حين بزغت أنوار الفجر

الفصل الخامس : حين بزغت أنوار الفجر



كان الفتوة إسماعيل سيد الأحمد في الأيام الأولى التي أعقبت حركة يوليو عظيم الافتخار بإيوائه الضابط المصري أنور السادات، هذا الذي تلا على الأسماع بيانها المزلزل، فيقول :

- جاءني لائذاً يوم مقتل أمين عثمان فأحسنت استقباله وأبعدت منه العيون،.. ولو أن صحيفتي خلت إلا من هذه لكفاني !

على أن تغيراً قد طرأ بعد يوليو،.. كان ميلاد الفتوة مزامناً لبداية القرن السادس عشر على عهد سقوط دولة المماليك وضعف دولتهم، واليوم، وبعد قرون لم يعد للفتوات من مبرر وجود،.. ولأجل هذا كان الفتوة الجعب دون الأول استبشاراً فيقول :

- ستنتهي الفتوة قريباً وأقرب من هذين. (يشير إلى ما بين بنصره ووسطاه!)

وكان إسماعيل سيد أحمد ينكر عليه قولته فيقول :

- سيكون للفتوات دور على الدوام ما دامت بقت المظالم في حيّنا.

وفكر الجعب جدياً في الاعتزال بعد أن حُلت الأحزاب في مطلع العام الجديد (1953م)، وبعد أن فقد - لأجل هذا - دعماً كان يتلقاه من الوفد ومرشحه، كان يشير على تلامذته الذين يؤمّنون الزفات والأعراس أن يرفعوا عصيهم أفقية عالية إذا ما اعترضهم معترض، وكانت الأخيرة تعني - في عرف لغة العصا والفتوة - طلب المرور بسلام وهدوء، وتوارى نفوذه (الجعب) سريعاً كأثر بعد عين لفقدانه شغف السيادة فغلب فتحي العطار مدعوماً بالإنجليز جاثماً على أنفاس الحي الشعبي ومن فيه، ويوماً جاءه نفر من المشتكين له من سلطة الأخير يقولون :

- عهدنا عنك وعن تلامذتك أن ترفعوا العصا تمسكونها بكلتا اليدين في عزة وفخار، ترفعون رؤوسكم، وتفتحون صدوركم، وتتجشمون الصعاب الكأداء،.. وأما اليوم فما أتعس مشيتكم المتخاذلة ! أين ذهبت حمية الفتوات في حيّنا؟ أنسيتم يوماً شارك فيه أسلافكم في ثورات القاهرة ضد الفرنسيين؟

وكان الجعب يقول بينما يتولى إلى الظل :

- كان هذا كله من الماضي التليد، وأما اليوم فقلب عاكف ويد واهنة وشغف منتهٍ..

وهنا يتطوع آخر فيقول :

- ما خطبك؟ أن تكون جندياً عاملاً خير لك من أن تكون جنرالاً متقاعداً، عجمنا العيدان عوداً عوداً فلم نجد أصلح منك ولا أصلب، خليق بالفتوة أن يقف في وجه فتحي العطار ومن شاكله، لقد سدر في غيه حتى أعماه الغرور، وقد كان النيجرو أول من يتصدى لمثل تجاوزاتــ..

وقاطع محدثه وكان جسده قد انكمش لكبره :

- إنني دون النيجرو في كل شيء، كان بطلاً لا يُغْلب، شجاعاً لا يُطاق، ولا يُصطلَى بناره.. ولا أعود إلى ميدان تركته حتى استرد عزيمتي فعافيتي !

وطال بين الطرفين النقاش دون أن يثمر عن تعديل في مسار الفتوة المتزهد، وإن لم يقنع الخلائق بما آل إليه حال الرجل فتعلقوا بالأمل في رجوعه.. ويوماً كانت صابرين عائدة إلى بيتها فاستوقفها نفر من أهل الحي يتهامسون كأنهم المنتظرون لها منذ أجل، وقالوا لها في انفعال كالصرخة :

- إن حل المظالم كلها بين يديك !

وارتاعت الفتاة لرؤية هذا الحشد الغفير من أهل الحي يعترض مسار عودتها، فصاحت في شيء من فزع :

- أفسحوا الطريق،.. إني أريد العودة إلى الديار بسلام !

ونفذت من بين جمعهم كما يتسلل الماء من أضيق الفجوات، على حين رماها أحدهم يقول بصوت مسموع :

- إنكِ إذا اقنعتي الفتوة الجعب أن يخوض غمار المعركة بعد اعتزاله أعدت إلى حيّنا الأمان !

وصعدت مجتهدة ألا يحملها اضطراب شعورها على إبداء ما يمكن أن يلتقطه زوجها فيحمله على الغضب منها، وجعلت ترقب جمعهم من عل شرفتها وقد أفادت من خلوتها إلى استجماع جوارحها.. وكان يوم الغد قد طرق جمع أكبر من البشر أبواب الفتوة المعتزل، وفتح الجعب الباب فامتعض لرؤيتهم يقول بينما يجتهد في أن يميز صورهم الغائمة في رؤيته المشوشة :

- إن موقفي لم يتغير عن يوم أمس،.. ما بالكم تلحون على شيخ ضعيف، تكلفونه تكليف الشباب ؟!

ودفع تيارهم الجعب عن عتبة الباب فكأنما سكنوا ديار الرجل عُنوة، وسرعان ما افترقوا إلى شريطين كأنهما تياران من البشر فلما انتهوا ألفى الجعب آدمياً في قلب الحشود تجلى، فاهتزت له أركان نفسه واضطربت دولة باطنه، وميزه ببصر ضعيف وهمس في جرس حافل :

- صابرين !

وعجب لحضورها فرنا إليها جاحظ العينين مدققاً على حين ساد الصمت أرجاء الجلسة، وأطلعته المرأة على رغبة أهل الحي في إعادة ميزان العدالة إلى الاستواء، تسله أن يلبي ما قد تواضعوا عليه، واكتسب المطلب المعروف أصداءً جديدة في نفس الفتوة حين حمله لسان الفتاة الحسناء، ولكنه عاد متردداً فقال له واحد :

- لقد أنقذتك صابرين يوم نزالك مع الغلأ، رأينا هذا جميعاً، وشهدناه شهود الرائي للشمس في آخر الإبكار،.. ما كان للحصان أن يغامر فيفعل ما فعل لولا أنه لبى مطلباً منها،.. وآن لك أن ترد لها الدين !

وكانت صابرين تردد :

- لا أريد بطشاً ولا عسفاً،.. إني أروم العدالة !

وقال من المتحمسين واحد :

- إن بطشاً بفتحي العطار وعسفاً ينزل به يكون عين العدالة !

وقال الجعب في حماسة انتقلت إليه :

- ستكون هذه آخر معارك فتوات الإسكندرية وأجلهم مثابة !

وتجهز الرجل مع عصبة من الفتوات، وأعدوا ليوم الثأر عدته، وفي ظلمة الليل الساجي تسللوا إلى وكالة العطارة المملوكة لفتحي، وكانوا يرومون إشعال أجولة العدس والأرز والكركديه، على حين جنح نفر من المهاجمين لسرقة ما أمكنه أن تطوله أيديهم.. وأطلق الحرس الإنجليز النار حين وعوا بالأمر على حين هوت النبابيت على الرؤوس فانتصرت الثانية على الأولى لكثرتها واستبسال حامليها، وكان فتحي العطار مشغولاً بين فرز وتخزين فلما سمع ضجة الاشتباكات رام الهرب، وكاد يتحقق له ما أراد لولا أن الجعب كان ينتظره لدى الباب، فقال :

- رعديد كما كنت دائماً،.. ومن شب على شيء شاب عليه !

وقد قميصه من قبل فرفع صاحبه حتى أسلمه للأرض، وهوت سبحته فانفرط نظامها وتبعثرت حباتها،.. وبزغت أنوار الفجر فجعل الجعب يصيح كأنما نطح رأسه المتشامخ وجه السماء :

- إنها نهاية الإنجليز، وأذيال الإنجليز،.. اليوم، وليهنأ النيجرو في قبره !

اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات قصص


وفزعت صابرين من منامها حين سمعت الصياح وقد وعت شيئاً مما وقع، فهبطت إلى الشارع تقول للفتوة على كثب من دماء تنزف :

- وارحمتاه له ! فلتدعه، إن هذا يكفي..

ومنذاك اليوم وبعده انتهت سطوة فتحي العطار وانكسرت بالحي شوكة المحتل، وألزم الجعب نفسه التواري والانزواء بعد أن ظفر بمعركة أبقت سيرته على ألسنة القادمين كمعارك النيجرو الخرافية، وتبددت رغبته في التملك حين حاز الشرعية الحقة،.. وعلق على بيته لافتة من القماش كانت تظهر فيها صورة الرئيس الجديد محمد نجيب بعينيه الساهمتين الضيقتين، وأنفه الأفطس، وشاربه الصغير، دُون عليها :

- تحية من فتوة غيط العنب، وجبل نعسة، والكارة، وباب سدرة،.. إلى فتوة مصر (يريد نجيباً) !

ومكث أياماً في عزلة شاملة عن مسارب الحياة، وسلخ أوقاتاً طوالاً من الاختفاء على هذا النحو، يستأنس الخلائق بحضوره دون ظهوره،.. حتى كان يوم تجرأ خليل (بائع الفول) على السؤال عنه يريد أن يتفقد خبره، وقالت بائعة الجبن الجالسة قرب الباب، وكانت تضع على هذه الحصيرة حليباً متجبناً :

- إنه لا يحب الزائرين خصوصاً بعد أن ذبلت قناته، وبلغ من عمره عتياً،.. (ثم وهي تلف الحصيرة فتضغط عليها جيداً حتى تتخلص من الماء المتبقي..) إنه يريد أن تظل ذكراه متعلقة بأكثر معاركه إشراقاً،.. أوصاني بمنع الراغبين في زيارته ما خلا واحدة !

- ومن تكون سعيدة الحظ؟

وتطلعت وهي قعود إلى عقار بهاء الدين، بينما يقطر الحليب من يدها :

- إنها صابرين ابنة بهاء الدين،.. طوبى لها من فتاة دمثة نقية !

ودلف خليل إلى داخل البيت بغتة فارتاعت البائعة ونهضت عن أرض السبيل، دلف يقول :

- وما يشين المرء في أن يهزل أو أن يشيخ؟ من المهد إلى اللحد تمضي حيوات الآدميين جميعاً،.. أريد أن أرى فتوتنا وأن أقبل رأسه !

وجعلت تغمغم وهي تلحق به :

- ستقضي على سمعة حيّنا برعونتك !

وتفقد خليل حجرات البيت جيداً فخرج دون أن يعثر على أثر للفتوة، واستقبلته بائعة الجبن عند خروجه تقول كالمتنهدة المقرة بحقيقة :

- لقد مات الجعب منذ مدة ولم يشأ أن تكون له جنازة، لقد أودعته الثرى بيدي هاتين إلى جوار رفيقه (النيجرو).. لقد آثر أن تكون ذكراه حاضرة على الدوام من أن يكون له يوم ينساه الناس من بعده، وقال إن جنائز الحي تحفل بالمنافقين. (ثم وهي تمسك بأذنه..) لا تطلع مخلوقاً على السر فتضيع هيبة حينا وتعود تثور فيه المعارك !

وأبدى خليل انصياعاً زائفاً وهو يعود يجر عربة الفول، وكان الرجل من الوشاية حتى أن الخبر انتشر كالنار في الهشيم حين حل الليل، وعليه، خرجت في الحي جنازة رمزية بنعش فارغ من الجثمان، وأما صابرين فجعلت ترقب مسار المشيعين السائرين بالصندوق الخشبي الفارغ تتذكر أيامها مع صاحبه،.. وكان فتحي العطار فصلاً في كراهية الفتوة، فجعل لنفسه موقعاً على حاشية الطريق يقول :

- أحقاً تشيعون الفتوة المقبور؟ إن اليوم يوم عيد وسرور !

ومكث في شغبه زمناً حتى لاحت صابرين وكانت تنشر الغسيل وتضع للحمام الحبوب في صحون نحاسية دائرية صغيرة فيهرعون إليها - ورمقها بنظرة من إجحاف وغبن،.. وقال منادياً يصب عليها نقمته :

- أوعزتِ إليه بأن يخرب الوكالة وبأن ينهب وحرافيشه ما فيها من أجولة،.. الويل لنظرتك البريئة الكاذبة ! إنك ابنة بهاء الدين غير أنك لم ترثِ من محاسنه قليلاً ولا كثيراً.

وكادت المرأة تجيبه لولا أن جللها أن تنادي على غريب في محضر الحشود السائرة فدلفت إلى الداخل كمن يتقي مجذوباً منفلت الزمام بالابتعاد منه في سبيل فيتقبل أذاه دون رد، وإن جعل فتحي العطار يهذي مواصلاً ما بدأ فينتقل حديثه إلى قطاع أكبر :

- ولو أنكم أنصفتموه لأحرقتم جثته ثم أخفيتم رمادها، وجعلتم من سيرته عبرة لمن جاء بعده، إني أبصر هذا النفاق في عيونكم فأقشعر منه ازدراء ومقتاً !

وبزغ من وسط الحشود واحد فقال في هدوء حكيم :

- إنك تسيء لسيرة أبيك عيسى حين تفعل ما تفعل.. إن للموت رهبة ولا يشمت بالأموات إلا عليل النفس سقيم.

وقال فتحي العطار :

- كان أبي شيخاً لحارة من المنافقين ! أيرضيك أن تخرب وكالتي بأيدي من تحتفون بوداعه؟ من الفقر إلى الثراء قفزتُ، ومن الثراء إلى الفقر أهبط، كيف لا يجن جنوني؟!

وقال محدثه :

- سيعوضك المولى جزاء صبرك..

- ليس قبل أن أفسد جنازة مجرمكم المكرّم !

وسارت الجنازة إلى أن بلغت قبري النيجرو والجعب - رغم محاولات فتحي العطار العابثة في صدها - فعصفت بالقلوب رهبة الزوال، وقال عجوز منهم معتبراً بينما يمضي المسير الجنائزي في سبيل يقوم على جانبيه صفان من الأشجار في استواء :

- هذا لأن الدنيا لا تقف على حال،.. إنها أيدي الحدثان والصروف تنال من الجميع.

ورمى الرامون اثنيهم بأنواع من النبات شتى حتى أورقت رفاتهما بماء العرفان، وأما صابرين - وكانت قد قصدت إلى مقابر العَمُود في مساء اليوم - فرمت زهرتين من القرنفل وخُيل أن طيفي الفتوين يتبسمان لها.. وتجهزت السواعد للمعارك الصباحية المعتادة كيما تحدد خليفة الفتوة المائت دون أن تفصح عن اسم، كانت سلطة البوليس المصري قد قويت فبات يتعقب أصحاب النبابيت، وعدم الحي على اتساعه من ساحة نزال، وأعاد الإنجليز لصديقهم الموتور (فتحي العطار) شيئاً مما قد فقد،.. فألبسوه لباساً جديداً من النعمة وإن ظلت خسارته - يوم الهجوم على الوكالة - شوكة في حلقه، وتخلى الرجل إلى غير رجوع عن محبة الفتاة التي تسببت في حض الفتوة على الإضرار به، وكان يسمعه أهل كرموز يقول وحوله نفر من العسكر ببنادقهم :

- إني شيخ الحارة رغماً عن أنوف قاطنيها !


فيركبهم الضحك ويتولون عنه.