روايات وقصص، استمتع بأفضل روايات الرومانسية وروايات الرعب وروايات التاريخ في موقع واحد.

روايات وقصص، استمتع بأفضل روايات الرومانسية والرعب والتاريخ والخيال العلمي والبوليسية في موقع واحد،

عشرات القصص المثيرة والحكايات في انتظارك.

2024/11/30

لا أصدق أنكَ عازف هارمونيكا

         الفصل الثالث: لا أصدق أنكَ عازف هارمونيكا


في الولايات المتحدة..

كان الأمريكي مارتن قد تدرب ملياً على استخدام الهارمونيكا : آلته الموسيقية ذات الريش البرونزي، استمع الرجل طويلاً لعزف البلجيكي Toots Thielemans (توتس تيليمانز) أشهر عازفي الهارمونيكا، وغيره، وتخير لنفسه أسمالاً بالية - نعل متهتك وسروال قديم وقيمص ظل يمسح به واجهة سيارته لأسبوع حتى أغبر -  كأسمال عازف محطة القطار، وقال لصديقه منير :

- "عزيزي، لقد غدا كل شيء جاهزاً..".

وسأله صاحبه في قلق عن قصده وقد أخذ بصورته التي كانت تشبه صورة العازف الفقير الذي رآه يطلب الرزق في سكة حديد بالتيمور، فقال (مارتن) :

- "لقد رصدت حركتها (آمال)، إن دأبها أن تلعب الرياضة الخفيفة في بواكير الصبائح وتتمشى، قبل أن تقصد إلى المدرسة، سأكون قرب مبنى المُربِّية حواء في مسارها هذا أعزف الهارمونيكا، سيحتشد حولي البشر، لا نريد أكثر من زمرة منهم، وسيضعون في قبعتي المال، وستنسل أنتَ من بين أولاء، صدفة، وهناك يقع اللقاء الموعود بينكما على أنغام القيثار الفرنسي، سيبدو كل شيء طبيعياً ككناريين متحابين في جزر ماكارونيسيا..".

وأبدى منير تشككاً من مضي الأمور على هاته الصورة المحمودة، وحمله تشككه على مزيد من التردد، قال :

- "كيف عساك أن تثق بأن يحتشد حولك البشر في صبيحة باردة؟".

وأجابه صاحبه يضع يده على مواضع قميصه غير الغبراء :

-"لقد انفضوا عني حين خاطبتهم بالحديث الجاد، وسيجتمعون كالنمل حول إناء من العسل حين أنفخ لهم بالقيثار..".

- "ماذا لو أنها (آمال) لم تتوقف لتستمع إليكِ وعبرت بك كصخرة مهملة في قاع محيط لجي تمر بها سفينة تمخر فوق العباب اللانهائي؟".

وكاد مارتن يجيبه يقول : "لو أنها أشفقت على العازف مرة، فما يمنعها أن تشفق عليه مرتين؟"، لولا أن الفتاة قد لاحت عبر هاته النافذة بثياب رياضية نسائية، وبدت رافلة في سويت شيرت، وسروال من طراز أديداس (adidas)، وجوربين رياضيين قطنيين، وتضع في أذنها وكمن من طراز (WM-75 Walkman).. كانت حركة المشاة الصباحية قد بدأت دبيبها الهادئ في الشارع الذي يستقبل بشائر الهبات الشمسية، وثمة عجوز في الثمانين تستقل دراجة عادية وتمر بمن  يبتسمون لها، ومضى مارتن يستعد لجزء من الأغنية (Every Grain of Sand) لعازف الهارمونيكا الأمريكي (bob Dylan)، التي تدرب لأدائها طوال المدة الفائتة، وجعل يقول :

- "إن لها في سوق الموسيقى الأمريكية بضع سنين ولكنها لا تزال صالحة، لا بأس..".

مضى مارتن بآلته إذاً واقترب من محيط الفتاة التي حسبته شحاذاً أول رؤيتها لها، وقد أسرف الرجل في تشويه صورته حتى صار من السهولة بمكان أن ينسبه الرائي إلى ما قد نسبته إليه الفتاة من طلب التسول، تركت الفتاة وردها الرياضي الصباحي إذاً ومضت خطى معدودة مصقولة من الإشفاق ثم وضعت يدها في جيب سروالها، ووهبته دولاراً، وبدا أن الرجل قد ارتبك ملياً بتبعثر أوراق خطته، ولم يبدُ أنه قد حفل بتصرفها على نحو أوحى لها وعلى نحو غالط باستصغار الرجل لهبتها إليه، فجعلت تزيد تقول وهي تعود تدس يدها في جيبها :

- "هاك كل ما معي، الآن، خمسة دولارات، فلتأخذها كلها..".

هناك أخذ مارتن الأمر منه مأخذ الطعن في الكرامة، لقد قبل بصورة العازف ذي الثياب الرثة كتضحية يقدمها لصديقه، ولكن الشحاذ - وفيما بدا من امتعاضه الأخير الظاهر - إهانة فوق احتماله،.. جعل يقول وهو ينفض بعض الغبار عن قميصه في لغة جسد توحي بالاعتزاز - كرد فعل نفساني لشعوره الأول - فيسعل :

-"إنني عازف هارمونيكا..".

وابتسمت تقول :

- "حقاً؟! إنني أحب هاته الآلة، فلتُسمعني من عزفك شيئاً..".

ولكن الغبار الزائد الذي نثره  قد حمله على أن يسعل ويسعل، وعجز الرجل عن أن يسترد طاقته اللازمة للعزف الموسيقي سريعاً، فمضت الفتاة عنه تمشي مهرولة، تقول في نفسها :

- "ليت شعري ! ما هو بالعازف، كنت على علم بحقيقته المتسولة..".

وبدا أن السعال قد أتى على ما بقى من بنيان تدبيره الذي تدرب عليه طويلاً، وتواترت عليه النحوس حتى انتابه الحنق، وتذكر حقيقته - كمتحدث وخطيب يتحرى بث الإلهام في النفوس - هناك شرع يلحق بها في غضب فيما توقفت هي في دهش عن تريضها، طوح مارتن الغاضب بآلته الموسيقية على الأرض، وجعل يقول :

- "فلتسمعي لي، عزيزتي، أيا ذات السنتين البارزتين، والهمة النشطة، والقلب العطوف، إنكِ زكية فطنة، وما كل من فطن إلى المجردات خبر بطوايا النفوس، ما أنا بشحاذ، ولو أنني امتهنت الشحاذة ما خجلت من الأمر قط، إنني عازف هارمونيكا بثوب شحاذ، كهذا الذي رأيتك تغدقين عليه يوماً بالعطف وبالمال،.. سأفصح لكِ عن أمر أحمله، إن لصديقي في القرب منكِ مأرباً، إن اسمه منير وإنك لتعرفينه، لقد أنقذك في طفولتك من مصير الغرق، وإن حقيقاً بك أن تحملي له هذا المعروف بكرور العمر، ستشرق شموس المحبة فوق رأسيكما في جنة أرضية، وسيغني القيثار مجرداً بأعذب اللحون دون حوج إلى عزف أو عازف، فلتتحدثي إليه، إنه هناك يقف في ظل الخجل، وإنك لتغفلين عما في نفسه حتى لقد أراك تتنزهين في رياض الجهل..".

أعاد مارتن إلى آمال الدولارات الخمسة ثم تولى عنها في غضب موصول بحديثه، حتى لقد كان يُسمع وقع حذائه - لشدته - على الأرض، واستجلب حديثه فحركته وقوف بعض المارة،.. قص مارتن على صديقه وقائع ما حدث في هاته الصبيحة، وابتسم منير من تصرف صاحبه، قال له متهللاً :

- "إلهي ! لقد نجحت في استخدام قدرتك الخطابية، لأول مرة !".

ودق بابهما فاستبشر منير استبشاراً مازجه قلق، وقال مارتن لصاحبه:

- "لابد أنها هي، هلم،.. فلتتخير لنفسك لباساً أفضل ريثما استقبلها بنفسي، العطور والطيوب على رخام الحمام إلى جوار المغطس، والبذلات في الدرج الثالث للخزانة من جهة اليمين، ستجدها إلى جوار ثياب الشحاذ المصطنعة..!".

نهض مارتن من فوره إذاً، وصدق حدسه (مارتن) فكانت الفتاة وقد تخلت عن صورتها الرياضية، ورفلت في فستان عادي، لا تزال ساعتها الكلاسيكية تزين معصمها، وسلمت عليه (مارتن) بأطراف أصابعها تقول بين الاستشراف والحياء في ابتسامة رقيقة، يدرك الرائي اصطناعها (الابتسامة) ولكنه لا يستطيع إلا أن تروق له :

- "أهلاً، سيادة الشحاذ..".

وأجابها مارتن وقد بدا بعد أن تملص من ثيابه القديمة في طبيعة أهدأ:

- "إنني عازف هارمونيكا، لقد اتفقنا على هذا..".

  اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات

كان منير في الحمام يضع هاته العطور وقد تبين له أن حمام صديقه ليس إلا فوضى وشواش، وكانت واجهة المرايا غير نقية على نحو اضطره أن أن ينفخ فيها ثم هو يأخذ يمسح أثر ما تكون عليها من شابورة صغيرة بيده، وسمعها تقول لصاحبه :

- "أعذرني، لا أصدق أنكَ عازف هارمونيكا..".


-"سأريكِ بنفسي..".

ومكث الرجل المتحفز يعزف مقطوعته التي كان قد تدرب عليها طويلاً، الآن، لغرض آخر : (Every Grain of Sand)، حتى شنفت الفتاة آذنها بما سمعت وأعجبت به ملياً، قال لها وهو يأخذ يسترد شيئاً من غرابة أطواره :

- "سيكون العزف طُعماً في صنارة اجتذاب البشر إلى القضايا الأهم،..".

وحدست الفتاة بأن الرجل على وشك أن ينخرط في واحدة من نوباته المنفعلة، فتساءلت كأنها تقاطعه على نحو يزري قليلاً بلطفها المبالغ :

- "معذرة، إن قطعت سلسال شغفك،.. أين منير؟".

حضر منير في ثياب جيدة تسبقه رائحة كالأريج الطيب (استخدم الشاب شيئاً من العطور كلها لمَّا جهل بأفضلها)، مدت الفتاة بصراً حائراً في الغرفة الفوضوية فلما لاح الشاب عبر هذا الباب ابتسمت، قال مارتن في دعابة غير موفقة :

- "إنه يخجل ! ولو أن غولاً قد حضر في الحجرة لاختبأ أيضاً بنفس الطريقة..".

ونظر له الأخوان سلفاً، المعجبان حاضراً، نظرة تشيع فيها الريبة، نهض مارتن عن اجتماعها لفترة هي أقصر مما يجب، وعاد في ثياب الشحاذ، قال :

- "معذرة، فلتتبعاني إلى أولى مغامراتي الحقوقية في إقناع رواد المحطة على أنغام الهارمونيكا..".

ثار ثلاثتهم إلى محطة القطار في طقس أفضل هاته المرة، كان الثلج قد توارى، وأما الأشجار فأثمرت وأزهرت، وشرع مارتن يعزف الهارمونيكا كأنما يتأهب للحظة مهمة، سألت آمال منيراً :

- "لماذا تركت المدينة (الإسكندرية)؟".

وأجابها يقول في أسف وتأثر :

- "ما رأيت بلاداً ماضيها هو خير من حاضرها كبلدان العرب، لقد آلت إليَّ ثروة، وبعد وفاة تفيدة شعرت بالفراغ النفساني وتجسمت لي الأشياء في حس أجوف..".

وروت له شيئاً عن امتنانها له حين أنقذها من الغرق في مغطس لوران، على نحو أحال وجومه الذي صاحبه من جوابه الأخير إلى الاستبشار، وأوردت - حين تراءى لها ما يسببه حديثها من أثر طيب في نفسية محدثها -  كيف هي لا تزال تتذكر الغذاء الذي تناولته يومئذً وهي تنشف جسدها تقول :

- "كان لحماً في قصع فخارية، إنه يوم عجيب، عجيب كهذا اليوم..".

هناك انقطع عزف الهارمونيكا إيذاناً بالوصول فحدس منير بالمتاعب التي هي في انتظاره، تقدم مارتن إلى ساحة المنتظرين فجعل يعزف الهارمونيكا في ثياب الشحاذ، تجمهر حوله الرواد في لحظة مسحورة، عزيزة المثال، وقال :

- "أعزائي، لن أخلع قبعتي الباهتة لقاء المال تودعونه فيها، ولكنني أريد منكم الاستماع إليَّ..".

مضى الرجل يتحدث عن المسألة الحقوقية في حس رشيد هاته المرة، وقد استفاد من نصائح صاحبه منير، فكان إذا لثغ أو تلعثم أورد نادرة من النوادر التي أضفت شيئاً من المرح الذي يستعيد معه لسانه رشاقته، ويستحضر معه بيانه تماسكه،.. وكان منير يقول لصاحبه في ذاك الصدد :"إن أكثر البشر بلاغة لا يصدقون كل كلمة يكتبونها حقاً، إنهم إن صارورا جادين أكثر مما يجب صمتوا وما تحدثوا، إن البلغاء لا يتحدثون أو يكتبون إلا في ضوء الأمل، هذا الذي إن لم يحضر لهم ضياؤه الملهم اصطنعوه.."، وأما إذا هو (مارتن) وجد الخلاف يدب بينه وبين أحد المتطوعين بالجدل من المستمعين عاد إلى الحديث عن المعاني العمومية، والمثل الفوقية المقطوع بنبلها ونزاهتها، على مثال العدالة والحق والحرية.. إلخ كمنطلقات يتذرع بها لاستنئاف الحديث عن نقطة أخرى، دون أن يهبط بمقام الخطابة إلى مستوى المجادلة، هناك يرجح الإقرار بالإنكار، وتعود النفوس إلى كلمة سواء،.. ثم هو حين يهتف بيده في خضم ثوراته الانفعالية لا يحرك معها سبابته اتقاء التورط في توريث السامعين شعوراً بالوصاية والفرض، وإنما هي قبضة يحركها مع حركة اليد تؤثِّر ولا تتسلط،.. أحسن الرجل استخدام لغة جسده إذاً، واختتم حديثه يقول:

 - "ولا يمكن أن نقبل بمفهوم العدالة في رأي ثراسيماخس، أي العدالة التي تُوجِب على الرعية إطاعةَ الشريعة في كل حال، إنها منفعة الأقوى،.. ولكننا نرد على ثراسيماخس بما رد به سقراط بأن الحكومة قد تُخطئ في سَنِّها شرائعَ مُضِرَّة بمصلحتها، ومع جهل سقراط بماهية العدالة الحقيقية، وإقراره بجهله الذي نرى فيه رفعة وتنزهاً بل وعلماً، فإننا نوافق استنتاجه الذي خلص إليه فيقول : يحاول المتعدِّي خدعةَ العادل والظالم معاً، أما العادل فيقتصر على خدعة الظالم فقط، فلا يُحاول الصالحون سبق أمثالهم، بل سبق الأغيار، فينتج من ذلك أن العادل حكيم وصالح، والمُتعدِّي شرير وجاهل..".

هناك بادر منير وآمال إلى التصفيق لصاحبهما، ثم صفق سائر الحضور تباعاً لما سمعوه من حديث، عطفاً على تصرف الشابين.. 

 اقرأ أيضاً : 





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق