الحزن الذي يجتاح أضلعي.. والعربي الذي لم يعد !

 الفصل الخامس عشر : الحزن الذي يجتاح أضلعي.. والعربي الذي لم يعد !



1959م..

خرج العربي من محبسه بعد أن توسط له هشام عزمي في قسم باكوس، وهرعت مريم إليه تقول :

- حمداً لله على سلامتك..

ووجد الأب نفسه مضطراً إلى الانصراف بعد أن نصح لابنته بأن تعتني بنفسها، كان العربي قد استحال بعد حبسه شيئاً آخر، فقد أورثه إحساسه المتنامي بالإجحاف حساً غاضباً نأى به عن المشاركة في مباريات الكرة ومظاهر اللهو والدعة، وانقلب الشاب كالفتوة لولا أن جسده الهزيل ظل يزري به للنهاية، وأوعز إليه ضميره بأن يكون بديلاً لأبي جريشة حتى يجيء يوم يظهر فيه الفتوة مجدداً، والتقى بصديقيه عبد الرحمن وسامي، وقال للثاني وكان قوياً جسيماً :

- سأعتمد عليك إذا وقعت شجارات في سوق الورديان..

وتحققت للعربي القوة مجسدة في سامي - كذراع أيمن - فيما احتفظ الرجل لنفسه بجانب العقل والتدبير، وحمى الفلاحات اللاتي كن يجئن بالورديان ليبعن بضائعن في عربات نصف نقل من مضايقات العابثين بسياج النزاهة والشهامة،.. وعلمت مريم بما طرأ على مسلكه من التغير فحاولت إثنائه، قال لها :

- لابد من تضحية يقوم بها إنسان كي تتحقق العدالة، لقد غاب الفتوة أبو جريشة منذ هذا اليوم ولم يعد !

- لقد غبت أنت أيضاً ولم تعد..

-....

- أنت هزيل وواهن جداً قياساً إلى دور تريد أن تلعبه، أريدك أن تكون كسابق العهد بك !

- كنت لا أزيد عن صعلوك.. إلام أعود؟

وخاب أمل الفتاة في إقناعه فكأنما أظلمت دنياها لأول مرة على هذا النحو في عمرها المحدود، وعادت إلى بيتها، ولاحظت فتوراً على وجه صابرين، وتجلى وجوم، كان هشام غائباً عن الحضور، واقتربت الأم من الفتاة، قالت واجمة :

- لقد وقع الطلاق..

- حقاً؟! هل انتهى الأمر؟

- أجل، حاولت من جانبي مراراً، ولكن كما يقول المثل : it takes two to tango ! (تطلب رقصة التانغو شريكين، والمعنى : يتوقف نجاح أي اتفاق على توافق طرفين)

وأطبق الخناق على مريم فكأنها تلقت إثر ضربة عاطفية صدمة عائلية، وساءها البقاء بين الجدران في خضم الأحزان، وسألت صابرين الخروج والتنزه فأبت، وحينذاك انسلت - كالهاربة - من تحت يدها إلى فضاء الشارع، كانت تغمغم :"لن تفسدي حياتي مثلما أفسدتِ حياتك.."، وأخذت الفتاة تهرول وتهرول على غير هدى وفي غير طريق، وأحست أن قدماها تسوقها بغير قرار منها إلى الموضع الذي قابلت فيه العربي أول مرة، العربي الذي لم يعد، ووجدت جلسة من الصيادين يتحلقون ناراً كان العجوز عبد الرحمن من بينهم، وطلب الأخير من سامي أن يستدعي العربي لمقدم الفتاة.. وسرعان ما جاء العربي، وجلس، قالت مريم :

- لقد وقع الطلاق، اليوم، بين أبويَّ، أبصرت النور والخلاف بينهما قائم لم يهدأ، كانت أمي بعد أشهر من الزواج تكن إزاءه ارتياباً، وكان أبي يكره جدي، ويبغض أمي لسبب هذا، أما وجود الأبناء فمبرر استمرار مؤقت، يوماً ما أحبت أمي أبي حباً كظيماً فائضاً حرصت على أن تستره زمناً، واليوم انفرط عقد كل شيء !

وتسابق الصيادون الجالسون إلى مواساتها، وقالت منفعلة كأنما أزادت المواساة من شعورها بالشفقة على الذات فانفجرت :

- إن شيئاً في الحياة مهما عظم لن يطفئ ذاك الحزن الذي يجتاح أضلعي!

ونغز عبد الرحمن العربي وغمغم :"فلتغنِ موالاً للفتاة الحزينة.."، ونطق العربي بصوت مسموع :

- لقد تركت الغناء في يوم تركت فيه الكرة واللهو، بمقدوري أن أقص عليكم قصة أبو جريشة والضابط..

وأبدى الصيادون تذمراً، قال قائل منهم :

- لقد سمعنا قصتك هذه ألف مرة..

وقال ثانٍ بينما تجاورت موجة البحر مع هبة النيران :

- بربك،.. هل توقفت الدنيا عند هذه القصة؟

وقال ثالثهم :

- لقد بت في شك من وجود أبي جريشة نفسه،.. هل تحسب أن سرد القصة مرة أخرى سيعيد الفتوة الغائب إلى الظهور ؟!

وقطع العربي سيلاً من الاستهجان بقوله :

- مهلاً مهلاً، لا تحملوا عليَّ، سأغني..

وجعل الصيادون يهتفون :"سايق عليك النبي.." في إشارة إلى الموال الذي يعرفونه ويستحسنون غناء العربي له فيما كانت مريم تجهل به فجعلت تستقرئ المجهول من حديثهم في وجوههم الجامحة في براءة :

- "سايق عليك النبي.. إن كنت باقيني.. تضحك بس الرضا ساعة تلاقيني.. أنا الورد يا حلو وأنت الماء بترويني.. إن غبت دبلتني وإن جيت بتحييني.. وسر تربة نبي زين أحمد شهر دينه.. إن كان غيرك قمر ما تنظرو عيني..".

ونهض عبد الرحمن منتشياً بغناء صاحبه الذي لم يتغير، وتحرك خطوتين في اتجاه البحر فرمى قبعته - كمن يرمي طبقاً طائراً - يقول في نشوة وقد أمسى حاسر الرأس :

- لقد عاد العربي !

وبدا أن عبارته حملت من الاستبشار فوق ما يؤيدها في الواقع من شواهد، فقد ظل العربي - حتى بعد غنائه - وسط أقرانه منكفئاً منعزلاً، وقال عبد الرحمن وهو يعود إلى حلقة النار جالساً القرفصاء :

- حدث هذا منذ عهد بعيد،.. يوماً ما كان البحر المتوسط هائجاً ومائجاً، كانت نوة المكنسة، في منتصف نوفمبر، وكانت الرياح شمالية غربية،.. ولا أفهم السر الذي حلمني على أن أرمي بصنارتي في الجو العاصف المخيف، إذ كيف يمكن أن تطيق الأسماك المعيشة في البحر خلال طقس كهذا الطقس بينما نرتعب منه نحن البشر؟.. إنها الحاجة تصير المرء ينتظر المعجزة، لم تكن تنقصني المعرفة، أعرف نوة قاسم اللعينة التي سميت باسم نجل الصياد الغريق، وأعلم كيف توقف نوة الفيضة الكبرى مهنة الصيد عند رأس كل عام، ثم كيف تملأ نوة الحسوم السماءات بالبروق والرعود، وأما نوة الغطاس فتفسد احتفالات الصيادين الأقباط في بلادنا بعيدهم،.. أعرف هذا كله ولكنني لم أعمل به ولم آخذ حذري منه، وقد انسحب هذا التجاهل على نوة المكنسة، أراني يومذاك شاباً يافعاً متهوراً، لم أكن أهاب الموج، وقد شدتني - أو قل جذبتني - صنارتي إلى البحر شداً، كان العباب يزمجر وفقدت وعيي فيه وسط موج خلته كالجبال، فلم أسترد درايتي بمحيطي إلا على شاطئ البحر الأصفر، إنها روح البحر من أنقذتني!

وبدا أن العجوز جذب الصيادين بحسن سرده لقصته الشيقة، كان العربي يقول متأثراً بتحوله الأخير :

- لا وجود لروح البحر، كنت محظوظاً بما يكفي، إن هذا غاية ما في الأمر!

وقال سامي - مساعد العربي - في سخرية :

- يستعصي على البحر أن يبتلع جثة كجثة عبد الرحمن، ولأجل هذا لفظته أمواجه !

اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات قصص


وكان الصيادون رافلين في سراويل سوداء فضفاضة وقمصان بيضاء، وجعلوا يلعبون لعبة المصارحة مستخدمين هاته الزجاجة التي تدور فيسأل من يقف عنده غطاؤها هذا الذي تستقر لديه قاعدتها، واستقر الغطاء لدى مريم والقاعدة عند العربي، وسألت الفتاة العربي :

- متى تترك الفتوة بغير رجوع ؟

- حين تتحقق العدالة في الورديان وفي غيره، أو يعود يظهر أبو جريشة فينوب عني في النهوض بمهام إنفاذها !

وتوالت الأسئلة والأجوبة في مشهد النيران والبحر، ونهض من الصيادين واحد يرقص حول النار على منوال أنثوي أو متشبه بالأنوثة، وأورث المشهد مريم خجلاً فجللها حياء احمرت له وجنتاها وزاغ بسببه ناظراها، فيما ضاق العربي ذرعاً بتصرفات أصحابه وهمَّ ينصرف رفقة سامي، وجعل عبد الرحمن يسبح في ماء البحر على برودته وثورته ثم عجزه الرجل وكهولته، فسأله كالمنادي :

- إلى أين؟ ولتجرب ماء البحر عسى أن تنسى بها ضلالات ملأت رأسك!

وقال العربي في جدية بينما يلقي على الصياد الراقص نظرة استنكار أخيرة :

- في سوق الورديان فلاحات يحتجن إلى المساعدة !

وانفض اجتماع الصيادين، ووقفت الفتاة قبالة البحر وحيدة تتذكر جواب العربي في لعبة المصارحة والزجاجة الدوارة :"أو يعود يظهر أبو جريشة.." فيتردد في وعيها تردد الأصداء، وبرق في مخيالها خاطر استجابت له فابتسمت على حزنها العميق، كان العجوز عبد الرحمن وحده من بقى من الصيادين وقال لها وهو يلحظ عبرات تنساب على خديها فتلتاع نفسه :

- بنيتي، أعلم كم أنت حزينة واجمة لطلاق أبويك، لا تلقِ بالاً ولا تحزني.. سأطوف بك مقهى الجريك اليونانيين، أعني أولاء الذين كانوا يعملون يوماً في الميناء، لقد رحل أكثر اليونانيون عن بلادنا، ولكن المقهى أثر نفيس يجدر بكِ أن ترتاديه،.. وحارة الجناينية، هناك تستطعين أن تحوزي كل غذاء : الخبز الساخن، الفلافل، الباذنجان المخلل،.. حتى السمك سأصطاده لأجلكِ، سأصطاده من تفريعة الميناء وعبر فتحة السور، على شريط القطار، أعرف الحارس هناك !

والتفتت عن البحر إليه، قالت تمسح جفنيها وقد آنست من العجوز حساً عاطفياً رقيقاً، لأول مرة :

- لا أريد هذا كله..

وساد صمت ارتفعت فيه صخب الأمواج المتدافعة في مدها وانسحابها المتواتر، قالت :

- أريد أن أجد الفتوة أبو جريشة ثم أن أقنعه بالعودة، إنه السبيل الوحيد إلى أن يعود العربي إلى سابق سيرته !

وقال عبد الرحمن منفعلاً :

- إن هذا مستحيل،.. حتى الجن الأزرق يجهل موقعه الساعة !

تلح الفتاة على العجوز وفي وجهها البريء شغف ورجاء، يقنع عبد الرحمن بأن لا خيار أمام هاتين العينين فيبسمل ويخلع قبعته ويشمر عن ساعد الجد، ويبدأن رحلة البحث في المدينة ذات العمارات الخمومية القاسية (تستعمل فيها الخرسانة بشكل خام)، بغير ملال ولا كلال، تسوقهما الروايات إلى عقار متهالك بباكوس، ويدلف عبد الرحمن إلى داخله يقول جهير الصوت وفي نفسه خوف :

- إحم.. إحم ! يا أهل الدار..

في الحائط نتوءات يستطيع المدقق فيها - والمستبعد منها - أن يرى أشكالاً كلوحات الرسم بالتنقيط، وفي السقف تصدعات يهبط منها الماء مقطراً ويجتمع على سطح الأرض فيما يشبه البرك الصغيرة، المقاعد شعثاء، والأستار بالية، والمقاعد غبراء، بدا البناء وما فيه خارج إطار معمار زمان الخمسينيات،.. وسمعا وقع أقدام، انتفض عبد الرحمن وارتجفت مريم، ولاح أبو جريشة مشعث الثياب موحل الحذاءين فكانت لحيته قد نبتت وتشعبت وبدت عينيه غائرتين وتحتهما سواد كأنما نال منهما الأرق والسهاد، وقال أبو جريشة وهو يتفقد ملامح الضيفين:

- ماذا جاء بكما إلى هنا؟ أأنتما من طرف الحكومة؟!

وقال عبد الرحمن وكانت الفتاة تتهرب من الوقوف أمام الرجل في وجل أحدثه مظهره :

- لقد أرهقنا البحث عنك من أمرنا عسراً،.. يجب أن تعود إلى الفتوة !

وقال أبو جريشة وهو يجلس على أريكة أصابها سوس :

- لقد بدأت الفتوة تذبل بعد يوليو 1952م، وانتهت في 1956م ! كل شيء ينتهي ويتبخر حتى أن الفتوة زكي اللبان، صديقي وزميلي في العمل بالشحن والتفريغ في الميناء، صاحب المعجزة بالنجاة في طفولته من انهيار منزله، بترت ساقه بعد عهد كان يتخلص فيه من خصومه برميهم في البحر، كل شيء ينتهي،.. أنا وأنتم والجدران !

وتدخلت مريم تقول في لهفة :

- يجب أن تعود لأجل العربي !

والتفت أبو جريشة إلى عبد الرحمن كأن على وجه سؤال :"ومن يكون العربي؟!"، وأجابه :

- أنقذك العربي من يد البوليس، سدد الكرة..

واستدرك أبو جريشة مقتضباً ومقاطعاً في حزن :

- أعرفه،.. لا أزال أتذكر معروفه !

وقالت مريم في سرور :

- إن هذا رائع !

وأردف :

- ولكنني لن أعود !

وتساءل عبد الرحمن :

- ألا تسوءك المظالم؟ ألا تتألم لأنات العائزين المقهورين فيما تتوارى عن مشهد أولى بك أن تتصدره؟

وقال :

- إن الناس وبسبب الإجراءات الاشتراكية في سكرة سرور ورضا،.. أشعر أنني بلا قيمة.. تماماً مثل السيجارة التي شربها مدخنون نفساً بعد الآخر وعندما أصبحت عقباً ألقوها على الأرض ووطأوها بالأقدام.

وأدار أبو جريشة الراديو مصداقاً لحديثه الأخير، كان عبد الناصر يلقي خطاباً في مصنع الكاوتشوك بسموحة في الإسكندرية فيما يتفاعل الجمهور من العمال يقول :

"فالصناعة والمجتمع هى النقطة التي نضعها نصب أعيننا، وكهدف لنا الموازنة بين الاثنين؛ على نحو أن نطور الصناعة وننميها، وفي الوقت نفسه نحقق عدالة اجتماعية.."، وعرض أبو جريشة على الجالسين مشروب فودكا - وكانت من ثمار التحالف المصري مع دول أوروبا الشرقية حيث يستهلك المشروب الكحولي ويصنع بكميات كبيرة ويستورد بالتبعية - قائلاً :

- إنها خير مشروب يمنح الدفء لشاربه !


وقبلها عبد الرحمن فيما اعتذرت عنه أميرة، ولم يشأ الأول (عبد الرحمن) أن يصحح للفتوة حقيقة أن فصل الصيف لا يزال في ذروته، وأن حر الآخر من يوليو يكاد ينقلب ناراً مستعرة، وأن لا موضع لمشروب يستجلب الدفء في طقس كهذا،.. وطال النقاش بين الثلاثة في مشهد الجدران المتصدعة والخطب السياسية حتى انتهيا إلى إقناع الفتوة بالعدول عن اعتزاله.