الفصل التاسع : حين يجيء المساء
غمرت يوسف سعادة غامرة بخروج آخر جندي إنجليزي من القاعدة البريطانية بقناة السويس، وقال وهو يتابع الخبر بعينين مستبشرتين :
- تطلب الأمر ثلاثة وسبعين عاماً وتسعة أشهر وسبعة أيام كي يتحقق الجلاء!
وأعجب الفتى المتحمس إعجاباً فيه زهو بقرار التأميم وبخطبة الأزهر وبتحرر دول العالم الثالث من قبضة التاج البريطاني، تحررهم بعد استعمار تباعاً كمثل سقوط الدومينو الأول يتبعه الثاني.. وهكذا دواليك، وعد نفسه جزءاً من وقائع أحوال عالمية تجري حوله، وكانت عفاف دونه حماسة إزاء كل ما سبق، وانتظم عمله بإحدى مصانع الحديد نهاراً، ثم جعل يوزع الورود حين يجيء المساء، على ذاك التناقض الجلي بين طبيعة الوظيفتين، وكان يردد في تقرير :"لقد دعمت حركة يوليو الصناعات الثقيلة التعدينية والكيماوية والبترولية والحديد والصلب، وأفسحت مجالاً للمصريين يتصدرونه في شتى الصناعات، إنها بشائر نهضة الصناعة.."، وأما دخله - رغم الجمع بين وظيفتين - فلا يكفي أسرته الصغيرة، وقد أوعزت إليه شحة موارده بأن يكتفي بزهير ابناً له حتى حين، وعاد يوماً وقد أخفق في تجارة الزهور، فأسلم باقتها للأريكة يقول متنهداً ويائساً :
- إلهي ! هل كف الخلق دون إنذار عن التماس الجمال !
وسمعته عفاف فقالت :
- كانت نفوس الناس في مصر الملكية أرق وألطف لاستقبال مثل هذه الأمور..
ولم يرق له حديثها، قال :
- وماذا عن التبعية والفقر والمرض في هذا العهد؟ (ثم وهو يتطلع إليها في فتور فيحيله مظهرها إلى صنف من الانفعال والغضب..) إلهي ! أي فستان هذا الذي ترفلين فيه؟ إنه يكشف أكثر مما يستر ! هل عدت إلى سهرات الرقص مجدداً؟!
وأمسكت بزهير فرفعته تقول :
- لقد عدت إليها (تريد سهرات الرقص) لأجل هذا، فم بريء جائع، لقد خان أبوك عهده، وأقنعتني العالمة فريدة بالأمر.
وجعل زهير يبكي والمرأة تعيد تسلمه في رفق لما كان عليه، قال يوسف:
- إني عامل بمصنع حديد، وبائع للزهور.. ألا يكفي؟
وفتحت ثلاجة فارغة إلا من علب الجبن، تقول :
- كلا !
وكاد يطول بينهما النقاش لولا أن المرأة أظهرته على رسالة صغيرة كالبرقية بعث بها إليه أبوه بهاء الدين، وتساءل :
- هل جاء بالمساعدة المالية؟
- إنه يطلبك لأمر آخر !
ولاحظ أنها تتفادى أن يتقابل مجال رؤية عينيها - قريبتي الشبه بعيني حورس - بعينيه، فانتقل من الغضب إلى شيء من الحياد تهيئة لاستقبال أمر يجهله، وأمسك بالرسالة يقرأها فتترك أصابعه المعروقة أثر لدى طرفها :" تحية إلى الابن العزيز يوسف.. وإلى الإسكندرية..
إن آلاماً شديدة عصفت بفاطمة في الأيام الأخيرة، وقد أتفق لي أول الأمر أن أحجب عنك الخبر وأن ألوذ حولاً بالكتمان،.. على أن ضميري لا يحتمل.. سأنتظر أن أراك في أبي تيج، ولاريب أن أمكَ سيعود يرتد لها بعض عافيتها حين تراك !".
وعزم من فوره على السفر، واحترق قلبه بالجزع، وتعزى بزهير على كل آلامه، وتسامى عن احتمال الانتظار في أفق عالٍ كبرج عاجي، إن زهيراً يمثل المستقبل وفاطمة تمثل الماضي، وسيكتب زهير فصولاً لقصة قادمة، أليس في هذا عزاءُ؟ أليست تمضي الدنيا بين راحلين وذاهبين؟ ولكن ما باله يبكي ويرتعش؟ ما باله ينتفض؟ وطفقت عفاف تودعه لدى محطة القطار ففاض دمعها على جبين زهير ووجهه، وفتح الطفل بدوره عينيه يستشرف السبب وسط دعاوي ونداءت بالتعجيل بالركوب، وضجة من هاته التي تحفل بها محطة مصر في ثوبها المزدحم، وقال لها يوسف :
- لأجل زهير،.. لا سهرات بالإسكندرية !
وقالت وهي تودعه بمنديلها بعد أن كفكفت به دمعاً صبيباً، بينما يشرع يتحرك القطار قدماً :
- فلتعد إلينا من أبي تيج بما يغنينا عن هذا.
ونزل يوسف في أسيوط وقصد إلى بيت أبيه ذي الأسوار، وقطع مسافة الغيطان مهرولاً تارة، وطوراً عادياً، قطعها يفكر فيما يمكن أن يبدأ به لقاءه مع أمه بعد طول غيبة، سيحكي لها عن حفيد لها لم تره، زهير وعينيه المستلمتين المغلقتين جل الوقت، وعن أحوال الإسكندرية بعد الاستقلال السياسي للبلاد وجلاء الإنجليز عنها، وسيمنحها أعشاباً تخفف عنها وطأة الألم، ودلف إلى البيت الكبير أخيراً، كان الباب موارباً، وسمع قرآناً يتلوه الشيخ محمد رفعت فحدس أمراً، واستقبله بهاء الدين بالخبر المقبض وانقضاء الأجل، وفجعه الفقد حتى أسبلت عيناه.. وهرع إلى حجرة الأم فاكتشف ما كان، ولثم جبهتها - كالذي يتجشم ألماً في صمت - ثم غطاها بشرشف، ومكث مدة يدعو لها ويستجمع قواه كيما يتقبل حقيقة أنه فقد حبه الأكبر، وطال بين الأب وبين ابنه الحوار في مساء ذاك اليوم، وبعده، قال بهاء الدين الذي بدا متأثراً فوق المعتاد له وقد خرجا إلى محيط الريف :
- الحياة قصيرة كما ترى،.. ولتظفر بذات الدين تربت يداك !
وسأله يوسف كأنما لم يستوعب بعد ما سمع :
- ماذا تريد؟ ولمَ منعت عني المال؟!
- لقد أردت أن اختبر زوجك، في المنع اختبار التجلد، وفي المنح امتحان التصرف، ألم تعد المرأة إلى سابق سيرتها؟! لن أعيش أطول مما عشت وأروم اطمئناناً إلى مستقبلك ومستقبل زهير، وإذا كان رب البيت بالدف ضارباً فشيمة أهل البيت كلهم..
وقاطعه يقول :
- لقد تأخر الوقت، أنجبت منها زهيراً.
- لم يتأخر الوقت أبداً عن فعل الصواب.
- وماذا عن الوصية؟ أحتاج إلى الميراث كي أدبر أمر زهير.
- لا ميراث قبل الطلاق!
- متسلط كعادتك يركبك العناد وتفسد الأمور على إثر هذا.
وصاح به بهاء الدين يقول :
- تحدث بتأدب مع أبيك..
اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات قصص
- ستحوز فدانين اثنين، وأما صابرين وهدى فلكل منهما واحد ونيف، هذا حين أموت.. وأما مقتنيات الذهب المملوكة لأمكم فسأوزعها بينكم بقسمة متساوية.
وصاح يوسف كالمتألم :
- إلهي ! كم أكره أن أمد يداي على مقتنياتها بعد رحيلها ! قاتل الله الحاجة..
وكان عابر يركب دراجة يتمشى بها بالغيطان فلما بلغ مبلغ الجالسين ترجل عن وسيلته، وصاح :" سلام عليكم.."، ورد اثناهما سلامه بسلام في هدوء وتندر، وعاد العابر راكباً ما قد ترجل عنه حين أمسى كالنقطة الصغيرة يبتعد رويداً رويداً في أفق رؤية الاثنين، وانفرجت الشفاه - إثر ذاك - عن قبول وتسربت ثمة قناعة بالقضاء والقدر،.. وتساءل يوسف وبهاء الدين في صمت كأنما وصلا إلى عين المعنى من سبيل تخاطر : "كيف يرحل من مات إذا ظل أثره في قلب من بقى؟"، وسر بهاء الدين بما طرأ على مسلك يوسف من تجشم مسؤولية العمل بمصنع الحديد، وذكر له شيئاً عن حقيقة أن الرجال يصنعون ولا يولدون، وأسعده أن يستمع لأخبار حفيد يشبهه ولو جاء من مصاهرة امرأة يروم ألا يقترن بها اسمه، وكان يوسف يقول :
- ريف موادع، وأناس طيبون..
ويجيبه بهاء الدين وهو يتذكر غدر جعفر وكيف نبتت الخيانة في بيئة الريف الموادعة :
- ما من مكان بمصر خير من الإسكندرية، إنها مدينة ساحلية غير أنها ذات نمط قروي هادئ، ولا تقدم كثيراً من الإلهاءات شاحذة قريحة المرء أن يتوغل في أعماق ذاته.
وكان يوسف يجيبه كأن كلاً منهما يصف ما ينقصه :
- إن الناس بالإسكندرية لم يعدودوا يشترون الزهور، إنها مفردات عصر جديد بتنا نعيش فيه سيمائه القبح والانكفاء على الذات !
ورحل يوسف عن الريف ومعه الحزن والذهب، واستوى فوق مقعد القطار فاستسلم لنوم يداري به وعياً يثقله، بدا أن رأسه يفكر طويلاً فيما طلبه أبوه منه من دعواته إلى مفارقة زوجه وفي فاطمة التي تجسمت له في إحدى أحلامه تبتسم على سرير تتحلقانه صابرين وهدى، وبكى أمه حتى لفت إليه انتباه المسافرين فشرعوا يواسونه على جهلهم بأسباب محنته،.. إنه ضرب من المشاركة الوجدانية يتسم به الناس في حيّنا، ينبع من اللطف والفضول في أحيان ولا يلبث يستحيل في أحوال إلى تدخل متطفل في الخصوصية، وانقضت أسفاره فعاد إلى الإسكندرية - لا يزال - يجتر ذكرى ما وقع في أسيوط كأنما لم يفارق وجدانه مشهد الوداع غير مصدق، وفتح الباب وقد أسبغت عليه الحوادث ثوب الوقار الذي لا يليق به، وسألته عفاف في لهفة وهي تلحظ جمود وجهه :
- إلهي ! أهي مريضة (تريد فاطمة) إلى هذا الحد؟
وأظهرها يوسف على الحقيقة الغائبة فبكتها المرأة، وارتمى يوسف في أحضان زوجه كأنما هي - في عمرها المتفوق بسنين خمسة - ما بقى له من الأمومة في دنياه، وقال وهو يشير إل حلق وأسورتين :
- هذا الذي عدت به من أسيوط، جنباً إلى جنب مع الألم، وليت أني ما ذهبت !
ولمع بريق الذهب في مقلتي عينيها فجعلت تطلع إليه في توثب ورضاء، قال وكان يتوسد قدمها :
- إن أبي يحضّني على تركك !
وأمسكت بالحلق وكان على هيئة صدفة البحر الكلاسيكي، قالت :
- لقد بلغ به العجز حد الخرف والهذي !
واعتدل في جلسته المسترخية بعض اعتدال، وأهاب به شعوره أن يدافع عن أبيه أمام زوجه، كالمرء يدافع عما هو أسبق إليه عشرة وأقدم نحوه اتصالاً، قال :
- إنني ما طاوعته قط غير أني أأبى أن تنالي منه بنقيصة أو أن تتعرضي له بما يعيبه !
- آه.. كأنه المنزه عن الأخطاء،.. وماذا عن الفدادين؟
- إنه لا يرى الفرصة سانحة لتوزيعهم.
- ومتى تسنح الفرصة إذن؟
- قال بأنه سيهب لي فدانين اثنين وقتما يلبي هاتف الموت كفاطمة !
وأوعز إليه ذكر الاسم الأخير بأن ينخرط في البكاء مجدداً، على حين قالت عفاف غير مكترثة هذه المرة بحزنه في استهانة غاضبة :
- بربك.. هل يكفي زهيراً حلق وأسورتان؟ (ثم وصوتها ينخفض حتى لا يكاد يُسمع..) عجوز على حافة الموت يعيش في فدادين خمسة بينما أبناؤه في حاجة.. أهي مزحة؟
وهناك طرق الباب طارق فنهضت عفاف نظراً لانهماك يوسف فيما هو فيه، وفزعت لرؤية الطارق قائلة :
- تشارلي.. !
كان الضابط الإنجليزي الوسيم ذو الهيئة المقبضة المتفوقة في حال يرثى لها، انكمش بدنه وتهاوت بعض أسنانه وبدت عليه أمارات العوز المذرية، وأدخلت عفاف زوجها القديم في عاطفة جياشة، وأعدت له فنجاناً من القهوة وصحناً من حب الشمس، كان مشهد الضابط - لمن عرفه في مجده - مثيراً للشفقة حتى بالنسبة إلى يوسف الذي طلب إليه أن يستوضحه السبب فيما نزل به من بلاء، قال تشارلي :
- "إنها سلسلة من النوائب حلت بي تباعاً، أدركت أنه انتقام السماء، لقد قطعت أرزاقكما يوماً في مقهى الفنانين بيدين آثمتين، وجئت إليكما الساعة أكفر عن خطيئتي، لقد التجأت إلى كنيسة سان سابا وتعاليم السيد المسيح، وهناك وجدت بعض السلام والراحة، سوف أتقدم للرهبنة قريباً، هناك !".
وكشف تشارلي عن حقيبة من الأموال سوداء فوق مائدة البيت الرخامية وعليها ذاك المفرش المشغول - كشفها يقول :
- "إن هذا في الحق كل ما لي أهبه لمن عوقبت بسببهم،.. عسى أن يسامحني الرب في ملكوته..".