U3F1ZWV6ZTQ2MTMzMDkyMjMyOTgxX0ZyZWUyOTEwNDc0Mzc0ODg0Mg==

نوستالجيا الماضي وليالي الأنس في فيينا

                                           الفصل التاسع: نوستالجيا الماضي وليالي الأنس في فيينا




1978م..

غلبت إرادة عبد القدوس على إرادة ذهب في تحطيم التمثال الملائكي، كان ذهب ناقماً على شريكه تورطه فيما بدا له حماقة لا ضرورة لها، وقد ذكر شيئاً عن نفسه التي "لا تطيق رؤية الجمال المحطم"، ولكن آصرة المصلحة بين الرجلين كانت أقوى من الغيمة العابرة، وأسدل الستار على الأثر الرخامي في ليلة امتلك فيها الرجلان المتناقضان أبهى فيلل لوران، وجيء بخادمة فيتنامية لتنهض بتلبية حوائج الرجلين فاستهلت عملها بأن تخلصت من حطامه المنثور،.. على أن ذهباً - متأثراً بالحادثة العابرة - شعر يومئذٍ أن انتقاله من موقع الخادم إلى الشريك ليس إلا وهماً زينه عبد القدوس له كيما يستفيد منه في مسائل التجارة التي كانت تشق عليه، وأن الحرية الكاملة التي خال أنه انتزعها يوماً لم تكن إلا زيادة في مساحة الدور الذي يستطيع أن يؤديه، وزاد من شعوره هذا ما بدا له من إهمال الثاني له في كثير من الأمور المهمة المتعلقة بتجارة العملات، وما جره هذا من خسائر حاقت بالرجلين على السواء.

 

 كان عبد القدوس كثير الصلوات، كثير التعبد، وحين يهبط إلى ساحة التجارة لا يعود بمقدوره الفصل بين ما هو قدري ديني وبين ما هو عملي نفعي،  وحدث أنه إذا رأى رؤية من الرؤى - يبصر فيها على نحو مبهم من يحذره أو ينصحه - امتنع عن التجارة في يوم ربح، أو إذا هو رأى أخرى من المنامات المستبشرة انكب دونما روية على المغامرة في يوم خسارة،.. وأما ذهب فهو المُنظِر الكسول ما خلا شغفه بالثروة والاستحمام، لقد تملص من كل واجب - حتى رعاية ابنه منير -  وصنف نفسه ماركسياً رغم الثروة التي كان يشارك التنعم بها - ولو على نحو ظاهري - مع عبد القدوس، كان وئاماً غريباً بين الرجلين قشري الطابع من وجوه، وطيد الأركان من وجوه أخر، كأنه البرج الهائل تشي دعاماته المتينة بطول عمر ولكن ميله الواضح لا يخفى على ناظر، وقال ذهب لشريكه في يوم منيا فيه بأكبر خسائرهما :

- كان يتوجب علينا الانسحاب مثلما نصحتُ لكَ..

وقال عبد القدوس :

- ما أسهل ادعاء الحكمة بأثر رجعي ! (ثم في نبرة إنجليزية هي في مستوى الطالب الثانوي المتوسط ينبذ معها ماضويته واستمساكه بكل ما هو تراثي..) the hindsight 's perfect (النظرة الخلفية للأمور تكون مثالية، والمقصود : أن المرء بمقدوره أن يتدارك الزلات بعد إذ هي وقعت من موقع الراصد، على نحو أفضل له من أن يتفاداها قبل وقوعها من موقع المتنبئ)

وأجابه ذهب يشرب كأساً فيطلق الخمر لسانه :

- سأُعد نفسي حكيماً إذا لم يكن الأمر على هذا الوضوح، لقد ارتكبنا حماقة لا يؤيدها إلا هلاوس خالصة في رأسك.

وقال عبد القدوس :

- ألا يكفيك ما نشعر به من ألم الخسران؟ سيكون من المازوخية أن نجلد ذواتنا أكثر. 

ولكن ذهباً لم يبالِ قط بحديث الآخر، فأردف :

- حطمت التمثال ولم يعوضنا هذا بجبال من العسل والذهب..

وقال الآخر في لحظة غضب يمسك بها بين موجات شعوره باليأس والحزن لا تدري أتنسبها إلى الحقد أم إلى العزم :

- كنت لأحطم الصنم الكريه ولو قدر لي أن أقف أمام عين القرار ألف مرة..

وساد صمت، شعر عبد القدوس برغبة - لأول مرة - في الشراب المسكر، وكان يحدث نفسه :"إنه لذو لذة قوية ومتعة عزيزة المثال ولا ريب، وإلا لمَ منعه التشريع الإلهي الإسلامي على مراحل، وجعله متعة إلهية يحوزها المؤمن بالجنة.."، وقبض على زجاجة الخمر التي كان يسكب منها الآخر فشرب من لدن فوهتها حتى هتف به صاحبها على حزنه وثموله :

- ها قد أفسدت الزجاجة كما خربت التجارة..

في عين الأثناء كان طه يجتمع مع أسرة نعيم في حلواني «أتينيوس»، أحب الرجل (طه) - المغرم بالثقافة اليونانية - طبيعته التوثيقية، كان يبرز رمز الكأس بين جدرانه، ثمة غرفة خاصة ملحقة بها عواميد يونانية، وأما جدرانه فتروي سيرة الإسكندر على حصانه، قال مما قال :

- إنه العلم الزائف :  pseudoscienceمن الجذر اليوناني (pseudo)، أي "خاطئ"، يُعنى باختطاف مفردات العلم الرصين كيما يقحمها في سياقات تخدم أغراضاً زائفة، إنها صناعات على أوهام، تحت هذا البند يندرج في بلادنا : الطب البديل، التداوي بالأعشاب، الرقية الشرعية، وحتى هراء بعض كتب التنمية البشرية، بعض البشر في بلادنا مغرمون بخداع أنفسهم والآخرين كيلا يبصرون حقيقتهم القاصرة، ولئلا ينقلوا إلى مستمعيهم أخباراً سيئة فيصيروا إلى عزلة فزوال، إنهم يعيشون  فيما يشبه "جنة الأبله" فيبرزون وسط مجتمعنا كيما يرددون ما قد تشبعت به الثقافة بالأساس، يلوحون كأنهم دعاة جدد لما يرضى عنه متوسط التفكير للعقل الجمعي، لا يضيفون إلا مزيداً من أمثال ما هو قائم، ولا يحذفون إلا ما قد يضر بالمثالية المتوهمة والمجد الغابر، إنهم يتمعيشون من وراء هذا الهراء، وهنا يغرق المجتمع في حلقة مفرغة لأنه يدمن الاجترار الذي لا يعود عليه بالنفع المأمول، ولشد ما يكون الضرر جسيماً أكثر حين تكون القيم السائدة متخلفة عن واقعيات الحضارة المعاصرة، هناك يستحيل المجتمع إلى ما يشبه القبيلة المعزولة في الغابة النائية التي قصرت المدنية الحديثة عن الوصول إليها !

وقال الرجل الذي بدا غير متحمس للاسترسال أكثر في شؤون الثقافة، كدأبه حين يجيء بمقتبس من هنا أو هناك فيورده في خضم تحليله لواقعيات الحاضر المعاصر، فيقول عائداً إلى الموضوع الحيوي :

- يؤسفني أنني كنت سبباً في خروجكم من الفيلا التي تعلقت بها مهجكم،.. إنني أجيء إلى هذا المقهى متى ألم بي يأس تام، كيأس اليوم..

ثم وهو يخلع نظارته :

- لقد أقمت عرسي في قاعة أفراح «أتينيوس»،  إذ أذكر أنني أبصرت في سقفها ماء ذهب وكريستال بلجيكي، كانت الأعمدة مصرية كلاسيكية لها طابع مقدوني افتتنت به دائماً، وأما الثريات فإلى العام 1900م يعود تاريخها، كنت أرقص في سرور من لا يعرف المستقبل،.. تدهور كل شيء في المدينة ولم يسلم «أتينيوس»، أين مدينة شيكوريل وعائشة فهمي وسباهي وقصر تمفاكو وماجستيك، ومثلهم من سواهم؟ بقى لي ذكرياتي عن جلسات الشاي هنا في الخمسينييات رفقة صحبة رحل أكثرها عن هذا الوجود..

وحاول نعيم أن يرفع من معنويات محدثه فراح يأذن لمنير أن يتحدث وقال الطفل الأسمر قولاً أزعج عارفاً :

- سأعود أمتلك الفيلا التي طُردت منها، أبي قال لي بأن القدر اختارني كي أفر من بيوت الدوكسيد في النوبة لأعيش في فيلل الإسكندرية.

وأطلقت عبارة منير الجلوس بحماسة كبيرة، وعاد نعيم يسأل أباه:

- ألم تذكر لي أن ثمة من كان حافي القدمين من فرط حاجته في الإسكندرية الملكية؟ وأن عامة الشعب كان بعيداً من "ليالي الأنس في فيينا" التي يحاول بعض المتحمسين بإحياء نوستالجيا الماضي إضفاءها على فترة نخبوية.

وأجاب الرجل :

- من طبائع الأمور أنها تفسد حين تنتقل من فئة مخصوصة تديرها إلى عوام الناس، والسؤال الصحيح ليس هو : كيف ينعم "ملح الأرض" بنعمة الثروة؟ ولكن كيف تخلق نظاماً عادلاً تكون فيه سبل الارتقاء ممهدة غير معطوبة على نحو يكون فيه لمن اجتهد نصيبه؟

فلم يكد يتمها حتى أحس الرجل دماءً فوارة تُضخ في موضع فؤاده فأمسك به..

 

في سموحة..

عقد مراد زواجاً عرفياً بتهاني مخافة ما قد ينجم عنه انفراد أخوتها بها، اتعظت المرأة بإجهاض وليدها من زكريا قبل أن يطأ الحياة، تجهمها حاضرها فرضيت بالحل الذي عرضها عليها مراد على ما بدا لها فيه من مجافاة للحس الأخلاقي السليم، وأصرت على دفن المولود الجهيض فغطت حفرة قبره بصفائح من المرمر المستطيلة الثقيلة في ليلة باكية، وكان يحدث أن تقول لمراد :

- قد أفسدت قصة الحب الرائعة العابرة للسنيين والحوادث بزواجي بك (تريد قصته مع أميرة)..

 وقال لها في شيء من تكلف وخبث يخفي بهما غرضه الحقيقي :

- بل دعاني داعي المروءة فلبيت نداءه.. ماذا يفعل الأسد إذا هو رأى جماعة من الذئاب يستأثرون بغزال في مملكة له؟

وقالت :

- ذكرت المروءة ولم تعرج إلى الوفاء..

أنهت المرأة قولتها ثم لاذت بالصمت كأنما آثرت أن تستمع إلى صوت نفسها دون أن تحاوره، وأما مراد فقد حاز لقاء حماية المرأة شيئاً من ثروتها كالفتوة يحمي حارة لقاء جباية يجمعها من أهليها، كان يزعجه حديثها هذا إذ هو ارتأى في الزواج بها صفقة رابحة من كل الوجوه، وبخلاف ما أظهره الأخوة من لدد العداء له، وما حمله هذا على مجابهة شرهم غير ذات مرة بالقوة القاهرة أو بالتهديد المنذر، فقد أمسى بوسعه أن يطلب المزيد من "زوجه" بعينين غير كسيرتين، ودون أن تثور التساؤلات عن حيثية الرجل الذي يدافع عن المرأة الغريبة ويقصد في تواتر وبغير ذي صفة بيتها، وسألها :

- ماذا تريدين؟

وقالت فيهتز الخرز في فستانها الحريري الأبيض الصيني، ذي الغزالين :

- إني أروم الإشهار الذي يرتاح معه ضميري !

وقال لها :

- فليذهب اعتراف من لا شأن لهم بالأمر إلى درك الجحيم. 

- يكفيني اعتراف واحدة..

- بمقدور حياتي مع أميرة، وحياتي معكِ أن يستقيما ويستمرا دون هذا.

- ليس هذا زواجاً يليق بامرأة تحترم نفسها، أنت تحميني وتأخذ مقابل الأمر دون أن يكون بيننا ود الزواج، ألا إن مكب القمامة لو صبغته بألوان الطيف، سيظل من جهة المنظر والرائحة مكب قمامة !

وطرق الباب فلما فتحه مراد ألفى قبالته أدهم فعبس وبسر، وقال :"بئس الزائر المنبوذ يجيء في شر وقت !"، وقال له الآخر :

- جئتك نادماً لا معتدياً،.. ذرني وأختي..

تفحصه مراد ملياً، يتذكر حقيقته النقية التي لوثتها مصهارته بالعشيرة السيئة، وقال بصوت أريد له أن يعلو لكنه ينتهي هامساً كحركة شفتين لإنسان لا حبل صوتي له :"فلتدخل.."، ابتسم الأخ حين دخوله كأنما يخطب ود من يترقبونه، لا تزال تهاني تكن له الازدراء، لم ولن تغفر له تورطه في قتل وليدها، وقال يمسك بنقي في نفسه يستهل به حديثه،  وكان فضاء البيت مشبعاً بالغبار يكشفه ضوء النهار كالأثير :

- نبذت أخوتي حين اهتديت إلى ضلالهم، أختي..

وقالت قاطعة :

- ليس لي أخوة..

وقال مراد في حكمة تسوق الأمور إلى مصلحة في نفسه :

- رويدك، اعتذار متأخر خير من لا اعتذار.

وقالت تهاني لمراد :

- كف عن التحدث بلساني،.. ما هو إلا ضليل ! أعتقدتهم (أي أخوتها) حملان مسالمون فإذا هم يطعنوني بالحربة في جنبي !

وجثا أدهم على ركبتيه إزاءها يقول :

- ماذا عساي أن أفعل كي تغفري جُرمي؟

وقالت فيما تتحرك عيناها بدمعة :

- فلتذهب إلى قبر من قتلته وأخوتك في بطن أمه، ولتنزع صفائح المرمر عن رفاته، ثم ولتعيده إلى حياة.

ونهض أدهم عن حالته بعض نهوض متأثراً بالمستحيل الذي عرضته عليه، فكأنما رده إلى عقلانية تناسى معها عاطفته وما كان مقروناً بها من استجداء الصفح :

- وإذا أنا عجزت عن هذا؟

وقالت متجهمة ترغب عنه :

- إذا أنت عجزت عن هذا فلا صفح لكَ عندي..

واستكمل الأخ نهوضه فعاد إليه حين وقفته شيء من الندية، يقول :

- أتحسبانني غافلاً عن أمركما؟ سأظهر أميرة على الخفي من زواجكما إذا أنتما نبذتماني. 

وقالت تهاني :

- حينئذٍ تكون قد أسديت خدمة إليَّ، ما أنتِ إلا نسخة من أخوتك ولو هبطتَ إلى هناك معتذراً (تشير إلى الأرض).

وقال أدهم :

- إنني أنشد صفحِك، وأما هم فينشدون ما لديك من نعمة.

كان مراد في اضطراب حقيقي، إذا وشى الأخوة الثلاثة بمسألة زواجه بتهاني إلى أميرة فسيقع ما لا يحمد عقباه، إنهم لن يدخروا وسعهم في الوشاية به، وإذا علم أدهم بنقطة الضعف هذه فلا ريب أن أخوته عالمين بها أو هم سيعلمون بها، ما طلاقه من تهاني إذاً إلا مسألة وقت، وسأل أدهم كأنما يمهد لما في رأسه :

- هل أنت قوي كي تواجه أخوتها في غيبتي؟






 



 اقرأ أيضاً : 

الفصل الأول : الحقيقة المستورة
الفصل الثاني: الانتقام ممن لا ذنب له
الفصل الثالث : ليس في حياتي ما أخفيه
الفصل الرابع: قفص من ذهب ! 
الفصل الخامس : ما لا نبوح به
الفصل السادس : فراق بيني وبينكم
 الفصل السابع: مشكلة بسبب كتاب قصة الحضارة
الفصل الثامن: كدت أفقد الأمل في لقياك
الفصل العاشر: حوار على مقهى إيليت
الفصل الحادي عشر: ما بعد عهد الصبى
الفصل الثاني عشر : ها قد ذقتُ من كأسك
الفصل الثالث عشر: لقاء على أجراس كنيسة العذراء
الفصل الرابع عشر: في مقابر الجالية اليونانية
الفصل الخامس عشر: نقاش عند حلواني ديليس
الفصل السادس عشر: التهرب من السؤال الصعب
الفصل السابع عشر: لم يعرف جفناها معنى النوم
الفصل الثامن عشر: ملاحظات على أنغام كسارة البندق
الفصل التاسع عشر : صنعت بي خيرا
الفصل العشرون : أخلاق المجتمع
الفصل الواحد والعشرون : قل للذي قد لامني.. دعني وشأني يا عذول
الفصل الثاني والعشرون : الحياة في حي وادي القمر
الفصل الثالث والعشرون : وددت أن أراك حقا



تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق