روايات وقصص، استمتع بأفضل روايات الرومانسية وروايات الرعب وروايات التاريخ في موقع واحد.

روايات وقصص، استمتع بأفضل روايات الرومانسية والرعب والتاريخ والخيال العلمي والبوليسية في موقع واحد،

عشرات القصص المثيرة والحكايات في انتظارك.

2024/11/03

صراع في كنف الغروب

                      الفصل العاشر: صراع في كنف الغروب





في أبي تيج..

كان الشيخ حمروش قد جعل يشرح لتلامذته درسه الديني في لطف الغروب، فابتدأ بإيضاح المبهم لمعاني السلم للدمنهوري، ثم عرج إلى الشرح الموسع للبيجوري (الحاشية) في بعض المسائل، وأذن المغرب في مسجد القرية وانبسط الصوت الرخيم بمقامه البياتي إلى كل أذن فاختتم المعلم الشرح يقول :

- أوصيكم بمطالعة «حاشية الصبان على الشرح الصغير للملوي على السلم المرونق» أيضاً، وشرح القويسني ومنه تشتفون ما غمض في غيره  وما التبس من وجوه الحقيقة،.. فإن لم تفهموا من كل أولئك فإنكم غير أهل للتعلم، ولتعودوا إلى بيوتكم..

وسأل الرجل عن تلميذه عبد المجيد الذي لم يحضر قط دروسه الفائتة، قتوقف ولا يزال عن رؤياه في حلقته قرابة العام، وقال حين علم من التلامذة بانقطاع خبره :

- تالله إنه (أي عبد المجيد) لا يصلح حتى طويلب علم، إنه أعجز من أن يعرب البسملة وفي الرحمن ستة إعرابات،.. ومن أراد التعلم دون الكدح كمن رام المستحيل !

وقاطعه من التلامذة واحد يقول :

- لعل شدتك في إنزال العقاب حملته على الانصراف عن درسك..

وقال حمروش :

- من لم يوقر العالم لا يستحق حلمه، كقول الإمام الشافعي، وأول منازل التوقير هو الصبر والطاعة.

ثم نهض كيما يتوضأ من بركة الماء الآسنة التي كانت تربض تحت غيوم يصطبغ لونها البنفسجي الداكن بحمرة تستقي من الغسق وهجها، وإن بها طحالب يلوح خضارها عبر الوسيط السائل، وأخذ يجهر بحديث النبي محمد :

- إن الماء طهور لا ينجسه شيء..

وهم بالوضوء فغسل الشيخ كفيه وساعديه وخلع عمامته كيما يمسح على رأسه، وتركها (العمة) على حافة أشفت على بركة الماء، فزلت عن حالتها وسحبها التيار، وانتهى بها المطاف إلى أن استقرت لدى المنتصف من سطح البركة لا تبلغ لها حاشية أو طرف كأنها القارب المستقر في عرض الماء، وانقطع حمروش عن الوضوء في انزعاج فهتف بتلامذته يقول :

- من منكم يأتيني بها وله عندي خير الجزاء..

وتهَّيب التلامذة أجمعين من الولوج في هذا المسطح الآسن، فما كان من الشيخ إلا أن هتف يقول :

- حقاً، لا تخرصاً ولا ظناً : لا نفع فيكم..

وخلع الشيخ مركوبه فلَجّ القوم وهتفوا بتصرفه مشجعين، ومضى حتى زلف من هذه العمة المتهادية فكان أن بلغ الماء منه مبلغ الركبة أو نحو ذاك، ومد يده يستعيد عمامته البيضاء تلف في قلبها هذا الطربوش الأحمر (وإن وهنت طاقتها - أي العمامة - في إحاطته - أي الطربوش - بتأثير وجودها في الماء السائل)، ولكن الرجل (حمروش) بوغت بيد تسبقه إليها، وذهل من رؤية تلميذه السابق عبد المجيد يقول :

- آن للقرية أن تتطهر من شرورها كما تتطهر هذه البركة من زبدها..

وصاح به الشيخ في غضب :

- فلتنزع يدك عن عمامة أنت غير جدير بشرف وضعها، ولتعد إلى حلقة الدين عسى أن تسترد بعضاً مما فاتك من العلم، أيهذا الهمل المجترئ..

وأجابه عبد المجيد جواباً أربكه :

- ما أنا بتلميذك قط وما ينبغي لي..

وسأله في استخفاف :

- ومن تكون إذاً؟

 

وقال عبد المجيد وهو يأخذ يشير إلى بوابة بيت تسنيم المغطاة بسعف النخيل وفروع الغار التي كانت تلوح بتكوينها الكلي المتطاول كنقطة صغيرة بعيدة من وراء ما يشبه السراب :

- إني نصير هؤلاء، ونصير الحق قبلهم..

ونظر إليه الشيخ في ازدارء يتكلفه، وكان يبدو متصنعاً في كل انفعالاته كأنما لم يمضِ على فؤاده معنى الصدق، يقول :

 - استأجروك كيما تهين شيخك؟ ورأس الحسين إنك لفاسق مارق..

وعلا صوت عبد المجيد يروم أن يسمع القاعدين من التلامذة فيحرضهم على خرق هذه السلطة المعنوية للشيخ :

- نشرت الخوف في ربوع القرية الآمنة، كنت عصا رضوان الكريهة، لوثت هؤلاء (أي التلامذة) أيضاً بأوزار ما أنزل الله بها من سلطان..

وقال حمروش يعيد على الأذهان ذريعته في بث الفوضى :

- بمقدورك أن تدعي أني فعلت كل أولئك أو أن تزيد عسفاً، ولكنني لم أعامل شحاذاً بالجفاء الذي يقتله من الحاجة، ولم أتورط في نظير ما تورطت فيه سيدتك (أي تسنيم) من عظيم الأجرام.. 

وأجابه عبد المجيد كأنما رام ألا تكون للآخر الغلبة في الحديث :

- ما أنتَ إلا أحفورة حية، أشبه بمن خرج من دهاليز لا تعرف سير الزمن.

ونازعت يد الشيخ المترهلة يد عبد المجيد المتراخية فخطف الأول عمامته ومضى يخرج بها من وسط الماء، حتى إذا أتم الأمر أو كاد قال وهو يرفع ما في يده :

- هذه عمامة الأزهر ! لقد أهان المأفون عمامتكم، من منكم يأتيني به..

وكان عبد المجيد قد تبع مسار الشيخ فداهمه بضربة أصابت أسفل عنقه، وخر الجسد العجوز أمام التلامذة الذين أخذ منهم الذهول كل مأخذ، وقد بدا أن الرجل (حمروش) لم يكن حوله حواريون مخلصون أو أتباع أوفياء، فجعل عبد المجيد يهتف بهم يقول :

- هلموا، فلتحملوا جسده معي..

 

   اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات


في لوران ومانارولا..

كان منير قد هرع إلى حوض السباحة مستنقذاً الصغيرة آمال من مصير الغرق به، وحملها إلى السطح فجعلت تبثق ما في جوفها من الماء الذي شربته، وأخذ الحضور أجمعين بالموقف الذي قبض على الألباب حتى تُرك - يومئذٍ - الطعام في قصع الفخار دون أن تتقدم إليه يد، أو أن تباشره شهية حتى برد، وكانت تفيدة تأخذ تقول :

- المقادير كتبت للصغيرة عمراً جديداً بيدين سمراوتين..

 وتواترت الأيام وإن ظلت هاته الحادثة محفوظة في وجدان آمال، وحتى بعد أن عادت الصغيرة إلى مانارولا في بيتها فوق التلال، كانت تعتقد بأن منيراً قد أسدى إليها معروفاً لم ترده قط، وسألت أباها تقول وهي تلعب السودكو في دفتر كراسها، وكانت آنئذٍ لعبة حديثة العهد بالاختراع، عمرها لا يجاوز ثلاث سنوات :

- وأي صفة للشاب الأسمر الذي أنقذني في حوض السباحة؟ وأي علاقة لنا به؟

وأجابها نعيم في طبقة عالية، وكان يضطر في أحيان إلى الجهر بصوته كي تسمع مراده لضعف سمعها :

- إنه أخوك..

وكان عارف يسمع ويرى فاستهجن الجواب واستخف به يقول :

- لماذا تصر على أن تحجب عنها وجه الحقيقة؟ ألا ترى أنها أهل لها؟ وحتى هو في فيلته التي استولى عليها غصباً من المرأة العجوز - أقول حتى وهو على هذه الحالة الميسورة يرفض الانتساب إلينا، فلمَ نهبه صفة يحرمها على نفسه؟ (ثم وهو يلتفت إلى آمال يقول..) لقد تبنيناه زمناً ثم ثار في وجهنا ثورة الجحود والنكران، ما كان بيننا وبينه من نسب قط،..

وهرب الحديث من سمعها فطلبت من أخيها أن يعيد ما سبق أن فاه به، وعلى ما بدا من غلظة الأخ في عرض جوابه وصراحته الفجة ثم تكراره الجهير هذه المرة فقد سُرت آمال بالجواب، إذ أنها لم تكن تعقل الأمر إلا كما عرضه لها الأخ،.. وقالت وهي تنهي مربعاً كاملاً من مربعات السودوكو التسعة الكبيرة، وقد أصابت حظاً من الفطنة مثلما أعانها ضعف سمعها على التركيز الجيد المستغرق في الأمور :

- ولمَ لا نزوره كيما نرد إليه دينه؟

وأوصد الأب في وجهها الباب في كياسة وظرف يقول :

- عزيزتي، لقد انقطعت علاقتي بالإسكندرية، وما من مرة تطأ فيها قدماي أرضها أو أتنسم فيها نسمة اليود حتى تعاودني الذكريات الحزينة التي تذكرني بمن غاب ورحل (يريد أباه طه)، هل تريدين لأبيك الشقاء في هذه الدنيا؟

وعرض عليها نعيم طائفة من المناطق الخلابة كي تزوها بديلة عن الإسكندرية شرط التفوق الدراسي، أبرزها منطقة Cinque Terre أو الأراضي الخمس، وهي السلسة المكونة من خمس مدن هم : مونتيروسو، وفيرنازا، وكورنيجليا، ريوماجيوري، ومانارولا (التي استنثناها بالطبع من خياراته لما كان مقيماُ فيها)، وأعرضت عنه الصغيرة في تسليم لطيف فانكبت على ما هي فيه من حل لغز المربعات حتى أتمته.

 

 وفي موضع آخر كان الشيطان الديكارتي قد عاود الظهور لذهب، وعاوده شبح الوجود الذي يسبق الغاية، وعاد الرجل يقرأ لجون بول ساتر بعد أن صار من نزلاء الفنادق، وعدم من إقامة دائمة فحار بين النزل حتى أكب على وجهه على غير رشاد، ولم يعد كثير الاستحمام بعد أن فقد مغطسه الخشبي والحجري، فتبين أن وفرة الاستحمام عنده ظاهرة ترف فوق أن تكون نزعة فيه إلى التطهر،.. فكر الرجل ملياً في الانتحار بعد فقدانه لجل المعاني في دنياه، كان يحدث أن يأتي بمنشفة ثم يغرقها في الكلور، ويضعها في قلب كمامة على الفم والأنف ثم يجيء بـ "كيس من النايلون" فيحيط به رأسه، وقبل أن يربطه بإطار غلق الإطارات يعود يحرر نفسه مما هو فيه، ويستسمك بالحياة في مقاومة طبيعية غريزية، وكان يحدث نفسه فيقول في خيبة هازلة :

- لقد أخفقت في كل شيء وحتى في أن تنتحر..

وألهمته نفسه الجزوعة أن يقصد إلى معبد الرأس السوداء، وقصد - في سبيل ذاك - إلى سيدي بشر وإلى نطاق سكني حديث نسبياً هناك، وكان يترجل إلى غايته لما استقر في قناعته أن سائقي التاكسي في الإسكندرية - في كثرتهم الكاثرة - هم بعض من أكثر البشر استغلالاً وثرثرة، وقد أشاد المعبد فارس قديم اسمه إيزيدور، والأخير سقط من عربة حربية وأصيبت إحدى قدميه، وحين برأت قدمه المعتل ارتأى أن يقدم لإيزيس نذراً هو قدم من الرخام الأبيض يرتدي حذاءً،.. وقف ذهب إذاً قبالة التماثيل الرخامية لإيزيس وسرابيس يتضرع ويتأمل، كانت نفسه تمور باضطراب عجيب، وحضرته نشوة غرائبية كالتي تصيب بعض مصابي مرض الفص الصدغي قبل أن تأتيهم نوبة صرع جديدة، ورأى طيف نجله منير الذي كان وسط جماعة يأكلون من قصع الفخار لم يوفق في تحديد هوياتهم على الدقة، وأبصر طيف عبد القدوس، والأخير همس له يقول :

- لقد حرمتني الحياة، وسأحرمك من البنوة (ثم يزيد وهو الممسك بكتف منير..) سأجعل من الجفاء ديدنه متى بصر بك..

وتقدم ذهب نحوه وكان على حال من الجسارة التي تليق بمعاملة الحقائق وهو المتحدث إلى الخيال :

 - حرمتك الحياة لما كنت غير جدير بها، وأما البنوة فقد لفظتها منذ تخليت عمن في يدك لأسرة نعيم، ولهذا : فلتصنع ما شئت..

هناك صعر ذهب خده في طفولة هازلة، ثم عكف عن الأمر لما ارتأى فيه تسفيهاً لمثابة التماثيل الرخامية التي أحاطت بدورها المكان برهبة حقيقية، بدا أنها باقية على الدهر عصية الإفناء، وأغلق شفتيه لما استقر لسانه في جوفه ولكنه عاد يفتحهما عجباً حين لاح طيف إيزيس التي قالت له في عتاب :

- إني رمز الأمومة والزوجة الصالحة، لا تقصد إلى معبدي إذا أنتَ على هذا القدر من التفريط الأسري..

وأظهرته على بعض مما كتب عنها في متون الخلق والتكوين وفي الأساطير والبرديات المقدسة، فقال :

- نبذني نجلي واحتال عليَّ، طردني من داري وقد سبق أن رحبت به فيها..

وقالت إيزيس فيما يغيب طيفها الأخاذ عنه :

- فلتغفر له كل خطاياه، فما من خطيئة واحدة تضاهي خطيئة التورط في الإتيان بآدمي إلى معمعان الوجود !

وكان ذهب قد أخذ يتقدم في محيط المعبد حتى صعد هاته السلالم متأثراً بما يتراءى له - وحده - من الخيالات، واستوقفه أحد الحراس يقول كأنما يوقظه من منام ثري :

- بربك.. ألا ترى أنك قد خرقت النطاق المسموح؟ 

 



 اقرأ أيضاً : 

           الفصل الأول:  لقد أعماها الحب

الفصل الثاني: المعنى الغائب

الفصل الثالث : لا أجد ولا أرى غيره

الفصل الرابع : اجتماع عائلي في مسرح سيد درويش

الفصل الخامس : ولتغفر لهم

الفصل السادس: لقد جئت إليَّ رسولاً منجداً

 الفصل السابع: نقاش حول غوته

الفصل الثامن: عواقب عملية رمضان

الفصل التاسع: حول الهيمنة الأمريكية

الفصل الحادي عشر: أوهام في معبد الرأس السوداء

الفصل الثاني عشر: يوم انفجر الأمل

            الفصل الثالث عشر: سأعود كي أسترد حقي ممن تبلَّى عليَّ

الفصل الرابع عشر: قلوب حائرة

الفصل الخامس عشر: أمل الحياة

الفصل السادس عشر: الفردوس في السماء لا في الأرض

الفصل السابع عشر: اعتذار

الفصل الثامن عشر: وجه آخر للحياة

الفصل التاسع عشر : أيام عصيبة في الجنوب

الفصل العشرون : نقاش في ستوديو التصوير

الفصل الواحد والعشرون : أيتها السماء.. فلتتركي السعداء وشأنهم

الفصل الثاني والعشرون : رجاء الحق

الفصل الثالث والعشرون : خطاب من فيفيان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق