روايات وقصص، استمتع بأفضل روايات الرومانسية وروايات الرعب وروايات التاريخ في موقع واحد.

روايات وقصص، استمتع بأفضل روايات الرومانسية والرعب والتاريخ والخيال العلمي والبوليسية في موقع واحد،

عشرات القصص المثيرة والحكايات في انتظارك.

2024/11/25

حوار في مطعم سان جيوفاني

  الفصل الثاني عشر: حوار في مطعم سان جيوفاني


في باريس..

عزم زهير أمره على التفكير الجدي في مسألة العودة إلى كوخ بولونيا وقد أخذ بما سمعه من صديقته ألكسندرا من تغيرات قد طرأت هناك، ومرت به فترة من تقلبات الشعور كان يقفز فيها من أقصى الفرح إلى أشد الحزن، ومن غاية الغضب إلى منتهى الخوف،.. إلخ، كأنما أرهق الرجل بتحولاته الشعورية عجلة بلوتشك للعواطف الثمانية ذات القطبين، وكان يجلس مع صديقته الفرنسية في مطعم سان جيوفاني بالإسكندرية ذي الأجواء الرومانسية والجلسات الكلاسيكية المطلة على البحر المتوسط، حين قال كأنما استرد شيئاً من آرائه السلبية في الحداثة وفي القرن العشرين :

- "الحياة في القرن العشرين صارت مما لا يُحتمل، لقد قنع الإنسان بحقيقة كونه ترس في آلة المجتمع والدولة، وقد جرى تدجينه ليقبل بهاته الأوضاع دون أدنى نقاش، وإذا وجدت أكثر الفكر سهفاً وشططاً ما يكفي من المؤيدين في المجتمعات البشرية فإنها تروج وتسود، والغباء وقود استمرارية الافتراضات الخاطئة يهبها ما تحتاجه من طاقة دافعة حتى تشيد الصروح الزائفة، وإذا أنتِ نظرت للعرف المجتمعي نظرة مفحصة ستخلصين إلى كونه أشبه إلى هلوسة جماعية..".

وجاء النادل بأطباق المأكولات البحرية الإيطالية، كانت ألكسندرا - ولثاني مرة بعد تواجدها في عرس رؤوف وصالحة - شاعرة بالسرور في "مدينة المشاكسين"، وقالت وكان بينهما دورق نصف مملوء بالمياه فبدا وجهها متضخماً فيه كأنه العدسة المكبرة :

- "حسبتكَ قد تخلصتَ من هذا الحديث وأهملته إهمالاً محموداً..".

وواصل الأخير في غير اهتمام لحديثها أو تفهم له :

-"حين يكون الشخص تحت تأثير الحب، يحفز الأمر الدوبامين، النورإبينفرين، السيروتونين وكيماويات أخري - يحفز كل أولئك مركز المتعة بالدماغ،.. في سان جيوفاني (المطعم) وفي غيره يجتمع المحبون الذين تدفعهم مثل هذه المشاعر الجياشة دفعاً إلى تمرير مادتهم الوراثية، وفي هذا مقصد الطبيعة الأسمى، وغاية حركتها الأخفى، هذا الذي تزينه بشتى الأحابيل والأفانين في صورة الطُعم الشهي، انظري إليهم ! بعد جلساتهم الودودة والحميمية، يقذفون بالبرآء إلى المجتمع المجنون الذي نعيشه، إن للبشر أطفالاً ما ألطفهم ! وفي تصرفهم برآءة مرهقة، ولكن لا بأس، فهؤلاء البرآء لا يلبثون بعد البلوغ والرشد أن يتورطوا في مثيل ما صنعه الآباء عبر إنجاب المزيد، والمزيد.. إذا كنت لا تملك الجوابات اليقينية على الأسئلة الوجودية كيف تطاوعك نفسك على استحضار آدمي إلى ما لا تفهمه؟ وقد تقولين بأن منهم من يملك الجوابات اليقينية، وأقول :  إنه ما ملك في الحق إلا جوابه الذي يطمئن معه من عناء السؤال وشك المراجعة، إن امرأ لا ينظر للصورة الكبيرة لما يدور حوله سيتورط حتماً في الآثام الأخلاقية ولو كان أنقى الناس سريرة وأطهرهم باعثاً، لأن الموقف الأخلاقي غير النابه ليس أخلاقي تماماً، ولا أستطيع أن أنزه نفسي عن من هم هنا، فقد تورطت في محبتك..".

وشعرت ألكسندرا بأن ما سمعته لتوها ليس إلا أسوأ غزل شاعري من الممكن لعاقل أن ينطق به، وقد أفسد جانبه الأول المسترسل العبارة الأخيرة القصيرة حتى أتى على بنيانها من القواعد، وأفرغها من دلالتها كل إفراغ، وقالت وقد حملها حديثه على الكف عن الطعام :

- "إننا ما جئنا هنا لنناقش قضية الأوزار البشرية في القرن العشرين..".

وسألها في استهانة حملتها على الغضب :

- "ولماذا جئنا إذاً؟".

- "كيما نناقش مسألة عودتنا إلى باريس، هناك حشد غفير من المعجبين بفنَّكْ والمتأثرين به هناك..".

وأجابها في لحظة صادقة يقول :

- "إنني أفكر في المسائل العمومية حين تضيق عليَّ دائرة التفكر في أحوالي المحدودة، لا أريد أن أُسجن في باريس، ولا أروم أن أضيع فرصتي الذهبية في الشهرة، أحياناً يتفق لي أن أفكر ملياً في نهاية العالم كمخرج لمأزقي، لا تخطئي فهمي إذ لست منتظراً لطبول هيرمجدون (الملحمة الكبرى) التي يزعمون أنها ستقرع في خاتمة الأجل، مؤذنة بصراع الخير والشر، إذ أن شوقي هو إلى نهاية مسالمة..".

وبعد أسبوع من التفكر والمجادلة، عاد زهير رفقة صديقته الفرنسية في زي متنكر لعجوز (لم تصحبه ألكسندرا إلى الكوخ هذه المرة لما كشف تنكرها في المرة الفائتة)، فقالت له :

- "اذهب إلى هناك، ولتر بنفسك، سأنتظرك هنا..".

وقصد الشاب وحده إلى كوخه القديم الذي ما عاد مخبوءاً قط، وقد شاع سره في المجتمع الباريسي وإن بقى بغير صاحب، وبهر بما رأى حتى اغرورقت عيناه وشاع في أماراته امتنان حفي له بواعثه المسحورة، وملأت الأدمع وجهه ورأسه الكبير، حتى تنبه إلى ما يسببه هذا الماء المالح من إفساد تنكره فملك قريحته، واستعصم برباطة جأشه، وكفكف ماء وجهه في حركة عجزاء متراخية توافقت وصورته الذهنية عن نفسه المتنكرة، هناك سمع من يقول من زوار المعرض :

-" يقولون بأنهم قد رأوا ألكسندرا، الفتاة ذات اللوحات الحادية عشرة، قبل فترة متخفية في ثوب عجوز..".

وأجابه آخر يقول :

- "لا غَرْو فيما ذكرتْ ! إنها تخشى وصاحبها أن يفتضح أمرهما بعد أن تورطا في إيذاء ضابط فرنسي قبل فترة طويلة، وقد هربا في إثر ذاك، يتحدث عنهما الجميع دون أن يملكا القدرة على أن يقولا : ها نحن ذا، انظر كيف حازا مجداً ناقصاً، بل هو اللامجد !".

  اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات

 وأصيب زهير بأسف شديد من جراء سماعه للحوار الأخير، وتبلورت نقمته على الحياة المعاصرة في حديث الزائرين المجهولين، واحتمى بكهف بواطنه فلاذ بالانسحاب الخجول، كانت ألكسندرا لا تزال مختبئة لدى هاته الشجرة الكبيرة بعيدة من نطاق العيون من زوار الكوخ وحرسه، وقد وعت - في خلال غيبة صاحبها - شرطياً يقضي حاجته وسط العشب، وما لبث أن طفق يغني غناءً فرنسياً بصوت رديء فيما تصاعدت رائحة أمونيا كريهة نفاذة، كان الشرطي يغني أغنية Madelo، وقبضت الفتاة على انفعالها كيلا يكتشف أمرها وقد حبست أنفاسها في اشمئزاز، وفكرت في أن تتسلى بأمر لا تشعر معه بحاجتها إلى استنشاق الهواء، فتأملت هامته (الضابط) وهناك ألفت في جبهته أثر ضربة قديمة وجرح غائر، وحدست أمراً حملها على البِشر،  ومضى الشرطي عنها حين انتهى من الأمر الذي سترته الأشجار،.. وكان يهتف بمقطع آخر من أشهر أغنيات الحرب العالمية الأولى في فرنسا - أي أغنية Madelo  - فيقول فيما يخف صوته بابتعاده :

La servante est jeune et jolie..

 Légère comme un papillon..

(النادلة هي شابة وجميلة، خفيفة مثل الفراشة!)

وعاد زهير إليها وقد أوشك أن يصارحها بالعبارة التي آلمته :"انظر كيف حازا مجداً ناقصاً، بل هو اللامجد !"، ولكن فتاته بادرته بالقول في حفاوة الرجاء :

- "لقد وجدته ! وجدت الضابط الفرنسي الذي ضربته قبل بضعة أعوام بالأنبوب الحديدي !".

 

في الإسكندرية..

أقامت عفاف حضانة للأطفال وداراً للأيتام بجزء من الثروة التي جمعتها من باريس، أسرفت المرأة على المنشأتين حتى ألحقت بالحضانة حديقة كبيرة ذات أَرَاجِيحُ، وجعلت في دار الأيتام ملعباً للسلة والقدم وأوصت بتدريس اللغات فارتقت بمعاش من فيها عن حال البؤس إلى الرغد والإقبال، وكانت تقصد إلى أطفال الحضانة فتقص عليهم قصة المزارع المخادع، وتتردد على أطفال الملجأ فتروي لهم طرفاً من أحوال رواية الدجاجة الذهبية، حتى إذا أضر النسيان بسردها القصصي جعلت تصور الفريقين بكاميرا ألكسندرا، وامتلأت بالعطف والطمأنينة والاستسلام للمقادير - بسعودها ونحوسها - حتى صار الخوف غريباً عن وعيها، وقنعت بنصيبها الثري في تجربتها الحياتية في غمرات استرسالها الشارد، وألحت المرأة على يوسف باصطفاء إمام يعرفه لمسجد رياض الجنة (معتبرة بما قد جرى فيه من القضية المعروفة)، وتفكر الرجل ملياً في هويته واستشار في ذاك الشأن أخته الكبرى هدى فنصحته بزوج ابنتها مراد ذي التجربة الصوفية، وقالت أيضاً :

- الصوفيون - ولو أن بهم نزعة إلى الشطط - فهم بعداء من العنف كل البعد.

ورضي الرجل (يوسف) باقتراحها فأوكل إلى مراد بإمامة المسجد، وأخلص المُوكَّل (مراد) بدوره لموقعه الجديد حتى كان يُرى وهو يمسح عتباته بنفسه، ونشر فيه القلل الفخارية، وأحال بلاطه إلى رخام، وجعل في فضائه ثرية من النحاس ذات سُرُج، وأحسن العناية به، وقد بدا أن الرجل قد نقَّح تجربته الدينية السابقة فنبذ منها التبرك بالأولياء، وإن ظل يتخذ بُنيته المتوفاة "إيمان" وسيطاً إلى الإله في أدعيته الباكية، وفي مرات دقه للطبول واستخدامه لآلة المدروف التي أهداها إليه أحد أصدقائه المسافرين من وإلى اليمن،.. وإنه كذلك حتى اجتبى يوماً وافق الجمعة لجمع أخوة تهاني الأربعة في أعقاب صلاة العشاء فصلى بهم، وكانوا - ولأول مرة منذ عهده بهم - واقفين وراءه في خشوع عميق الغور وفي غير مجاوزة، وسلم الرجل ذات اليمين وذات الشمال، ثم التفت إليهم يقول :

- اليوم أنتم بشر جدد، صِحَاح، وأنقياء..

وبكى أدهم حتى واساه مراد وخفف عنه كأنما تبينت له خطيئته فكبرت عليه، وتأثر سائر الأخوة حتى غشتهم سماحة نورانية مباركة، وسأل أكبرهم عن أحوال العمل :

- ماذا عن صناعة الألومنيوم؟

وأجابه بعد أن شرب من هاته القلة الفخارية ذاكراً شيئاً عن الشقاء الذي يجده في خضم مراحل الصناعة الأربعة : تعدين خام البوكسيت، ثم تكرير الألمنيوم، فصهره، وصبه، وعن حقيقة أن ما يجتمع له بالنهار ينفق أكثره بالليل،.. ثم يعود (مراد) يسأل الأوسط دون أن يهتم حقاً بجواب الأول :

- وأنت.. هل وجدت عملاً؟

 وأجابه بأن كلَّا، فطفق يشجعه على إبداء مزيد من البذل والسعي، وكاد يسأل أدهم عن مجال الحلويات الشرقية الذي يمتهنه أو يذكر شيئاً عن حبه للحمصية والسمسمية وغيرهما منذ كان يشتريهما - مع المشبك - من أسفاره إلى دمياط في زمان قبل اليوم..، لولا أن رآه (أدهم) على حال موصول من البكاء لم يتملص منه، وبدا أصدقهم شعوراً بالأسف، وأعمقهم بوءاً بالذنب، وقال له :

- كفكف أدمعك، فلدي مفاجأة تستحق منك الانتباه الكامل.

هناك صفق الرجل (مراد) في صحن المسجد فدلفت إليه امرأة مختمرة لم يحر أحد من الجلوس حول تحديد هويتها، وكانت تهاني التي ألح عليها مراد طويلاً بعقد الصلح مع أخوتها في ساحة المسجد المكتسي بالرخام، المزين بالفخاري من القلل، والصوفي من البُسط، كانت المرأة المحبة لمتابعة دروس الشيخ الشعراوي متقبلة لمنهاج زوجها القديم من نزوعه الصوفي (وقد كان للشعراوي منهج الصوفية - شأنه شأن بعض الأزهريين - من تعلقه بالأضرحة وزيارته لقبر السيدة نفيسة ولضريح الحسين بالقاهرة)، ولبت طلبه في الصلح فحضرت بعد جدال اضطرت بعده أن تتخلى عن استمساكها الزائد بالآية القرآنية : "وقرن في بيوتكن"، مضت المرأة إذاً على البلاط الرخامي الجديد والبسط الصوفية حاملة صندوقاً من خشب السرو المنقوش صوب الأخوة الذين طفقوا ينهضون عن جلوسهم تباعاً ما خلا أدهم، وقال قائل منهم وقد ضرب بساقه - من أثر نهوضه المنفعل - قلة الفخار فمالت وهوت وانكب ما فيها من الماء على الرخام دون أن تنكسر:

- لا صلح مع من تركتْنا لقسوة الدنيا متنعمة في ثروة رجل يهودي.

وقال ثانيهم فيما تهتز ثرية النحاس التي فوق رأسه :

- صلحنا الوحيد أن ندعها وشأنها..

وقال ثالثهم وهو يرمق مراد بنظرة الغضب كأنما أصابه الحيف وحاق به الجور :

- كان هذا فخاً من أفخاخك..

ونهض أدهم يستسمحهم البقاء وقد نزلت به رهبة التوبة والإنابة، ووصف استكبارهم بالإجرام الذي سيُجازون عليه، ونزعت به نازعة رقيقة من حسرة وأسف، ولم يعد - على حرصه - منهم عائد، فتسربوا جميعاً ما خلا هو، هناك جلست تهاني وأسلمت الصندوق الخشبي إلى رخام الأرض، وأوعبت في قفله مفتاحاً من النحاس، وابتسم مراد في وجه أدهم يقول :

- بورك لكَ، لقد جاءت تهاني لك بنصيبك من ثروة زكريا، ستحصل وحدك على نصيب أخوتك الثلاثة، كنت الأشد احتمالاً من بينهم والأكثر تواضعاً !

ونهض أدهم عن قصد أن يدعو أخوته إلى العودة، غير أن مراد سبقه إلى الباب بخطى واسعة غير عجلى فأوصده يقول :

- لقد ذهبت فرصتهم، أفسد الغرور أملهم في الحوزة، ولو أنهم زهدوا في كل شيء لجاءهم كل شيء، فلتعد إلى حيث كنت..

وعاد بعدئذٍ الرجل (مراد) إلى تهاني يقول في تندر وهدوء مَنْ أحكم السياق وضبطه :

- لا يدرون أنهم قد لفظوا لتوهم خاتم سليمان !

وعجل مراد إلى هذه القلة الفخارية يقيمها ثم يمسح ما انكب منها من الماء بخرق، وقد جعل يقهقه بين حين وحين متندراً على غباء الإنسان وصلفه فيما كان أدهم - بالكاد - قد عاد إلى موقعه !

 اقرأ أيضاً : 

الفصل الأول:   رأيت الطمع في عينيه

الفصل الثاني:  عسى أن يكون صدري منشرحاً

الفصل الثالث : صورة المُخلِّص

الفصل الرابع : إلى أين المسير؟

الفصل الخامس : الخواطر المستغرقة

الفصل السادس: نظرة أخيرة

 الفصل السابع: أسطورة شجرة النبق 

 الفصل الثامن: عودة فتاة فيلا لوران

الفصل التاسع: ألكسندرا في غابة بولونيا

الفصل العاشر: مصرع زهران بسبب مراهنات الكرة !

الفصل الحادي عشر: بكر يتحدى سلطة رجال القرية

الفصل الثالث عشر: سلكت سبيل الحب ! 

الفصل الرابع عشر: حفل عرس في حمام شهريار

الفصل الخامس عشر: خطبة مارتن في سكة حديد بالتيمور

الفصل السادس عشر: لقد صفحتُ عنكِ

الفصل السابع عشر: إفناء العمر في الشقاء

الفصل الثامن عشر: كأنك تحكمين عليَّ بالهلاك

الفصل التاسع عشر : انطفاء شمعة لا يعود لهبها

الفصل العشرون : نفسيتي تتحسن حين أروي قصة




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق