستقبال في همة غير معهودة،.. كان عز قد وشى للأم بما وقع ولأجل ذاك لم يكن بنفسها (صابرين) غرابة إزاء هذا المسلك الجديد، ولم يقع منها موقع التساؤل أو العجب، وقالت :

- ومن يكون هذا كي نستقبله في ديارنا؟

وقالت مريم :

- إنه صديق من لوران..

وتذكرت الأم منافستها سوسن، هذه المنتمية إلى المكان نفسه (في السابق قبل أن تتركه إلى العجمي) :

- آه.. إني أكره هذا الحي، وكل ما ينتسب إليه !

وتساءلت مريم على حين يطفح وجهها بالغضب والشعور بالإجحاف :

- تريدين أن تفسدي حباً لأجل تطير ؟!

وتطلعت صابرين إليها في استنكار كأنما فهمت أمراً :

- إنه حب إذن لا صداقة.. هل تحققت من خلقه؟

- يبدو خير منا مستوى وثروة.

- ..أعني صفاته؟

- يحاول أن يبدو متواضعاً رغم أسباب التفوق التي تحيط به.

- أهذا يكفي كي تأمني جانبه ؟!

- لقنتني يوماً أن التواضع سيد الفضائل.

وساد صمت، قالت صابرين :

- في أي يوم يريد الحضور؟

- الخميس !

- إن هذا محال، لقد وعدني هشام بأن يخرج بكما (تريد عز ومريم) للتنزه في هذا اليوم ! لقد حدست بأن شغفه العائلي (هشام) في تصاعد بالأسابيع الأخيرة، من غير اللائق أن ترفضي دعوته وإلا عدنا إلى نقطة الصفر، إنك ابنته وكبرى أولاده، وأنساً عائلياً لا يتحقق إلا في حضورك.. انظري إلى ذاك الحوض، لقد جاء لكما به !

وكان حوضاً للأسماك الملونة متحف المنظر كبيراً في تكوينه قياساً إلى حجرة فندقية، وشخصت إليه مريم في كدر،.. وجاء يوم الخميس، كان هشام يقف أمام منصف الدمرداش يطلب إليه أن يموله بقرض جديد، وكان الأخير قد لجأ إلى الاستدانة منه في أحوال تضيق فيها عليه حلقة التجارة، وأجاب منصف فيبعد عن فمه غليوناً عاجياً :

- ألم تدرك بعد حجم الكارثة التي نزلت فوق رأسي؟! أملك بعض الأموال في البنوك السويسرية، أجل، إن هذه حقيقة تحايلت بها على حماقة إدارة الأمور هنا، ولكن بحراً عظيماً يكون له حدود.. هل تعرف لمَ صرت أدخن الغليون على حبي للسيجار؟ يقولون بأنه يرشح الدخان من النيكوتين والمواد القطرانية،.. ولكنها (أي المواد القطرانية) تطاردني في كل مكان، لا في صورة الدخان وحده !

وقال هشام في إلحاح، وكان يعرف أنه المقصود بالتعبير الأخير :

- فليكن قرضاً أخيراً.. لقد كسدت أسواق التجارة في البلاد بسبب ما فرضته الاشتراكية الوطنية من عزلة اقتصادية، وما خلقه التأميم من ذعر في نفوس المستثمرين.

وتمهل منصف بعد ثورة، قال :

- سأهبك ما تريد، ولكن فلتفصح لي عما تنتوي القيام به حقاً بشأن سوسن، من العبث أن تبقي مصيرها معلقاً.. لقد تركت المرأة نهباً للهواجس والمظان بعد عهد كنت تخطب فيه ودها.

وهنا ملأ منصف رئتيه بالدخان، أبعد عن فمه الغليون، يقول :

- وكيما أكون واضحاً فلا قروض قبل أن تقع الزيجة !

وقال الآخر في لهفة :

- ولكن.. إن حاجتي إلى القرض ملحة عاجلة !

وقال منصف، وكان الدخان يتسرب من فمه :

- فليكن زواجك بسوسن عاجلاً كحاجتك !

ومكث هشام لمدة حائراً، واعتزم - لأجل ذاك - على ألا يحضر يوم التنزه الأسبوعي في بيت صابرين.. كانت مريم تطعم أسماك الزينة بالأطعمة الجاهزة التي كانت تتوفر على خليط من الحبار ولحم السمك وديدان الأرض والفيتامينات والعشب، تطعمها بكل أولئك - في يأس حين سمعت صابرين تقول لها والمغيب يترك بحمرته صفحة يملأها السواد تدريجياً :

- يبدو أن هشاماً لن يحضر !

وقالت مريم تظهر الأسف وتضمر السرور :

- لعل شواغلاً لا علم له بها قد طرأت على عمله المتقلب..

وانصرفت صابرين إلى شغلها تترجم بعض الأوراق الإيطالية قانعة بعدم حضور الرجل، فيما كانت مريم وبعد أن خلت من رقيب تتقلب على صفحات الابتهاج، في مساء هذا اليوم حضر نعيم في الجناح الفندقي وقد هيأ غياب الأب للموعد فرصة التتمة والاكتمال، وفتحت مريم في صورة متزينة حسناء ثم انسحبت إلى جوار حوض الأسماك، ودلف نعيم إلى حجرة الاستقبال فهرع إلى حيث تقف مريم (إلى جوار الحوض)، وقد خالت الفتاة أن الشاب يهرع نحوها لولا أن وقف أمام الحوض يقول بينما يؤشر بإصبعه من وراء الزجاج إلى الأسماك القابعة بالداخل :

- السمكة الذهبية، الغوبي، السوردتيل،.. كان في بيتنا واحد قبل أن يتحطم وتقع المآساة،.. مآساة الطفولة !

وجذبت جلبة نعيم وانفعاله صابرين التي تركت عملها فألفيت ابنتها والشاب يطعمان الأسماك، وهوت من يدها ورقة من أوراق الترجمة بينما هي في انشغال المشاهدة، كان نعيم يقول :

- بيئة الأسماك هنا محصورة على خلاف بيئة النهر أو البحر حيث تتولى السمكة إطعام نفسها بنفسها،.. السوردتيل، سهلة التفقيس، وتنمو بسرعة، الغوبي تتوافق مع غيرها من الأسماك كالجار المتسامح (تضحك مريم من تضخم ذيلها)، أما السمكة الذهبية فمن الشبوطيات التي تتحمل شحة الأكسجين !

واطمأنت الأم بعض اطمئنان للشاب الذي حياها بدوره خافضاً رأسه، أشبه بالتحية اليابانية المهذبة..، واشتكت علو الصوت الذي لا تستطيع معه تدبر أمر النقل من اللغة الهندوأوروبية إلى الفصحى، وقال نعيم في مبادرة :

- لا مشكل،.. سأصحب مريم إلى لوران من هنا، وأظهرها على السبل هناك فلا تعود تتوه مرة أخرى..

وكانت صابرين تغمغم وفي يدها أوراق تنتظر الترجمة :"أفعلا هذا بعيداً من هنا.."، وودعت الأم ابنتها تدعوها إلى أن تلتمس السلامة بينما تهبط لتلتقط هذه الورقة، كانت المقاهي في الأسبلة تنقل حفل أم كلثوم على مسرح الأزبكية بالقاهرة، وحين بلغ الشابان لوران كان صوت المغنية العاطفي لم يخفت، وقالت مريم :

- أم كلثوم في كل مكان..

وقال :

- أجل، النبلاء يرون فيها شموخاً، والفقراء يستأنسون بهذه السمة العاطفية الجياشة في صوتها.

- وأنت،.. هل تحبها؟

وأجابها بعد أن يضغط بأعلى شفته العلوية على أسفل شفته السفلى، فتختفي الشفتان :

- ليس كثيراً،.. يصيبني الصوت القوي بصداع هنا.. (يشير إلى موضع جبهته)

وأظهرها الشاب على شارع شعراوي باشا فتمشيا على امتداده مسافة نصف كيلو (من الكورنيش وحتى شارع أبو قير)، وقال :

- هذا مفتاح الحي بأسره، وعموده الفقري (يدعوه الشارع الدوغري)..

وكانت مريم تقول :

- لن أتوه بعد اليوم، أبداً..

وطال بهما السعي فبلغا محطة ترام لوران، واستمر المسير فكان نعيم يشير إلى مواضع فيلل مبنية على الطراز الأوربي قد تهدمت ويتذكرها كالباكي على أطلال في أسى، وسمعا جلبة عرس، قالت مريم :

- فلنقف لنشاهد هذا، إن من دأبي متابعة أفراح المجهولين..

ولبى الشاب نداء شغفها الغريب في تجاوب المجرب، وخفض لها جناحاً يخفضه المحب لمن أحب، وأُطلقت الألعاب النارية التي تشعبت في السماء كهيئة شجون الشجر، والشمعة الرومانية، وذيل الحصان، وشجر النخيل.. إلخ، سد نعيم أذنيه بسبابتيه، وبرقت انعاكاسات الضوء في العيون، وحل التفاؤل في النفوس، وذكرت مريم شيئاً عن اعتقاد الصينين في علاقة الألعاب النارية بطرد الأرواح الشريرة على عهد استخدامها الأول بالقرن السابع الميلادي، بعد أن استدار فمها مرددة في عجب wow!.. وتدانيا إلى موقع العروسين بعد أن أشار عليها نعيم بأن يقبض يدها - كخيط اتصال باقٍ - كيلا يضلان عن بعضهما وسط تيار المدعوين الجارف،.. إلهي ! ماذا ترى؟ وجللت مريم مباغتة عظيمة حين رأت أباها يرقص رفقة سوسن التي كانت تتصابى - فلم تكد تصدق الفتاة ما قد رأت، واقتربت دون نعيم - الذي فقدت اتصالها إليه - من موقع العروسين المحاطين بجمهرة من الضيوف والأطفال حاملي الشموع، أكثر وأكثر، وسمعت الأب يقول لعروسه :

- لقد جعلته (العرس) في لوران كيلا تشعرين بأي فقدان بعد حياة العجمي..

وكانت سوسن تقول شيئاً عن أن حياة تعيشها في العجمي أو لوران هما سواء إذا كانت مع من تحب - تقول هذا متأثرة ببيئة العرس الحالمة، كانت الفتاة (مريم) أكثر شيء قرباً من أبيها، وكان الأب - في الحق - أكثر شيء بعداً منها وانشغالاً عنها، كأنهما عالمان منفصلان متجاوران.. والتفتت مريم عنه بعد أن تيقنت من وقوع الأمر وتحققت من صورته، وجعلت تعدو وتعدو بعيداً، لحق بها نعيم فقال وهو يزفر ويشهق :

- إلهي ! لم أفهم ماذا حدث لكِ؟!

وقالت وفي حلقها غصة :

- لا شيء !

وتمالكت نفسها حتى انتهت رفقة الشاب إلى فيلته، فقال وهو يلحظ شرودها :

- لابد أن نلتقي مجدداً..

وأومأت الأخرى برأسها تبتسم وهي المكلومة الحزينة، ثم انصرفت عائدة إلى حيث أتت فيما كانت تسمع أم كلثوم تغني غناءً ينتشر بالسبل كقارورة الطيب يفوح ما فيها من روائح :"تشوفه يضحك وفي قلبه الأسى والنوح، عايش بلا روح وحيد والحب هو الروح.."، فكأنما أصابت كلمات بيرم التونسي وأنغام السنباطي منها وتراً !

اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات قصص


**

ذاعت شهرة عفاف في باريس تزامناً مع اشتداد شعور يوسف بالاغتراب، انقطعت رسائل الأب إليه - بعد وفاته التي لم يأخذ علم بها - وفقد الشاب اتصاله إلى ماضيه، وقال لعفاف يوماً :

- البيض المخفوق، الخبز المحمص، السلطة الخضراء، السوشي،.. سئمت هذه الحياة، أنت أيضاً، نحيلة جداً، كعود قصب.

وقالت :

- كان يجب أن ترى كيف يتهافت عليَّ المعجبون لدى دخولي إلى العقار، إنها لسابقة أن تحوز امرأة عربية هاته المثابة في باريس.

وقال في غير اهتمام :

- لم أكن لأعجب أقل عجب، الرياء هو طريقة العوام في التعامل مع المشاهير دائماً.

وقالت تتمثل هيئة الفائز، يرى العدالة في الأوضاع الراهنة منتشياً بنصره :

- هل تحسب أنهم جميعاً يتملقونني؟! من الخطأ أن تحيل عجزك عن الاندماج هنا إلى نقمة على من يحاول ويظفر بالنتائج، هذه صفة الكسول وأمارته.. لماذا لا تجرب مدينة فرنسية أخرى : مارسيليا، ليون، ليل، بوردو، ستراسبورغ، مونبلييه، أو حتى تولوز !

قال :

- وكأن في كثرتهم جديداً،.. كل المدن في الاغتراب سواء، كيف أعيش في مدينة تحوي على 246 صنفاً من الجبن !

وتطلع يوسف إلى ابنه حسين الذي كان يرفل في مَرْيَلة رثة وقد أزرى بها أثر الطعام، ثم إلى صورة البيت غير المرتبة، قال :

- بمقدوركِ أن تكوني وريثة أليس برين (عارضة أزياء)، غير أنك لن تكوني ربة بيت ناجحة أبداً.

وبلغ بهما الخلاف حدوداً كالشجار خفيف الوطأة فترك يوسف بيته يزور جاره الجزائري "حمود"، كان جاره يقول بعد أن أجلسه في ترحاب :

- إننا أقرب إلى الاستقلال من أي وقت مضى، ستُأتي ثورة التحرير ثمارها، لقد أحسن عبد الناصر التصرف يوماً حين عبر عن تحذيره لخروتشوف (الرئيس السوفياتي) من الانسياق وراء محاولات ديجول بزيارة حاسي مسعود (منطقة آبار بترولية جزائرية كبرى بالصحراء)، لن ننسى هذا لكم أبداً !

وقال يوسف :

- أعتقد أننا نلعب دوراً يفوق إمكانياتنا بأشواط، وكأننا إمبراطورية أو قطب عالمي مؤثر، إن هذا مثار قلق، فالبالون ينفجر لأهون سبب.

وأنكر حمود على يوسف قوله، واستدرك عليه :

- الموقف السياسي الأخلاقي يلقى القبول العالمي ويستميل الضمائر،.. هذا غاية ما في الأمر، إن العرب قوة مؤثرة.

ولاحظ الأخير فتور يوسف إزاء الحدث، بغتة، ساد صمت، قال حمود في حدس أصاب :

- لمَ أراك واجماً؟ أهو شجار زوجي؟!

- أجل، ماذا يفعل المرء إذا يقظ من نومه فألفى مدينة بأسرها تتحدث عن زوجه؟ لقد انتقل الأمر وذاع حتى أن بعض الجرائد في مصر تنقل الخبر، وحتى لقد يخيل إليَّ - وعلى نحو لا أستطيع أن أجرده من المبالغة والتشاؤم - أن أحداً على ظهر البسيطة لا يجهل بالأمر، لا تخطئ فهمي : إني أنشد الخير لها ولكني أكره عملها الجديد، أكرهه من الأعماق، إنها ابنة الحي الشعبي التي ملأت الأسماع في باريس،.. إن الشهرة في أحوال داء عصي كالإدمان، تدفع الأثمان البواهظ كي تحوز معاملة كالآلهة، وتهب من عمرك ووقتك ما يجعلك ترتاب حول امتلاكك لناصية نفسك، إنها سرقة جميلة مغلفة في قالب الإجحاف والمعاناة، هكذا أرى الأمر،.. يقترب منها المقتربون وهم كثر، لدي فوبيا (خوف مرضي) من المتملقين والأفاقين، إن سبباً يدعوني إلى زيارتك الساعة هو أنك لست كاذباً،.. لم تعد عفاف لي ولا لحسين أو لزهير، إنها أسيرة لطموحها الجارف في زيها الفرعوني الهازل ! كيف لي أن أسيطر على كل هذا؟

وقدم حمود لجاره مشروباً كحولياً يطلب منه الهدوء فشرب منه يوسف، ثم جعل يواصل من حيث انتهى :

- زهير، هذا الأخير يتمتع بموهبة ألمعية فائقة، فلتنظر إلى هذه اللوحة، لقد رسمني، بل رسم معاناتي هنا، لقد صور الطفل أباه، بمقدورك أن ترى الفنار الحجري، والبرج الحديدي، عجيبتي العالم القديم والحديث يتجاوران.

وأمسك "حمود" باللوحة حتى تلألأت عيناه يقول :

- إلهي ! إنها رائعة الجمال !

وحضر الجار الفرنسي مارسيل فاستقبله حمود يقول في حين يترك اللوحة :

- "استقلال الجزائر بات وشيكاً..".

- "حرب العصابات لن تسفر عن دولة مستقلة.. إنك تنسى أن القائد الفرنسي بوجو Bugeaudحين احتل أرض الجزائر في التاسع والعشرين من كانون الأول عام1840م، وغداً حاكماً عاماً هناك، لقى أرضاً خاوية، وبلداً في حال اقتصادية بائسة.".

- "سنحوز اعترافاً دبلوماسياً بالأمم المتحدة.. الرئيس الفرنسي نفسه أقر بحقنا في هذا قبل نحو عامين.. وسأخاطبك بالتاريخ إذا أنتِ استخدمته : إن من بين أعمال العنف والوحشية التي تورط فيها الاحتلال الفرنسي في أيامه الأولى : ما فعله كامو Camou عام 1851م حين هدم في يوم واحد تسع وعشرين قرية أضافها الرجل إلى الرقم الإجمالي وهو ثلاثمائة قرية عامرة..".

وقال مارسيل :

- "فلنترك السياسة، إنها قبيحة، أخلاق الناس تتحسن حين يتركون الجدل ونَسْل الخِصام ذميم..".

-" بوسعي أن أترك السياسة، ولكنها لن تتركني،.. تولد المعرفة من احتكاك النفوس..".

- "المشكل أنك لا ترى الناس سواسية، والحق أنهم كأسنان المشط أو كأسنان الحمار..".

وضحك حمود وحده، والتفت يوسف إلى حمود يقول :

- "يجب أن يكون للجزائرين خطة لما بعد الاستقلال، فلتنظر إلى مصر، الإسكندرية كمثال، وما جرى لها بعد استقلالها السياسي، وقد يسيغ أن يسأل المرء هنا : هل تذهب نشوة التحرر العقول؟ العرب قوم انفعاليون تملألهم العاطفة الجياشة وتشحذهم الخطب الرنانة، ولكنهم لا يحسنون التدبير الهادئ الرصين، وقد يبرعون في تطويع اللغة إلى حدود معجبة فاتنة، وفي كتابة المعلقات والأشعار والاستزادة، ولكن ما أبعدهم من التجريد والعقلانية والتحليل ! إنه أمر قد توارثناه من شاعر البادية وصرنا ندبر به كل أمر من أمور دنيانا، حتى معانٍ كالفروسية حين تبلغ مبلغاً مفرطاً متكلفاً تستحيل إلى حماقة تورث المعاناة لأجيال وأجيال، فالادعاء الأخلاقي من أضراب الاحتيال، إن الاعتدال رأس الحكمة، ولا يزن نزاهة المرء إلا ميزان حساس دقيق..".

ومد مارسيل يده ليوسف (الذي مد يده بدوره)، يقول :

- "ها قد اكتسبت صديقاً في بيت الرجل الجزائري المتحمس !".


تحدث يوسف عن مشكلة زوجه بلغة فرنسية إبتدائية، وكان قد طفق يحرز تقدماً في فهم اللغة الغريبة عنه والتحدث بها، وهنا ذكر "مارسيل" اقتباساً نسبه إلى فولتير يقول فيه ما مؤداه أن المرأة مطيعة لمن يقوى عليها، جبارة على من يخشاها، وشكك يوسف في نسبة الاقتباس إلى المفكر الفرنسي (يشدد يوسف على أن الرجل ليس فيلسوفاً بقدر ما هو مفكر وأديب ومسرحي وثائر)، قال مارسيل في سبيل التدليل على صحة الاقتباس :

- "كان فولتير يسير في ركب تراجيديا تقديس المثالية الذكورية، هاته التي ورثتها أوروبا من العصور الوسطى، لقد أجاب عن "فيلهلمينه"، أميرة بايرويت، حين أردت استبدال النساء بأدوار الرجال، أجاب رغم عمله في بلاط بوتسدام الملكي بقوله : لا تحاولي استبعاد الرجال، إن المسرح لوحة للحياة الإنسانية..".

والتفت حمود ليوسف يقول ساخراً :

- "كان على عفاف هانم أن تقف مع الأميرة تستمع لفولتير..".

وقال يوسف :

- "لا أحسب أنها (عفاف) قد تفيد من هذا على استحالة وقوعه، ما كل الناس بأعقل من فولتير كما يقولون،.. إن عفاف لا تروم استبعادي ولكنها تهمل شؤون البيت، تمضي أمور العائلة عادة على منوال يتولى فيه الرجل مسؤولية العمل، القسط الأكبر منه، وتتحمل المرأة عناء التربية والبيت وعملاً يدر دخلاً ثانياً (أو لا عمل)، حتى إذا اختل التوازن المعروف بدأت المشكلات،.. أخشى أن تفتتن في جمالها فيصيبها شيء مما أصاب ميدوسا الجميلة في المخيلة الإغريقية : استحالت خصلات شعرها إلى أفاعٍ قبيحة، وتحجر الناظر إليها كتمثال، إنها لعنة أثينا،.. واجب المرأة في ظني أن تدافع عن حقوقها الرئيسة في التعليم، والعمل، والحرية، أن تقف بالمرصاد لجريمة الختان، وكل ما يحولها إلى شيء ضعيف ومرتهن ومنهك.. دونما انشغال بالترهات أو السفاسف على حساب هاته القضايا الأساسية..".

وكان مارسيل يجول ببصره في فضاء الحجرة فاستوقفه رؤية لوحة الفنار والبرج، قال :

- " إلهي ! ما أجملها !".

عاد يوسف إل بيته محملاً بالشيكولاتة الفرنسية، الفستانين، الورود،.. وغير هذا وغيره، لقد انتوى أن يضرب صفحاً عن الماضي وأن يبدأ صفحة جديدة قانعاً بالمتغيرات.. لم يجد الرجل زوجه، مكث ليلاً ينتظر مقدمها وفرش الورود على سريره وثمل بالنعاس، في صبيحة اليوم التالي وحين آوت المرأة إلى بيتها وجدت رسالة يوسف بين الورود، يقول :

-" سأذهب في زيارة إلى والدي،.. لقد انقطعت رسائله إليَّ ولا ريب أن مثل هذا الانقطاع مما يثير القلق، ويبعث على الارتياب، ولقد أحدس بأن دوراً لا يزال بمقدوري أن أنهض به هناك في ريف أسيوط.. الشيكولاتة الفرنسية، الفساتين، الورود، هدايا لم تجد من يستقبلها، وقد بذلت غاية جهدي في صد نفسي عن تناول الشيكولاتة وحدي، وفرشت الورود والتحفت بها في خضم يأس الوحدة، وحدة الأمس،.. تحتاج مريلة حسين إلى تغيير، أعرف أن الطفل يقايضك لارتدائها، حتى إذا خلعها أبى أن يعود يرفل فيها إلا مقابل فرنك، ولا أعرف كيف تولد في نفسه جشع كهذا الجشع الطفولي، إذا كانت الطبائع مما يُورث، وقد عهدت عن نفسي الزهد،.. أثارت لوحة زهير إعجاب جاريَّ حمود ومارسيل، على خلافهما العميق، يخرج حمود مارسيل عن دائرة الأخلاق - وحتى الإنسانية - حين يصف بشاعات الاحتلال التي يوردها في خضم انفعاله المثير، لا يقف مارسيل موقفاً أقل رأفة من خصمه، اجتمع الرجلان على محبة الفن،.. ما أشبه الفنان إلى الذي يلقي على البشر الزهور ويتوارى! والفن الحقيقي ليس موضع خلاف لدى أصحاب الحس.

أراني أتخلص رويداً رويداً من شعور الاغتراب، أحدس بأنه يتسرب من جسدي وعقلي، وقد يصح أن أصف الأمر بعد تقدمي في تعلم الفرنسية بأنني قد برأت من "متلازمة الإسكندرية" أو أكاد ! وقد أتساءل هنا : هل عاد شغفي بالحياة والمال؟ يلح مارسيل عليَّ بإلحاق زهير بمدارس الفنون الجميلة، وقد ذكر شيئاً عن ضرورة اصطحابه إلى المعارض الفنية في المدينة التي يُنظر لها - وكما تعرفين - على أنها عاصمة العالم الثقافية، وقد عزمت على الأمر عزمة أرجأتها إلى ما بعد الزيارة والعودة.


حاولت جهدي، في نهار هذا اليوم، أن أصطفي من المجلات، مجلات عروض الأزياء الفرنسية حيث تظهرين بأزياء ملكات الفراعنة، شيئاً أصحبه في رحلتي من شمال المتوسط إلى جنوبه، ولا أخفي عليكِ سراً أنني لم أجد منها ما أستطيع أن أصفه بالاحتشام في عرف الثقافة الصعيدية المحافظة، وغضبت من الأمر غضبة لم يمحها إلا ابتسامة الطفلين في نومهما المستغرق الموادع، وقبلتان طبعتهما على جبهتيهما قبيل الرحيل! يحتاج زهير إلى نظارة طبية جديدة، لقد أظهرني على تشوش رؤيته، كانت عيناه حساستين للضوء دائماً، ولعلكِ لم تنسِ عهد طفولته حين كان يغلق جفنيه جل أوقاته، ولتنبهي حسين بعدئذٍ إلى الحواف الحادة، حواف الأرائك، والنوافذ، والطاولات،.. إلخ ! إن عظام الأطفال لينة لها ما لعظام العجائز والكهول من الغضارة والوهن، ولتشملك الرعاية، رعاية الآلهة، في قلب باريس..".