رواية فلسطين





 في قديم الزمان وسالف العصر والأوان، كانت تربض على جبل جلحاد في أرض فلسطين مدينة جميلة، قصورها فارهة وجميلة، وقبابها مطعمة بالذهب، وزجاج شبابيكها مزركش بمختلف الألوان، فقد دعيت بحق مدينة الشمس، فهي تشتعل بالأضواء مع طلوع كل شمس أو غروبها، وكانت الحدائق الغناء، والجبال الخضراء، والبحيرات الزرقاء تكسبها سحرا، فضلا عن الأسوار العالية التي تعززها وتكسبها مناعة على الأعداء أو الغزاة. 

وفي منازل هذه المدينة الفلسطينية كان يعيش قوما أشداء، مفتولو العضلات، هم مضرب المثل في قوتهم وشدة بأسهم وكذلك بطيب نفوسهم وكرم أخلاقهم، كانوا يدعون بالعمالقة، وهم من القبائل العربية التي نشأت على أرض فلسطين في ذلك الزمان السحيق في القدم، كانت أيام العمالقة كد وعمل، ولياليهم أفراح ومرح، ولا فرق عندهم بين سيد أو راعي أغنام، تسود فيما بينهم الألفة والمحبة والتعاضد، يحترمهم جيرانهم، ويهابهم أعداؤهم، مرت الكثير من الأيام السعيدة على المملكة، إلى أن جاء يوم انقلبت فيه الأفراح إلى أحزان، ففي صباح ذلك اليوم خرجت الأميرة ابنة ملك مدينة الشمس، كعادتها تصحبحها جماعة من الفتيات، إلى نبع يملأ حوضا تخفيه الخمائل عن أعين المارة، ويقع خارج الأسوار، وثارت في نفس الأميرة رغبة في الاستحمام في ذلك اليوم الدافئ، فنزلت إلى الماء مع صويحباتها فعبثن في مياه الحوض، وضحكن ومرحن فترة، ثم خرجن من الماء وارتدين أثوابهن، وانفردت الأميرة بخادمتها لترتدي ثيابها، وما كادت تفرغ من ذلك حتى أعتمت الدنيا فوق رؤوس الجميع، كأن غيمة سوداء حجبت الشمس وهي في كبد السماء، ولم تمض لحظات حتى انقض طائر أسطوري ضخم على الأميرة، وخطفها وطار في السماء وغاب عن الأنظار، وترك الفتيات في خوف وحيرة، وبلغ النبأ الملك فاضطرب وحزن حزنا شديدا، وامتنع عن الطعام والشراب أياما، وانفرد في مجلسه كئيبا يرفض مقابلة أي إنسان، اجتمع القوم وتداولوا في الأمر، ثم مضوا إلى الملك يعرضون عليه خدماتهم، فرد عليهم قائلا : 

وماذا يفيدني الكلام والأميرة العزيزة إلى نفسي مخطوفة ولا أحد يعرف مصيرها؟

نهض من بين الحضور شاب قوي البنية، ظاهر الشجاعة، عرفه القوم باسم عاد، تقدم من الملك وقال : 

ليهنأ بال ملكنا فأنا سأعيده الأميرة سالمة منعمة إليه، وقد رأيت بأم عيني طائر العنقاء يحملها ويحلق بها بعيدا في الفضاء، ولن أكون أقل شجاعة من أبي الفارس شداد.

أكبر الملك والحضور شجاعة عاد بن شداد، وسر لسماع كلامه وقال له:

إن أنت نجحت في سعيك يا ابن فارسنا الراحل شداد، فستحل مكانه في رتبته عندي، ولسوف أعينك على رأس قادة جيشي. وفي اليوم المنشود سوف آمر بإشعال النيران على قمم الجبال احتفاء بشجاعتك.

رجع عاد إلى منزله ليعد نفسه للسفر، وتصدت له أمه وقالت له :

إليك يا بني هذا المفتاح، وهو سر من أبيك حملني همه، واستحلفني أن أخفيه عنك حتى تبلغ مبلغ الرجال، فاذهب إلى الأسطبل يا بني لتجد هدية أبيك.

تناول عاد المفتاح ومضى مسرعا نحو الإسطبل، وعالج قفله، ودخل، فوجد بداخله جوادا أبيض، كأنه قطعة من غمام، وعليه سرج مرصع بالأحجار الكريمة، يتدلى منه سيف بديع، وفوق السرج عباءة بيضاء، وثياب مطرزة كأنها لأحد ملوك الجان، تقدم عاد من الجواد ومسد عنقه فصهل هذا الأخير علامة للرضا، فارتدى عاد الثياب وتقلد السيف وجر الجواد إلى خارج الإسطبل، وما أن امتطاه حتى قفز في الهواء فرفع عاد يده مودعا أمه، وطار الجواد به كالريح، من العسير تقدير المسافات التي قطعها الجواد، فقد مر من تحت صدره ما لا يحصى من البراري والغابات والجبال والأنهار، حتى حط عند أطراف غابة فاستلقى عاد لنيل قسط من الراحة وغط في سبات عميق، استيقظ بعد ذلك عاد على صهيل الجواد فرأى شيخا جليلاً له لحية طويلة بيضاء كالقطن، فتقدم نحوه عاد حاملا إليه الزاد والماء وقال له : 

أية نوائب صاغتك وأسقطتك في هذا المكان النائي، من أنت؟ وإلى أين تريد الذهب؟

تطلع الشيخ إلى عاد وقال : 

يا بني، أنا هو سيد الليل والنهار، وعالم بأسرار الدنيا، ألف أشعة الشمس فأجر الليل، وتكون العتمة وأطلق الأشعة فتضاء الدنيا ويكون النهار، قال عاد للشيخ : 

ما دمت كذلك، وتملك السلطان العزيز، فهل لك أن تعينني على استعادة أميرة بلدة، مدينة الشمس، وقد خطفها طائر العنقاء، لكي أعيد الفرح إلى بلادي فلسطين. 

ابتسم الشيخ وقال : 

يخيل إليَّ أنك ابن فارس وشجاع مر من هنا منذ زمن بعيد، اسمه شداد، وكان ينشد جزر الغمام من أجل جواد الريح الأبيض، وها أنا ذا أراه أمامي، وإذا كانت مهمة أبيك صعبة، فمهمتك أصعب يا ولدي.

 ثم أشار الشيخ بإصبعه إلى الأفق وقال :

أترى تلك القلعة الرابضة على قمة الجبل، ويعلوها الغمام، تلك هي ضلتك يا بني، وستظل تراها على حافة الأفق دون أن تبلغها قط إذ يفني المرء وهو يسير إليها، ولا يدركها فيما تظل ماثلة أمامه.

قال عاد : 

أما من سبيل أبدا إلى بلوغها؟

رد الشيخ قائلا : 

بلى، طعنة واحد من نبال مغاور الرعب كفيلة بأن تتبت القلعة في مكانها، وتبقى مهمتك وقد حصلت على جواد الريح وسيف الريح، العثور على مغاور الرعب التي تقع خلف الرمال الصحراوية المتحركة.

اختفى الشيخ في لمح البصر، وتوجه عاد شطر طريق الرمال المتحركة، على درب القلعة الوهمية التي انتصبت أمامه، وبعد حين هبت الرياح الملتهبة تلسعه كألسنة النار، فتضفر بعباءته، وتحركت الرمال تحت حوافر جواده، فطوى نفسه على رقبة جواده، وأطلق له العنان، كانت الرمال تتماوج كالبحر الزاخر، وترتفع تارة بعلو الجبال، وتنخسف طورا كالوديان السحيقة، والريح اللاهبة تضرب بألسنتها في شدة وقوة، لم يعلم عاد كم من الزمن مضى، ولا كم من المسافات قطع، وهو دافن رأسه في خصلات شعر جواده، وأفاق عندما شعر أن حوافر جواده تضرب الأرض الصلبة، وتهب عليه ريح باردة قارصة، نظر حينها أمامه، فوجد مدخل مغارة كبيرة، وكانت قلعة الوهم ما تزال ماثلة أمامه، كما رآها على الأفق أول مرة، ترجل عاد من على صهوة جواده، وامتشق سيفه وسار نحو مدخل المغارة فتصدى له نمر متوحش وانقض عليه، فعاجله بضربة من سيفه رمته على الأرض جثمة هامدة، عبر ممر المغارة بسرعة، وراح يقطع كهفا إثر كهف، حتى بلغ الكهف الأخير، فوجد القوس وقربة النبال، موضوعين بعناية على خون حجري، فسار بحذر شديد وأمسك بالقوس والنبال دفعة واحدة، فضج المكان بأصوات مرعبة، أحس بأنها لأشخاص من الجان، وهي تهجم عليه، ولكنه استدار على عقبيه، وخرج ثابت القلب، رابط الجأش، امتطى جواده ومضى كالبرق حتى تصدى له الجبل الذي تربض عليه قلعة الوهم، فوتر القوس الذي كان وتره من شعاع القمر الفضي، ومقبضه من خشب الأرز، ونباله من برق الصواعق، وبصعوبة بالغة تمكن من إطلاق نبلة باتجاه قلعة الوهم، فسمع لذلك دوي كقصف الرعد، وضج المكان كأنما ضربت به آلاف الطبول، طار الجواد حتى انتهى إلى مدخل القلعة، وقد ثبتت في مكانها هذه المرة، فعالج عاد باب القلعة فلم يتمكن من فتحه، في ذلك الحين أرعدت السماء وأعتمت فعلم أن طائر العنقاء عائد إلى مسكنه فأخفى جواده خلف الصخور، واختبأ عاد في مكان قريب عند مدخل القلعة، حط طائر العنقاء عند مدخل القلعة، فاهتز الجبل عند ارتطامه بالأرض، وعالج البوابة الكبيرة بمنقاره ودخل، وفي هذه الأثناء تسلل عاد إلى داخل القلعة، كان الطائر عجبا في تكوينه وضخامته، له أربع قوائم كقوائم الحيوانات، وله جسد أسد، ورأس نسر، وعرف ديك، راح عاد يلاحقه في حذر شديد، حتى دخل بهواً فسيحا عالي الأركان، ووقع نظره على الأميرة وهي مستسلمة لنوم عميق، انتظر الفارس الشجاع في مخبأ يتحين الفرص للتمكن من الفرص وإنقاذ الأميرة، وعندما أرخى الليل سدوله وحل الظلام، استسلم طائر العنقاء للنوم، فانتهز عاد الفرصة السانحة وجرد حسامه وانقض على طائر العنقاء بكل قوته، وضرب عنقه بسيف الريح فرماه جانبه وحمل أميرته وهرب مسرعاً خشية أن يكون لطائر العنقاء أرواح متجددة، وامتطى جواده على عجل وطار عائدا إلى مدينة الشمس، حين سار بعيدا عن قلعة الوهم، توقف عاد فجأة والتفت إلى الوراء، فرأى كأن عاصفة عاتية عصفت بالقلعة أو زلزلالاً ضرب أركانها إذ أخذت تتفجر وتقذف صخورها وأحجارها إلى مسافات بعيدة، فقد كان طائر العنقاء يعاني سكرات الموت، ومع موته تلاشت قلعة الوهم وغابت ولم يبقَ للجبل أثر، وتبددت الغيوم، وعادت السماء صافية. 

استفاقت الأميرة وهي لا تعلم ما الذي جرى لها، ولا تعلم ماذا سيحل بها، فقال لها عاد مطمئنا : 

لا تخشي بأسا أيتها الأميرة، فأنا عاد بن شداد في خدمة والدك الملك، وقد تكلل سعيي بالنجاح، وأنا الآن عائد بك إلى مدينة الشمس، إلى قومك العظام، العمالقة.

وعاد الفارس عاد بن شداد بالأميرة إلى أرض فلسطين الجميلة، ودخل مدينة الشمس وسط مظاهر الاحتفال والفرح العارم، وأشعلت النيران على رؤوس الجبال في كل أرض من أراض فلسطين، وبر الملك بوعده فعينه في رتبة أبيه رأس قادة جيش العمالقة، وكان قائداً عظيما، تمت على يده انتصارات كثيرة، مما أعلى من شأن العرب العمالقة في ذلك الزمن البعيد في القدم.