روايات وقصص، استمتع بأفضل روايات الرومانسية وروايات الرعب وروايات التاريخ في موقع واحد.

روايات وقصص، استمتع بأفضل روايات الرومانسية والرعب والتاريخ والخيال العلمي والبوليسية في موقع واحد،

عشرات القصص المثيرة والحكايات في انتظارك.

2024/11/05

المعلم غالي يهرب إلى الصعيد

                           الفصل الثالث: المعلم غالي يهرب إلى الصعيد






أزمع المعلم غالي أمره على السفر إلى الصعيد هربا من تقلبات الأيام، سيعمل لدى محمد بك الدفتردار المتولي إمارة الجنوب، إنه الآن مشمول بالأمان تحت مظلة زوج نازلي هانم: ثاني أكبر بنات الباشا، وفي حماية عائلة زوجه بأخميم، ودع أباه وأولاده وكاترنيا وداعًا حارا، طبع على جبين باسليوس قبلة ظل لها أثر كالندى على الجبين الدافئ، يشبه باسليوس أباه غالي فوق أخويه،.. مر غالي بأخيه فرنسيس فنصحه بالاستقامة وترك المنازعات، وحذره من أن يطأ بيوت الغواني والخواطي وأن يستغفر لما بدر منه سلفًا في هذا الصدد، حين جمع غالي حوائجه أمسك فرنسيس بيده يقول:

- سنراسل الحَبْر الروماني بيوس لنطلب منه المغفرة..

حاول غالي أن يتملص من إلحاح أخيه قائلا:

- اتركني وأسفاري، ففيها من شقاء الجهد ما يكفي..

واستوى وجه فرنسيس في ليلة مُضيئة صافية يقول:

- أخشى ألا تعود من أسفارك فتموت على الخطيئة، إنني لم أصدق يوما في أن العشارين المعاندين لهم في الجنة نصيب، إن جامعي المكوس ليس لهم موطأ في ملكوت الرب ما لم يتوبوا ويستدركوا ويكفوا، هذا سياق حديث المسيح،.. لقد ذكرت هذا غير مرة ولكنني ما صدقتك مرة واحدة، غالي، يالهذه الحيرة المعذبة التي تنتابني! إني أخوك وحَرِيٌّ بالأخ أن يصدق الأخ القول، وأن يفصح له عن مكنون نفسه، إنك جامع ضريبة وحظك عند الحساب عسير، وأنا مثلك ربيب بيوت الغواني، وكلانا خاطئ مأثوم،.. لقد كتبت هذا الخطاب منذ نحو عامين كأنه على لسانك، ولقد ادخرته لمناسبة هي كاليوم، فاقرأْهُ وصحح ما ترى فيه من مناسبات الزلل، مما لا يوافق هواك، ولتنظر إليه بقلب رحيم.

وقعد الأخوانِ فقرأ فرنسيس نص ما كتب على أخيه وكان صوته يعلو ويهبط بحسب الوارد:"ملاحظة في ما يرغب من تقوى قداستكم، الذي بيده مفاتيح الجنة، من عبده غالي أكبر الخاطئين: أسألكم الغفران الكامل عند الوفاة، لي ولأخي وعائلتينا حتى الجيل الرابع. الغفران الكامل لمن يعترف ويتناول يوم الآباء القديسين إبراهيم وإسحاق ويعقوب، علما بأن العيد الأخير يقع في 28 مسري، أي في 2 سبتمبر، ومن نعمة الرب أنني حملت اسم الأب القديس إسحاق، وأنني أحتفل بهذا العيد المبارك ملتمساً من قداستكم أن تمنحني، أنا وأخي وعائلتينا، عملا صالحا نستطيع، بفضل القيام به، أنّ نربح الغفران الذي تحدّده قداستكم.

 

أسألكم تثبيت معبد قائم في منزلي لعدّة أسباب، فإن كثيرين منا لا يستطيعون الذهاب إلي الكنيسة، وإن أردتم أن تعرفوا سبب ذلك، فإن تلميذكم الكاهن روفائيل بسكي يطلعكم عليه،.. ما إن تناولت القلم حتى ذكرتُ خطاياي الكبيرة، ولكن الخطايا الكبيرة تتطلب رحمة عظيمة، وفيما أنا أفكر في ذلك، فقدت صوابي ولم أعد أعرف ماذا عليّ أنّ أطلبه بسبب خطاياي الكبيرة، وأسلمت جميع مطالبي إلى تقواكم. هذا وإنّ رحمتكم ستمنحني أكثر مما أطلبه، ولا أستطيع إلا أن أقول: ربِّ، لست مستحقًا، ولكن قل كلمة واحدة فتشفي نفسي. وهذا ما أنتظره من نعمتكم"، تحريرًا في القاهرة، غالي سيرجيوس وأخوه فرنسيس.

تأثر غالي كثيرا وكرر باكيا:

- "ولكن الخطايا الكبيرة تتطلب رحمة عظيمة.."، كأنك تحدثت بما يدور في خاطري.

أعدى الدمع فرنسيس الذي قال:

- هو هاتف في النفوس جميعا.

شيَّعَهُ فرنسيس في الليل حاملا قنديلا، ترك غالي المحروسة وسحابات الاغتراب تُظَلِّلُ مسيرَهُ، نزل في بيت خصصه له محمد بك الدفتردار الذي سرعان ما أحب منه فطنته وكياسته، فهو عنده كبير الكتبة، وهو عند حَمِيهِ جامع الضريبة، يستطيع غالي أن يمرر رأيه في قرارات الباشا عبر الدفتردار الذي سمعه يوما يقول:

- يحدثني حَمِي عنك فيقول:"فر مني جاحد الفضل إلى الصعيد بعد أن أشربتُهُ التوت وألبستُه السمور، ثم شرَّفتُه بموكب الجاويشية الذي لم يتخلف عن متابعته غلام ولا شيخ..".

أجاب غالي في تهذيب بالغ:

- إن خدمة مولانا في الجنوب شرف يعادل خدمته في الشمال، بل هو يزيد عليه لقربي منك، سيدي.

أومأ الدفتردار برأسه كأنه قنع بأنه لن يحظى بشيء أكثر من التحفظ المعتاد، ثم سأله كأنه يلقي بطعم:

- سيسلح حَمِي الجيش بالبنادق التي سيستوردها من الأجانب، إن ثمنها في أوروبا يوازي نصف المبالغ التي يجب إنفاقها على صنعها في مصر، جمع حمِي وزراءَه وشاورَهم في الأمر فاتفقوا جميعا على مشتراها من أوروبا،.. فماذا ترى؟

 صمت المعلم غالي صمتا استرعى انتباه الدفتردار، وقال متندرا:

- ليت لك شجاعة في الحديث تماثل تجرُّئِك على التفنن في جباية الأموال، ألا فالويل للصامتين حول العروش فهم أوائل من يهيئون الهلاك لساداتهم بتخاذلهم عن النصيحة..

هناك شعر غالي بأنه يفقد مثابته لدى سيده بالسكوت، بين مطرقة وسندان ألفى نفسه، تحدث يقول:

- تسليح الجيش بالعتاد المستورد خطيئة ستدفع أثمانها الدولة، الصحيح أن نصنع السلاح بأنفسنا لنستوفي بابين من الخير: الاعتماد على النفس وانتفاع الصُّنَّاع، وتوفير النفقات.

- لن يسعنا إلا صناعة بعض الأسلحة الخفيفة إذن.

- الغدارة المصرية الخفيفة خير من المدفع المستورد.

أَثْنَى الدفتردار على رجاحة رأيه ووعده بأن يبثه للباشا حين يزوره زيارته السنوية، فعاد غالي يقول:

- فإذا أطلعته على هذا الرأي فلا تخبره بأني صاحبه..

وابتسم الدفتردار فتشجع غالي على قول المزيد:

- إنني اقترح كذاك شق قناة بين بحر الروم وبين بحر العرب، تصل بنا إلى العالم وتصل العالم بنا.

- هذا شأن مطروح منذ قديم ولكن تمويله عسير، ولعلنا نحتاج فيه إلى أوروبا.

وفزع غالي يقول:

- إياكم والاعتماد على الأجانب في مسألة تزكي أطماعهم بمعاودة التدخل في شؤون هذا القُطْر، وتُهَيِّئَ لهم ذريعة لِدَسِّ الأنوف فتَضُرَّ من حيث يُراد منها النفع، وفي المجمل فإن رأيِي في القناة هو مثل رأيِي في السلاح..

هناك اقترب الدفتردار من غالي يقول كأنما انجَلَت في خاطره لحظة صدق بعد لجاج الحديث:

- لماذا تركت الباشا وجئت إلى هنا؟ كان أولى بنصحك مني..

تمخض السؤال الصادق عن جواب صدق، قال غالي:

- يوم طاف بي الجاويشية سمعت عاميا يقول: مولاي محمد علي شعلة تنير لنا، ولكن الاقتراب منها يحرقنا، هرب العامي يومذاك من موكب الجنود، وتركت الصعيد بعد تفكير في حديثه، سبقني جرجس الجوهري إلى قبلي، فإذا شهدت له بالفضل على العداوة المعروفة بيننا لقلت: إنه مخضرم ويحدس بالخطر، أعرف عنه أنه باشر أمور الحكومة في أربعة عهود، واحتكَّ بحكام تباينوا في العادات وفي الدين.

وإن هي إلا أشهر قلائل حتى ترامى إلى المعلم غالي نبأ هلاك منافسه جرجس الجوهري في ليلة من أواخر ليالي شهر شعبان، دعا له غالي بالمغفرة وتناسى له لجاجة الخلاف، وقال الناس إن جرجس لم تلازمه العلل إلا بُعَيْد أن هَمَّش الحاكمُ دوره، وقد حَطَّت خسارته في المنافسة على منصب كبير المباشرين بقدره أمام نفسه حتى هانت عليه الحياة، وكان غالي يُبَرِّئ نفسه من وزر التعجيل بقضاء الرجل فيقول:"ما قتله إلا شرب الدخان.."، لقد عجب غالي حين طفرت منه دمعة على جرجس الذي تنيح (مات) قبل الأوان، فهل رأى فيه صورة نفسه؟ لقد استحضر في مخياله الصور واستبد به الحزن حتى لم يرَ من سيرة خصمه إلا المحاسن، فهذا جرجس أفندي في حياته يوزع على الأعيان في رمضان الشموع العسلية والسكر والأرز والكساوي واللبن، يجاور في جلسته الصدر الأعظم خسرو محمد باشا وشريف أفندي الدفتردار، وله في حارتي الونديك والأزبكية بيوت قائمة، وهو اليوم في دار البقاء،.. فماذا بَقِيَ ويبقى من السير إلا أثرٌ كالكافور أو كالكِير؟ وبم تنفع اليوم الدور وقد خَلَتْ من أصحابها؟ وتذكر غالي حديث أخيه فرنسيس يوم ودعه وهو يحمل القنديل بخطى حثيثة يسارع إليه، إنه يقول:

- فإذا شقت عليك أحوال الدنيا هناك فاقْصِدْ إلى كنيسة السيدة العذراء، مزار الأقباط الأول بعد دير المحرق، هناك كانت المغارة التي اختبأ فيها الطفل يسوع وأمه السيدة مريم البتول ثلاثة أيام هربا من بطش الرومان.

تهرب غالي من مشاغل العمل مع الدفتردار إذن، وقصد إلى الضفة الشرقية لنهر النيل، حيث دير جبل الطير، عملا بنصيحة أخيه، وجد الرهبان يستقبلونه فانحنى منهم واحد لمساعد الباشا المعروف، قبل أن يوبخه الأسقف بالقول:

- ألا بئس الوزر الذي تقع فيه حين تُحْنِي جبهتك لسارق أقوات الشعب! هذه جبهة المؤمن لا تنحني إلا للرب.

اقترب غالي من الرجلين في تحفظ كان مجللا بالضعف متهافت الشعور:

- هلا علمني كهنة الرب صلاته المحمودة عنده؟ لا تُسِيئا بيَ الظن اعتمادا على ما تسمعان عني من منثور القول، ثلاثة أرباع ما يتردد على ألسنة العوام هو الباطل، ولقد راسلت قبل أشهر الحَبْر الروماني الجليل بيوس..

واستوحشا حديثه وسؤاله حقا فنظرا إليه عَجَبًا، وطرح الأسقف السؤال يجيب به عن السؤال:

- راسلت الحَبْر الجليل ولا تعرف كيف تصلي؟

- هذه شعائر الرب يتعلمها المرء منكم، نيافة الحَبْر الجليل، وأما الإيمان فراسِخٌ في القلب قبل الشعيرة، وخلف سحائب الأوزار تومض لمعته الملهمة، لقد راسله أخي فرنسيس نيابة عني، قال كأنه على لساني، وحين قرأت خطابه قلت: بل هو على لساني.

تطلع إليه الأسقف معجبا لأول مرة، قال:

- تتحدث جيدا مع أن سيرتك من سيرة الشيطان.

- ظُلْمًا نسبوا إليَّ كثيرا من الزور..

- لاجرم أن بعضَ ما نسبوه إليكَ صحيح.

- قربي من السلطان يجعلني حياله بلا قرار، هذا مما جارت عليَّ الأقدار به،  نيافة الحَبْر الـ..

وقاطعه الأسقف يقول:

- حسنا، حسنا، فلتلحق بي.

سار به الأسقف صحبة كاهنين شابين حتى بلغ به مشارف مغارة الجبل، وقال:

- طيور البوقيرس المهاجرة كانت تأتي سنويا إلى الجبل، تستقرُّ على سفحه، وتنقر بمنقارها في صدعه، ولهذا سمي بجبل الطير.

وولجا - الأسقف وغالي- إلى المغارة فيما بقي الكاهنان عند المدخل بإيعاز من الأسقف، وهناك هتف غالي مذهولا:

- إلهي! ههنا اختبأت العذراء في رحلتها المقدسة؟

- فلتحدثها إذن بما في نفسك ولا تخجل، فليس على أبواب الصالحين ينبغي أن يخجل نادم من إنابة..

ارتبك غالي وبدا أن جلال اللحظة قد أنساه وجود الأسقف فعرج بحديثه إلى من لا يُرى:

- ماذا أقول لكِ سيدتي وصحائفي ممتلئة بشواهد السوء؟ إني عَشَّارٌ وجامع مُكوس ولكن في صحراء قلبي زهرة خضراء، وينابيع ثلاثة: دوس وطوبيا وباسليوس، أيتها العذراء توسطي لي عند الرب، بحق جلال سيرتك توسطي لي عند عتبته، وخُصِّي بالعناية الصغير باسليوس، وليكن في السماء مباركا محمودا، ولقد تركته في المحروسة قبل أن يمر على ميلاده أربعون يوما، تركته في سلته الخيزرانية مع أمه كتورة عائز الحيلة غض الإهاب، لو رأيته لرأيت في وجهه الصبوح نور الرب الذي تعرفينه، ولأشفقت على والده المسكين من إشفاقك على نجله، ليتني كنت خادما في معبدك الجليل، سيدتي، فلا آثم أبدا، جاع الناس في المحروسة لسبب نَهَمِ عزيز مصر لا لسببي، غالي بن سيرجيوس ليس إلا حامل مبخرة، خبزنا الذي للغد، أعطنا اليوم، أبناؤك لم يعودوا يجدون اللحم في الأسواق، إنهم يُهَرِّبُون مواشيَهم في الأرياف عند الفجر، شق عليهم أن يعثروا على التبغ بعد أن أمر مولاي بتجميع تجار التمباك في حارة واحدة، كانت هذه واحدة من حماقاته الكثر وزَلَّاته التي لا تَجِد عليها حسيبا، ولئن صارحتك بالحقيقة قلت: لقد زينت له بعض حماقاته هذه وقد كانت حماقات تدور في رأسه تكفيه،.. إنها وقبل كل شيء عاقبة استهانته بميزان العدالة، ذاك الذي يمسك الرب كفتيه بين راحتيه، ولئن مال الميزان فقدت إيماني بالرب وبكِ، سيدتي، وإني لأجد نفسي اليوم متأرجحا بين الوهن والهوان، وبين الريبة والإيمان،..ارفعي عنهم الألم الذي رفعته من قبل عن بؤساء الأوربيين إبان المجاعة الكبرى وعن فاطمي الشدة المستنصرية، وعن تعساء كل حقبة من الأحقاب، واغفري لي ما تورطت فيه، الرحمة، سيدتي، الرحمة.

وساد صمت خيل في إبانه لغالي أن طيور البوقيرس قد عادت تطوف في فلك الجبل وهذه شقشقتها المباركة تترامى إلى مسامعه المرهقة، ومضيا -الأسقف وغالي - عائدين إلى باب المغارة، هناك أمسك الأسقف بقميص غالي حتى استرعى تصرفه انتباه الكاهنين الواقفين، قال له غاضبا:

- غدا وحين تعود، حدث الباشا بالحق كما حدثت العذراء.

 

   اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات

**

ظلت كلمات الأسقف تتردد في عقل المعلم غالي حتى شق عليه أمرها، لم يتخلف الرجل عن التردد على مغارة الجبل رأس كل أسبوع، وظل يستأخر فرص السفر إلى المحروسة كأنه يتهرب من امتحان الضمير، لا يرى الوالي النصيحة إلا "تدخلا في شؤون وضمائر الآخرين"، إن إقناعه بما لم يبيت عليه النية أمر عسير دونه خرط القتاد، فأنَّى له أن يُفاتِحه بما يريد؟ وفيما اعتورت غالي الحيرة راسل الرجل زوجه كاترينا في الشمال، تخشى المرأة هذه الأوراق التي تُرسل إليها مجهولةَ المصدر، وعليها إمضاء الدفتردار:"بلغ حضرة أفندينا ما فعله الأقباط من ظلم الملتزمين والجور عليهم في فائضهم، فلم يَرْضَ بذلك، والحال أنكم تحضرون بعد أربعة أيام وتحاسبوا على فائضكم وتقبضونه، فإن أفندينا لا يرضى الظلم"، ويجيبها غالي بأن هذه الأوراق يفرح بها المغفلون الذين يعتقدون في صحتها، إنه يسألها كذلك أن ترسل إليه باسليوس بعد أن ترك لأمينه وخازنداره المعلم سمعان مهمة اصطحاب الطفل من المحروسة، إنه يريد من الصغير أن يلج معه مغارة الجبل، لأن الرب لن يبارك الصغير حقا إذا لم يحضر بنفسه إلى هناك، ولأنه سمع العذراء تجيب تضرعاته وتطلب منه هذا الطلب، وظنت كاترينا أن بعلها قد فقد عقله في الجنوب، وراسلته المرأة في هذا الشأن تقول:"ما من مقام هو أسعد لباسليوس من أحضان أمه، إنه لا يزال يرى الأشياء الصغيرة كبيرة، وإني لأخشى عليه أوبئة الجنوب.."، وكانت المرأة تخشى على وليدها من رياح الخماسين التي تَهُبُّ في ذاك الوقت بلون ضارب إلى الحمرة من قبلي، وكانت هذه هي الرياح التي يتعذر على المرء التنفس حين هبوبها بضباب من العثير (الغبار الناعم) حتى يلم به ألم عام، وضعف يتناول أعضاءه، غير أنها قدرت بعد شد وجذب لسفر باسليوس موعدا أعقب الاعتدال الربيعي مكرهة، بعد أن هدد غالي غير مرة في رسائله إليها بإلقاء نفسه من قمة جبل الطير إذا المرأة لم تفعل، وقد رأى في المنام طيور البوقيرس وهي تنقر صدع فؤاده، لقد حدثها أيضا عن خلو الجنوب من الجذام الذي يصاب به الناس في الشمال، لسبب غير مفهوم.

 

وفي أعقاب الاعتدال الربيعي وانقضاء الهبة الخمسينية؛ حضر إلى قبلي المعلم سمعان ومعه الصغير باسليوس، طرب قلب غالي حين رؤيته لصغيره الذي شب عن طوق المهد إلى طور الطفولة، إنه اليوم لذو عامين اثنين، يمشي في فضول كبير دون وعي عميق، شكر غالي لأمينه سمعان جهده في السفر وأمانته في تنفيذ الطلب وهرع بطفله إلى مغارة جبل الطير، هذه المرة شعر بشوق شديد إلى مناجاة القديسين، وساوَرَتْهُ لهفة ماسَّة إلى عطف الرب، قدم غالي وليده باسليوس محمولا على يده وهو يدلف إلى مغارة الجبل وحده في خطوات متثاقلة متثائبة، وهتف يقول:

- ها قد جئت بمن أردتم! بمن سيغفر لي جبايتي للأموال ويشفع لي كل مثلبة! ألا هل وهبتموه بركتكم جزاء حسن سعيي وانتفاء صفحته من العيوب؟

وهبط كيما يمسح جبين الصغير بالتراب الذي ترك أثره على الجبين، ولم يَطُلْ بغالي الوقتُ كثيرا قبل أن يجد كاهِنَيْ الأسقف وقد جاءَاهُ في ذعر عظيم وبكاء مر يقول أولهما له:

- ثمة من يتربص بكَ من الأهالي، لقد قتلوا أبانا الأسقف لأنهم ظنوه أنتَ..

وهال غالي ما سمع وأمر سمعان بإخفاء باسليوس والعودة به إلى الديار:
- عُدْ به مثلما جئت.

كان الذعر قد انتقل إلى سمعان فقال:

- أخشى الإخفاق في حمايته..

نظر غالي إلى جبهة الصغير التي اقترنت بتراب المغارة فكأن بها ضياء وافر البهاء عظيم السطوع، وقال في يقين:

- لن يمسه سوء، لقد نال اليوم عناية الرب وتبريكه.

وكان هذا يقينًا لم يبلغ شغاف قلب المعلم سمعان حقا، ولكنه بث في نفسه شعورا بابتعاد المسؤولية من ساحته واتصالها إلى واحة سماوية علوية، فشد هذا من أزره وربط على فؤاده، ومضى سمعان هربًا إلى المحروسة ولكنه كان قد عزم على أن يبلغ الدفتردار بمحنة غالي في الجبل أولا، وكاد يلحق الكاهنان به، لولا أن رأيا غالي لا يبارح موضعه بالمغارة فسألاه عن المسوغ في اضطراب، وقال:

- إنني آمِنٌ في مغارة الرب من أيديهم..

- لو كان لامرئ أمان في هذه الدنيا لكان لأبينا الأسقف الحق فيه قبل غيره، هَلُمَّ، ولا تغامر بحياتك.

ولم يستمع غالي لحديث الكاهِنَيْنِ اللَّذَيْنِ ما لبثا أن فرا أول سماعهما لنداء المتربصين، ووجده المتربصون يصلي في المغارة فانتظروه حتى انتهى، ورمقوه هُزُؤًا وازدراءً، وقالوا:

- لن تنفعك ألف صلاة، فاليوم هلاكك..

وقال الآخر وقد استأثرت به نزعة الثأر:

- ليس قبل أن يأكل من اللحم الذي يأكله العوام في مصر، وأن يشرب التبغ الذي يشربونه!

ساق الأهالي غالي إلى بيت في الأرياف وأقعدوه على كرسي متهالك وربطوه، ودار الصِبْيَةُ حوله في دوائر، واختلف الرجال في تحديد مصيره، وجاءوا له بلحم المواشي المهربة كي يطعم منه فاستنكف، وقال في نزعة واطئة:

- لا يطعم السادة من طعام الأرذال إلا أن تميل الأرض..

وزادوا له الكأس حين جاءوا له بتبغ ممزوج بالجبس فأبى، وحدثوه عما وقع من احتكار النشوق وإلزام الأهلين بشرائه، ثم احتكار النطرون وإلزام القرى بأخذ كميات معينة منه، وجعل يصرخ فيهم:

- أيتها العذراء، خلصيني من شرورهم، واحفظيني من عيونهم.

كان سمعان قد اتصل بالدفتردار وأعلمه بما وقع لكبير كَتَبَتِهِ، فجاء بِجُوقة من الجنود إلى البيت، واسترشدوا حتى وصلوا إلى المعلم غالي الذي كان لا يزال يهتف مستنجدا بالصالحين، لقد سئم الأهالي منه فأرادوا قتل "النصراني الذي يسرق قوت أولادهم"، وجعل غالي يقول وقد استرد شيئا من هيامه الوجداني:

- ليت الوحوش تزداد نَهَمًا، فإن أسنانها ليست إلا كرَحًى: إن طحنت القمح لا تُفْنِيه بل تُصَيِّرُه دقيقا، فلتسحقني لأصير قرصًا نقيًا مُعَدًّا للسماء! بهذا سمعت الأسقف المغدور بأيديكم يقول نقلا على لسان القديس إغناطيوس الأنطاكى.

هناك اقتحمت جُوقة الدفتردار الدار وخلصوه، وانفض الأهالي من حوله دون مقاومة، وهذا الدفتردار يجتمع إليه بعد هدوء الأمور فيلاغيه متندرا:

- وكيف كان تبغ الأهالي؟

وأجابه غالي في حزن:

- ليس أسوأ من نظراتهم التي رأيت فيها الكراهية.

وواساه الدفتردار وقد شعر بما في حديثه الأول من مجافاة لحالة مُحَدِّثِهِ الوجدانية يقول:

- لا تبتئس، فلا كرامة لنبي في وطنه.

يعرف غالي العبارة الإنجيلية، وأجاب الرجل في حنق نأى به قليلا عما درج عليه من توقير سيده:

- لست نبيا كي أتعزى بالاصطفاء الرباني وأتسرى به عن ألوان الأذى الأرضي.

ووجم الدفتردار من حديث الرجل وإن لم يعاتبه، بل ترقق يقول:

- أرى في عينيك أسى غائرًا، فماذا يبقيك في الجنوب؟

- سمعت أبي سيرجيوس يقول بأن الأقباط الأقحاح هم أهل قبلي، من أهل المذهب اليعقوبي، لأن أنسابهم حُفظت صريحة من تداخل الأعراق، وصِينت مع عاداتهم وأخلاقهم السحنة المعروفة منذ قديم الزمن،.. كان أبي من وجهاء أقباط مديرية قنا، وقد ولد في فرشوط، إنه القائل كذلك: ولنا (أي للأقباط) سيماء معروف من انسحاب الجبهة، وسعة العينين في سواد، واتجاه الجفنين من أسفل إلى أعلى، ومن الداخل إلى الخارج، ونتوء الخدين في ضخامة، وارتفاع صيوان الأُذُنَيْن، وانبطاح الأنف انبطاحا خفيفا، وغِلَظ الشفتين في ارتفاع، وعَرْض الذِّقْن، واسوداد الشعر، ونحافة الجسم، وميل بشرتنا إلى الكدرة،.. فلتسمع لي سيدي: لقد وجدت نفسي في مغارة الرب، ووَدِدتُّ المعيشة بين أبناء جلدتي، من أصحاب هذه الأوصاف التي وجدت نفسي مطبوعا عليها، بمنأى عن السلطان، أهبه التدبير من مبعدة وأتقي شره في سلام.

ونهض الدفتردار نحوه يقول:

- أقباط الجنوب ليسوا جماعة مخصوصة عن عموم المصريين، إنكم اليوم تتحدثون العربية وأما لغة الأجداد فلا تدرون عنها شيئا،..هل تدري أن من قتل الأسقف من الأهالي الغاضبين عليك كانوا نفرا من القبط أيضا؟

وازْوَرَّ غالي عنه قائلًا:

- ما عادوا قبطا إذا هم فعلوا..

ثم وهو يضع وجهه بين كفيه:

- أدميت قلبي، سيدي، وليس فيه متسع..

ونظر إليه الدفتردار في عمق وهو يقول:

- فلتسمع لي: لقد نجح اقتراحك بتصنيع الغدارات المصرية الخفيفة، ستجد اليوم لك في القصر قدم صدق، وإكبار شكر، ولسان حمد،.. وسأزودك بما يدفع عنك السوء..

زوَّده الدفتردار يومذاك بكتاب منه للباشا يمدح فيه نصحه وسعيه في فتح أبواب تحصيل الأموال للخزينة، وأنه ابتكر أشياء وحسابات يتحصل منها مقادير وافرة من المال، فقابله الباشا يوم عودته إلى المحروسة بالرضا بعد عام من نفيه الاختياري بالصعيد وأثنى عليه، ومن ثم اتخذه كاتبا لسِرِّهِ وخَصَّهُ بمباشرة الأعمال الحسابية التي ابتكرها فكانت يده فوق يد الجميع حتى حكام الأقاليم، وكانت عجلة الحوادث المتسارعة وزهوة الرئاسة المتزايدة قد أَنْسَتَا غالي أحوال أخيه فرنسيس الذي لم يره منذ عودته فتساءل عن أمره، وأجابه القوم بأن أخاه استغل ضعف أبيه سيرجيوس الذي لازمه العجز، وتدهور انتباهه العام، وكذا غيابه في الصعيد ثم انشغاله فيما جد من أمره، وعاد إلى سابق سيرته في قصود بيوت الخواطي، واستحل هناك الحرام فما ترك في كأس الآثام رشفة إلا وشربها، وسمعه القوم أيضا يقول ثملا: "المرأة هدية الرب إلى الرجال،.. لا يمنعها عنه إلا آثم!"، وقد صار تهتُّكُهُ مَضْرِب الأمثال، وكان يسرف في تصوير المفاتن التي يُعجب بها في النساء اليونانيات أو الطلاينيات اللائي كن يعملن بالكراخانات، مثلما يستهين بالرأي الذي يقرر صورة واحدة أو يفرض نمطا محددا للغواية، فإذا بالسامعين حوله بين خَجِلٍ وشَغوف، وبين راغب عن حديثه وراغب فيه،.. أخذ غالي أخاه بالشدة وألحَّ في إجباره على الزواج الذي يعصمه من نزوات الشيطان، ولأن الزواج مكرم عند الجميع والفراش غير دنس، وصد فرنسيس أخاه بداءة وكان يصف نفسه في تقلبه بين النساء كعصفور حر يصطفي أطيب ما في الدَّوْح، فلما لم يجد فرنسيس بُدًّا؛ خلص إلى اصطفاء ابنة خاله وقال:

- فإن كان لا محالة فقطورة ابنة منقورة، اصطفيها من نساء العالمين..

وكان هذا الاختيار لا يحظى بموافقة العائلة البَتَّةَ، وقال غالي له:

- لقد أقمتَ معها قبل الزواج، فكيف تكون شريكتك؟

وأجاب فرنسيس عازما:

- أقمتُ معها لأنني أحبها.

- لقد أقمتَ مع كثيرات مثلها، باشرتهن بعدها وقبلها، يتعذر أن أقنع بأن الحب قد نال منك في مرات هي بعددهن،.. تريث ولا تقلب جمرات أحقاد العائلة.

وتولى عنه فرنسيس يقول:

- لقد نسيتهن جميعا وتذكرتها،.. ألم يقولوا بأن قوة الإنسان فيما يتذكره؟

- إن خدعت بهذا غيرك فلن تخدع به أخاك.

وولاه ظهره يقول:

- إذا ذرني وما أنا فيه..

وجذب غالي في شدة قميص أخيه حتى اهترأ نسيجه وهو يقول :

- ما أنت فيه هو العار.

والتفت فرنسيس إلى أخيه وقد وعى ما أحدثه في هندامه من ضرر:

- في دارك نيف وستون جارية بيضاء وسوداء وحبشية وتتحدث عن العار؟

- أقسم أنني تركتهن منذ أنجبتْ لي كاترينا مولودها الأخير، ذلك أني استعنت بضياء بسمة باسليوس على عثرات نفسي الواطئة، كذلك يجب أن تفعل.

وأمام تصميم فرنسيس ارتأى غالي أن يزوجه بابنة خاله الحسناء قطورة ابنة منقورة، وسايره في مراده مع ما كان يتوقع أن يجره هذا القرار من مشكلات عائلية جمة، لأنه - أي غالي - ارتأى فيه أهون الضررين بمنع أخيه عن حياة المجون، جهز غالي لأخيه بيتا ميسورا، يقوم المرمر فيه مقام البلاط، وتبلط مناظره بالقاشاني، وفي وسطه حوض ينبثق منه الماء الفوار، وفي الحجرات العليا أحواض من هذا القبيل ذات نوافير، ثم إن له -  إلى ذاك كله - حديقتين غَنَّاءَيْنِ مزهرتين معشوشبتين، وصحنين، وأنشأها دارا عظيمة، وزَخْرَفها، وجَعَل فيها بُستانا ومقاعد مفروشة بالرخام الملوَّن وفساقي وزجاج بلُّور، واستعرض غالي هذا التصميم الغربي للمقام بتجواله فيه مع أخيه وقطورة، يقول:

- آثرته على النمط الإسلامبولي في المعمار، وهو مزيج من النمط اليوناني الفاسد والنمط الغربي الذي لا رائد له من الذوق السليم.

وظل غالي مدة يصور لأخيه فرنسيس ولعروسه قطورة ما تحلت به هندسة البيت البنائية من رسوم ظريفة، وزخارف جميلة، وتراكيب منسقة، وألوان زاهية، حتى إذا وعى أنه أسرف في تصوير هديته على نحو قد يجرح كبرياء الممنوح قال لفرنسيس:

- آمل أن يدفعك بهاء المقام إلى الاستقرار فيه، وإلى هجرة بيوت الخواطي هجرانا لا انتكاس بعده، وآمل كذاك أن تجد في قطورة ضالَّتك التي تغنيك عن الساقطات مثلما وجدتها أنا في كتورة..

وقالت قطورة التي تعطرت وتزينت كأنها الشاعرة بمسؤوليتها عن شيء من الوارد في حديث غالي:

- إنني أعدك أن أبذل وسعي، سيد غالي، ذلك أن رجلا وجد المرأة المناسبة لم يعد بوسع ألف غانية أن تزين له، فهناك يكون ود العشرة فوق غواية الرغبة.

وأومأ غالي برأسه مستحسنا حتى مالت طاقيته، وجعل يستحضر شيئا من مستقبل هذه الزيجة القلقة، ولأول مرة يجد في شيخوخة أبيه سيرجيوس منفعة، كان الأخير يمقت آل قطورة مقتا كان ليدفعه حتما إلى صد فرنسيس عنها، أخذ غالي يرقب هذه المراسم الخافتة للزواج السري، وكانت قطورة تمضي بطول الحديقتين حذو الزهور حتى بلغت مبلغ الحوض، هناك يقف زوجها فرنسيس، ولما اطمأن غالي إلى سعادتهما مضى منصرفا وهو يتمتم:

- فليبتهج أيضا أولئك الذين دخلوا إلى الزواج من أجل إنجاب البنين وليس من أجل الانغماس..


 اقرأ أيضاً : 

 

 

 

 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق