U3F1ZWV6ZTQ2MTMzMDkyMjMyOTgxX0ZyZWUyOTEwNDc0Mzc0ODg0Mg==

القلب يهفو إلى اللقاء الأول

الفصل السادس : القلب يهفو إلى اللقاء الأول

1954م..

انتظمت حياة بهاء الدين في أسيوط رفقة فاطمة، كان يحدث أن يجلس في حديقة بيته التي أثقلت أشجارها ثمار المانجو والبرقوق، وتدلت من عرائشها عناقيد العنب، بينما يقوم على خدمته أفراد عائلته وشباب مركز أبي تيج كأنما حاز مجداً متحفاً، وأقام مملكاً في فدادين وأشباح بشر، وخيل إلى الزوجين أن الحياة تمضي على خير منوال إلى وقت تحين فيه النهاية المقدورة،.. كان يتردد على مثوى أخيه عز الدين فيتمنى لو طالت به مقاديره إلى أن يشهد على يوم نعم فيه الفلاحون بالحيازة وبعض الرخاء،..حتى إذا جاء ذكر الإسكندرية هفا إلى عالمها الأثير بالفؤاد تارة، وطوراً عاد يقول كأنما يخفي شوقاً بمنطق مصطنع : "إنها مدينة أفرنجية متأغرقة قامت بالأساس في أجزاء من الإمبراطورية الأغريقية الكبرى، إنك لا ترى شروقها إلا حين تولي لها ظهرك ! وأما نحن فلا ننتمي إلا إلى جذور الصعيد.."، لولا أن جاءه نفر من العاملين يقولون بينما يتدانون إلى مجلسه المنعم، وقال جعفر  وكان أكبرهم :

- نريد زيادة فيما نتحصل عليه من الأجر !

وقال في صرامة :

- حزت فدادين خمسة من الإصلاح الزراعي،.. ولا أملك مال قارون!

وقال جعفر وكان ذا حدقة ثاقبة وجفن أحمر بعض الاحمرار وجبين عالٍ :

- أعذرني،.. سيدي، لقد هبطت إلينا من حواضر الإسكندرية ولم تعمل بالفلاحة إلا لماماً، إننا أولى (يريد شباب أبي تيج) بمزيد من الإنعام، وبالإصلاح الاجتماعي نفسه.. وهل جُعل الإصلاح الزراعي ليخلق حلقة جديدة من السادة والعبيد؟

ونهض بهاء الدين وقد غضب للعبارة الأخيرة فانتقل من حال إلى حال، ووثب من طور الاسترخاء إلى الانفعال في قفزة،.. قال وهو يشير إلى الخلاء علامة على إنهاء الحديث، وانصرف جعفر ومن معه استجابة لحركة الرجل وإن جعل يغمغم :"عجوز خَرِفَ.."، وقال بهاء الدين وهو يأخذ يجلس :

- ولينظر عز الدين كيف انقلب حال أهله وذويه،.. يطمعون في اللقمة وهي في فم الآخر !

وقالت فاطمة :

- كان يجب أن يكون يوسف هنا ليعمل بدلاً من الغرباء !

وقال بهاء الدين :

- إنه ملتصق بالإسكندرية التصاق الطفل بجلباب أمه، (ثم وهو يتثائب..) من مراقب للمصنفات إلى تاجر أخشاب إلى نائب في مجلس الأمة إلى هنا،.. لا أصدق ما مر بي، لقد عشتُ مرتين.

وقالت :

- يستوجب علينا أن نكتب الوصية نحدد فيها نصيب الأبناء من حظ الفدادين الخمسة !

وبدا على بهاء الدين التطير من حديث ارتبط بالموت،.. وتلاشت غضبة الرجل العارضة في المشهد الريفي الحافل بالأعماق غير المنظورة. وفي مساء هذا اليوم نهض الرجل على صوت فاطمة تتأوه وهرع إلى الباب يريد أن يجيء بطبيب المركز لولا أنه ألفى الباب موصداً، وأيقظ طرقه العنيف جعفراً، وسمعه بهاء الدين يتحدث إلى غيره إذ يقول وهو لا يزال يطرق :

- فلتفتحوا الباب، إن فاطمة تحتاج إلى معين..

وأجابه جعفر وكان ممسكاً ببندقية الحرس :

- ستنتهي سيرتكما هنا،.. وستؤول الأرض إلى أصحابها أيها الدخيل !

ونهره بهاء الدين وطفق يحاول أن يفتح الباب، وإن أعجزه داء السكري عن التمادي في محاولته، قال وهو يتهالك على الأرض كالمستسلم :

- إنها المؤامرة..

وعاد إلى حجرة امرأته وكان الألم قد بلغ منها كل مبلغ، وفتح خزانة صغيرة فقال وهو يمسك بالأعشاب :

- فليكن فيها الشفاء !

وتناولتها فاطمة بينما جعلت تتجشم ما فيها من مرارة، فكف ألمها قليلاً، وسألته وقد تقلصت مقلتا عينيها :

-  وأين الطبيب؟

وقال وهو يمسك بكفيها :

- ثمة مكيدة تدبر.. لقد مُنِعت من الخروج.. جعفر ومن معه يغلقون الأبواب !

وأخذ منها الخوف كل مأخذ، لقد صحبته المرأة بالإسكندرية على عهد إنذارات الغارات وأزيز طائرتها وظلامها الذي تبسطه في الأنحاء، وفي أحيان يكشر فيها الموت عن وجهه الأشوه فما يلبث يتوارى - ملبياً نداءً خفياً - في ظل الحياة،.. واليوم لن يزيد الموقف سوءاً عن ذكرى الأمس، وقالت :

- فإذا قُضي على أمرنا معاً سيكون هذا قضاءً عدلاً !

ولم يعر قولها اهتماماً، وعاودها الألم فأمسكت عن التأوه وقد لاحظت استغراقه في أمر مهم، وقال وهو يستشرف الحرس الممسكين بالأبواب من نافذته :

- جميعهم - فيما يبدو - متواطئون، (ثم وهو يرى شبح آدمي يجلس وحيداً على مبعدة في محيط رؤيته السرابية..) ما خلا نوح بن سعيد، لقد كان أبوه (سعيد) صديقاً لأخي عز الدين، لقد نشأ، وللصدفة، أبكماً!

وتحين فرصة انشغل فيها رفاق جعفر عن صاحبهم ثم تمثل كلمة الليل بلغة الإشارة، وبدا أن نوحاً تفهم المغزى - دون حاجة إلى إجهار - من إشارته فأومأ برأسه إيماءة الموافق، والتفت بهاء الدين إلى فاطمة، قال وقدا بدا مطمئناً بعض اطمئنان :

- سيجيئنا في الليل نوح فاتحاً ما أوصده جعفر وعصبته، سيدفع الخونة أبهظ الأثمان !

وكادت المرأة تثني على حسن تدبيره لولا أن الألم عاودها على نحو غير مسبوق، وقال وقد جن جنونه :

- إن زمناً نخسره الساعة لا يفيه الذهب وفاءً، سيدفعون الثمن جزاء كل ثانية.

كان الهواء الآتي من الناروزة (فتحة في سقف البيوت الريفية تستخدم لترطيب الأجواء) لا يكفي ما اشتملت عليه الأجواء من الحرارة، واشتد بفاطمة داعي الألم حتى جعلت تعض بفيها قماش الغطاء،  وحاول بهاء الدين أن يسري عنها من سبيل أن يقص عليها أحوال يوم التقى بها :

- كنتي تبدين صبية يافعة مملوءة بالحماسة.. أراني خارجاً من حلقات الدرس التي كانت تقام بمسجد البوصيري، أبصرتك على كثب منه بعد أن تجاهلت الهاتفين والمعترضين، متوشحة بالسواد، تبعت مسيرك، وقد أفضى الأمر إلى ما كان.

وتابع يكمل من حيث ابتدأ وكانت محدثته تسر بسماع القصة على تكرارها :

- كان يوماً من الأيام العاصفة بالإسكندرية، أقام الأهالي المتاريس في رأس التين، وانطلقت تظاهرات يوليو 1919م من ميدان أبي العباس، وشهد الأنفوشي أجل وأهم أيامه،.. ولا أفهم كيف انشغلت بك عما كان يجري !

وشغلتها استعادة الذكرى عن واقع الألم والرثاء، فغابت في متاهات الماضي وصفحته الرائقة، واحمر وجهها وتورد، إنها صدفة أهدت إليهما الأبناء وحياة مفعمة بالمسؤولية والمهام ! وقطع استرسالهما في الخواطر العذبة المساغة - كأنها ماء سلسبيل في جنة دنيوية - هتاف جعفر يقول:

- خائن،.. خائن أنت يا نوح، هل فقدت عقلك بعد لسانك؟

وخرج بهاء الدين يستشرف ما يدور فألفى جعفراً قابضاً على قميص نوح، ووعى أن مخططه قد أُفشي، وأن مراده قد انتكس، ولكمه جعفر على محياه لكمة أولى، فلما رام أن يتبعها بثانية فر الشاب الأبكم من قبضة أرادت به سوءً، وغاب في خضرة الريف، وشدد جعفر على أشياعه أن يلحقوا بالفار تشديداً عظيماً، على حين جعل يقول بعينين يقدح منهما الشرر:

- سننتهي من العجوزين وجثتهما،.. أجل، في سكون الليلة حين تختفي العيون وتأوي إلى المضاجع،.. وإلا هلكنا وهلك مرامنا !

وكان جعفر يجد مقاومة من صحبه الذين استصعبوا التخلص من الاثنين، وجعلت فاطمة تسأل بهاء الدين عن تعلة الجلبة، فقال كمن ينوء بثقل:

- ينبغي أن نخدم أنفسنا بأنفسنا !

وصمتت الأصوات تدريجياً وران السكون لدى أول الليل، صاح الديك وضربت الفؤوس وظهر البدر من وراء أشجار الكازورينا ونشر الندى أنجزته البيضاء، ما كان للرائي أن يحسب أن ريفاً موادعاً - على مثال الموصوف - ينطوي على أدوات من الجريمة الكامنة، أو يتحين انفجاراً وشيكاً،.. وتجهز بهاء الدين للحظة الاقتحام فلم ينم ليلته واتخذ من البهو حصناً يحتمي به، ويتترس خلفه، وأمسك بطبنجته العتيقة،.. وسمع في الأفق دوي أعيرة نارية تشق ليلاً ساجياً، وفزع من فوره وتأهب فمسح عن عينيه الناعستين آثار غفلة عارضة، واستقامت قناته،.. وأيقظ زوجه التي كانت تلتحف وتنام على أديم أرض البهو، ووقع اشتباك خارجي بين بوليس المركز (وأكثرهم من الضباط المصريين) وبين جماعة جعفر، وفطن بهاء الدين إلى حقيقة أن نوحاً قد نجح في إبلاغ رجال الأمن، وأن الأخير كان أسبق من حلول الليل - ميقات الجريمة - إليهم.. وسمعا وقع الأقدام على كثب من الباب فنطق الشيخان الشهادة وسلما للمقادير تسليم المرء يهوي من هاوية أو أعلى جبل ينتظر هلاكاً أو نجاة معجزة،.. وإن هي إلا لحظات حتى بدا ضابط مصري كلمعة الأمل وقال في وسط الرصاص :

- اتبعاني !

واقتفا اثناهما أثره كخيالين شاردين في مساء يسترشدان بدليل، وطال بثلاثتهم العدو حتى اشتكت فاطمة آلام عظام الركبة المعتادة قالت :

- مهلاً،.. عسكري الدرك !

وكانت المرأة على جهل بأن المنصب الذي استمر طوال عهد الخلافة العثمانية وحتى حركة يوليو - قد أُلغي، ولم يشأ الضابط أن يصحح لها، قال بهاء الدين وهو يضع يديه على شارتي الضابط كالممتن :

- لقد أنقذتنا !

وقال الضابط وقد لمعت أزرار قميصه المصفوفة كأنما استخفه طرب ثناء:" الفضل لله،.. ولزملائي !"، ولم يكد يتمها حتى وقع انفجار انتشر على إثره الخوف وتراجع الاستبشار، إنها محاولة جعفر الأخيرة اليائسة وقد أشعل برميلاً من البارود، وأخذت الرهبة بمجامع الأفئدة، واحتوى ريف جميل على جمرة من لهب،.. ذلك حتى لاح جعفر مقيداً ومعصوباً، ونقل المتضررين من الانفجار الأخير إلى المشفى،.. وبسط السلام ألويته، جيء بطبيب المركز الذي أشار إلى خطورة حالة المرأة لتأخر الدواء عنها طوال المدة الفائتة، وساءت صحة فاطمة فغدت تلازم سريرها أكثر الليل والنهار، كان بهاء الدين يقول لها :

- لأجل زهير الذي لم تريه، فلتستمسكي بحياة، إن يوسف يقول في رسائله بأن أسنان الطفل قد نبتت كاملة !

وقالت فيما يساورها شعور بالمَمْنُونيّة :

- لن يعيش المرء أبداً، ولو كان وجودنا أبدياً لارتعبنا من ملازمة أنفسنا، تكمن الأبدية في أن نرى أعمالاً خيرة تطول ثمارها.

وقال وهو يجيء لها بآنية الخبز والجبن وكوب النعناع فوق السرير :

- ستعودين إلى الإسكندرية !

وقالت وفد انسدل شعرها الطويل الأشيب على كتفها الأيمن :

- لن أعود إليها لأنها كامنة هنا (تشير إلى موضع الفؤاد)، إن الكامن في النفس لا يحتاج إلى استحضار !

وطفرت عيناه بالدموع وتحدرت على وجنتيه فأفحم في بكائه كطفل، ماذا يكمن في أبي تيج حتى يرحل فيها الأحبة؟ والقلب يهفو إلى الماضي، إلى اللقاء الأول،.. إلى الذكرى الأولى التي منها ابتدأ كل شيء، اللعنة على الخيانة وعلى جعفر ! اللعنة على الموت ! وعلى العواطف الجياشة تحفل بها النفوس، وأثقلته اللحظة حتى أدمته، وود لو تلاشى أو قفز على منطق الأسباب أو أمسك بجناح الخيال، محنة هي شديدة ألفى نفسه أسيراً جدرانها كالسجين، ولن يهرب من هاتين العينين، عيني فاطمة المغلقتين المستسلمتين، وجعل يردد :"لن تموتي يا فاطمة،.. لن تموتي!".


 

 اقرأ أيضاً : 

  الفصل الأول : على درب الرحيل

الفصل الثاني : لا ينبغي أن يكون للحب ميقات

الفصل الثالث : ما تغيره الأيام

الفصل الرابع : عبير الحرية

الفصل الخامس : حين بزغت أنوار الفجر

الفصل السابع : خديعة في الميناء الغربي

الفصل الثامن : امرؤ بلا جذور

 الفصل التاسع : حين يجيء المساء

  الفصل العاشر : عرس سعيد في الورديان

 الفصل الحادي عشر: الكأس والوصية

 الفصل الثاني عشر : ميلاد المدينة من حلم

الفصل الثالث عشر : فجر جديد

 الفصل الرابع عشر : خيانة في الريف

 الفصل الخامس عشر : الحزن الذي يجتاح أضلعي.. والعربي الذي لم يعد !

الفصل السادس عشر : إنما الأيام مثل السحاب

 الفصل السابع عشر : أكاليل من الحب

الفصل الثامن عشر : غريب على باب الرجاء

 الفصل التاسع عشر : حديث السلطة

 الفصل العشرون : موعد عند كلية فيكتوريا

 الفصل الحادي والعشرون: رماة الأحجار في حيَّنا

 الفصل الثاني والعشرون: لقاء الرئيس في الريف

الفصل الثالث والعشرون : مفاجأة على أضواء الألعاب النارية

الفصل الرابع والعشرون : الاتحاد الاشتراكي ومنافذ الحرية

الفصل الخامس والعشرون: سطور عن الحياة في باريس

الفصل السادس والعشرون: أميرة تعود من المساكن الحمراء
  الفصل السابع والعشرون: عضني الاكتئاب ! 
الفصل الثامن والعشرون: رقصة تشارلستون في حفلة لويس
الفصل التاسع والعشرون: أباظة ينتصر لفلاحات الورديان
الفصل الواحد والثلاثون : لويس يشتري لوحة البرج والفنار
الفصل الثاني والثلاثون : خيالات أحلام في حرب اليمن
الفصل الثالث والثلاثون : هل يُنسى الحب في تنورة الدرويش؟
الفصل الرابع والثلاثون : أوديب ومعضلة المصير
الفصل الخامس والثلاثون : شجون مجسدة في عصفور الكوكاتيل !
الفصل السادس والثلاثون : لعنة كحذاء الطنبوري !
الفصل السابع والثلاثون : وجه يتحدى الزمن
الفصل الثامن والثلاثون : تقرير المصير
الفصل التاسع والثلاثون : حمام كليوباترا
الفصل الأربعون : مسيرة الحياة
الفصل الواحد والأربعون : آلهة الجمال
الفصل الثاني والأربعون : مشكلات العرب
الفصل الثالث والأربعون : اجتماع الجبل
الفصل الرابع والأربعون : همس الحب
الفصل الخامس والأربعون : قصة رودوس
الفصل السادس والأربعون : حلم في سيسيل

 اقرأ أيضاً : 

الفصل الأول : على جندول البندقية

الفصل الثاني : حب تحفه القناديل العائمة
الفصل الثالث :  عباءة أثينا سقطت على أكتاف الإسكندرية
الفصل الرابع: نافورة بختشي سراي !
الفصل الخامس : ورأيت رقصك كالجنون
الفصل السادس: حزمة من الذكريات
الفصل السابع: لعنة المدينة
الفصل الثامن: زناد الحب
الفصل التاسع: شيفرة الجمال
الفصل العاشر: مبادرة روجرز
الفصل الحادي عشر: رحلة في فلورنسا
الفصل الثاني عشر : أيام فاترة في البحر الأحمر
الفصل الثالث عشر : ذكرى الثأر
الفصل الرابع عشر : النهضة المصرية
الفصل الخامس عشر : قلب كارمن
الفصل السادس عشر : حديث الغريب
الفصل السابع عشر : لذة الحياة المنعمة
الفصل الثامن عشر : روح التمرد
الفصل التاسع عشر : زواج سري

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق